الشارع المغاربي -كريمة السعداوي طُرحت يوم أمس الثلاثاء 1 سبتمبر 2020 لأول مرة بشكل رسمي منذ سنة 2016 مسألة ملائمة السياسة النقدية مع مقتضيات التسيير الاقتصادي حيث تحدث رئيس الحكومة المكلف هشام المشيشي في هذا الخصوص خلال جلسة منح الثقة وفي سياق طرحه مقاربته المتعلقة بتعبئة فعالة لموارد الدولة بما يعني اقتراضها مباشرة من البنك المركزي دون المرور بالضرورة بالمنظومة البنكية.
ومن المؤكد أن المسألة في غاية الأهمية إذ انه من الواضح أن قائم ديون الدولة لدى البنوك والذي يناهز نحو 14 مليار دينار في شكل رقاع خزينة قابلة للتنظير وأخرى قصيرة المدى أصبح على غرار الديون الخارجية غير قابل هو الآخر للتحمل وذلك أساسا لارتفاع نسبة فائدته إلى أكثر من 9 بالمائة سنويا.
وتعتبر تونس من أول البلدان النامية التي أسست بنكا مركزيا فجر الاستقلال في 19 سبتمبر 1958، كمؤسّسة عمومية تتمتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي تكريسا للسيادة النقدية الوطنية مما بوأ تونس مكانة خاصة على المستويين الإقليمي والدولي إذ أن مجموعة مهمة من الدول الإفريقية، على سبيل المثال، لا تمتلك إلى اليوم بنوكا مركزية.
غير أنه تمت اضاعة هذا المكسب سنة 2016 بمقتضى قانون دفع باتجاه ما جرت تسميته باستقلاليّة البنك المركزي، حيث اعفي من دوره في حماية العملة الوطنية من تقلبات الصرف وتمويل الخزينة عبر الإقراض وذلك لفائدة البنوك التي غدت تحقق أرباحا طائلة من العملية. وشهدت البلاد موجة غير مسبوقة من ارتفاع للأسعار، كما انهارت السيولة وازدادت نسب الفائدة الأساسية من 4 إلى نحو 8 % دون اعتبار هوامش أرباح المؤسسات المالية مما أطاح بعشرات الآلاف من المستثمرين والمؤسسات التي أصبحت عاجزة عن تسديد ديونها وأحال أكثر من نصف مليون أسرة إلى دوامة التداين المقيت.
وتؤكد منذ مدة جل تقييمات الخبراء والمتخصصين في مناهج السياسة النقدية والمتابعين للشأن الاقتصادي الوطني على غرار ما يستعد المشيشي للذهاب اليه أن تحديد موقع السياسة النقدية يجب أن يتم بالاستناد إلى دورها في الديناميكية الاقتصادية الكلية والجزئية باعتبارها مجموعة الإجراءات التي تستخدم بغرض التأثير على العرض النقدي بطريقة ما من خلال تبني نصوص وترتيبات معينة للغرض في سياق التوسع أو الانكماش بغية تحقيق أهداف محددة بصفة عامة.
ومن المؤكد أن تونس عرفت أشكالا من المقاربات، في هذا الصدد، لا سيما خلال العقدين الماضيين قد تكون أحد أهم أسباب الاختلال الاقتصادي الداخلي والخارجي، إلى جانب متغيرات متعددة بحكم ارتباطها بمشاكل مختلفة عانتها البلاد ولا تزال من بينها البطالة والتضخم وتقلب سعر صرف الدينار مقابل العملات العالمية المرجعية فضلا عن تشتت جهود البنوك والمؤسسات المالية وضعف مردود أصولها (1.3%) وأموالها الذاتية (4.5%).
على هذا الأساس وضع المشيشي يوم امس إصبعه على موطن مؤلم في سياقات تسيير الشأن المالي للبلاد يصعب التصرف فيه بسهولة خارج موافقة الهيئات المالية الدولية التي أملته وهو إشكال عدم تناسق السياستين النقدية والاقتصادية المطروح منذ 2016 وذلك من أجل تحقيق الاستقرار الداخلي، حيث لم تستخدم، في هذا الميدان، إحدى أهم الآليات لامتصاص فائض القوى الشرائية في سوق السلع والخدمات وذلك عن طريق استقطابه في شكل نواتج إيداع و ادخار على النحو الأمثل. وتجدر الإشارة إلى العجز المسجل أيضا في ما يهم التأثير على سعر صرف العملة الوطنية بالقدر الذي يقلل من حدة العجز في ميزان المدفوعات ولتحقيق التوسع الاقتصادي بتعزيز الإنتاج قصد مجابهة الاختلال بين التيارين النقدي والسلعي.
ومن هنا يتضح أنه لم تعد للسياسة النقدية الوطنية أية نجاعة واضحة باعتبار غياب إجراءات وتدابير يتخذها البنك المركزي لمحاولة تجسيم التسيير للمعروض النقدي المتداول من خلال استخدام أدوات وقنوات إبلاغ أو مسارات إلى كافة القطاعات الاقتصادية، سواء تعلق الأمر بمعالجة الاختلال الظرفي أو تحسين الأوضاع والمؤشرات التي تدل على مستوى تطور الواقع الاقتصادي وبالتالي محاولة الحفاظ عليها عند حدودها المعيارية.
كما أن السلطة النقدية لم تقم بمساع تذكر، على هذا الأساس، لبلوغ الأهداف العامة أو النهائية التي ترمي إلى تحقيقها دوما السياسة الاقتصادية العامة، وذلك نظرا لاعتبارها أدوات من الوسائل الظرفية. غير أن بلوغ الأهداف المشار إليها لا يتأتّى إلا من خلال المرور بأهداف وسيطة قد تختلف حسب خصوصيات الأوضاع لعدة اعتبارات. واستهدفت السياسة النقدية في البلاد بشكل شبه حصري وبالدرجة الأولى التأثير على حجم النقد المتداول وتطوير الاحتياطي من العملة وسعر صرف الدينار اصطناعيا دون البحث عن المجالات الفعلية لضمان التكامل القطاعي والتجاري، بقسميه المرتبطين بالمعادلة داخليا و خارجيا.