الشارع المغاربي-حاورته عواطف البلدي: عقل مستنير يخوض معارك ثقافية. مفكّر يشتغل بالبحوث الجدية المتعلقة بتحديث الفكر الإسلامي بما يتناغم ومقتضيات الحداثة رافعا معاول النقد لتراث يمجدّه البعض الى حد التقديس. في كتابه ”البداهات الزائفة”الصادر مؤخرا عن ”دار محمد علي الحامي للنشر” بحث عن السبل الكفيلة التي تساعد مسلم اليوم على التخلص من تلك البداهات.
”الشارع المغاربي” التقى رئيس بيت الحكمة السابق الدكتور عبد المجيد الشرفي للحديث عن كتابه ”البداهات الزائفة” وعن موقفه مما يحدث بغزة والراهن السياسي بتونس وعن حال الفكر والمفكرين.
أيّ البداهات أشد زيفا وأكثرها عنفا على العقل البشري وعلى المجتمع العربي الاسلامي؟
لا أظن انه ثمة بداهة أخطر من غيرها وحتى البداهات التي ذكرت هي نماذج وهناك غيرها. المشكلة تتعلق بمنظومة فكرية كاملة وهذه المنظومة موروثة في الحقيقة عن فترات الانحطاط الحضاري ولا نجد لها نفس الجذور في فترة ازدهار الحضارة العربية. لذلك ما نبهت اليه هو فقط ان نتجنب النظرة التقليدية الى الامور وان نكون دائما مستعدين لاعادة النظر في ما ورثنا .. هذا هو الهدف من هذا الكتيّب لأن هذه البداهات.. طبعا اطلعت على الكتاب وتعرفين ان به عددا من البداهات لست اعرف ما هو رد فعل القارئ حولها ولكن بالنسبة لي ليس هناك ترتيب معين في الافضلية وفي الخطورة كلها ..
لكن يبدو ان ما سميتَها بداهة ”الاسلام دين الدولة” تبدو ربما اكثر نقدا اليوم ؟
الاسلام دين الدولة ظاهرة حديثة لم تكن موجودة في الاسلام قبل ظهور الاخوان المسلمين بصفة خاصة ولهذا ليست مثلا كتعدد الزوجات ولا كتحريم الخمر ولا كالقضايا المتعلقة بالارث الخ.. ولهذه جذور في التاريخ اعمق بكثير من ربط الدين بالدولة مثلما بيّن ابن خلدون بوضوح منذ قيام الخلافة الاموية حيث اصبح الحكم ملكا دنيويا والمسلمون عاشوا في هذا النطاق اي لم يكونوا يعتبرون ان للخليفة العباسي مثلا سلطة تشريعية بينما كان هذا معترفا به لعمر بن الخطاب مثلا .
اعتمدت في دراساتك حول الإسلام والبنى الفكرية، المنهج التاريخي والسياقي وخلصت إلى نتائج أربكت الثوابت والسواكن وهذا ما أثار حفيظة من يدعون التجديد في الفكر الديني أو من انخرط في هوس هووي. وها أنت تواصل زعزعة البديهيات ووضعها موضع مساءلة. هل ترى في هذا الكتاب تتويجا لمسار نقدي كامل ؟
لي احتراز على ما يتعلق بالتجديد انا لم ادع يوما إلى تجديد الفكر الإسلامي لان الفكر الإسلامي فيه ما هو قديم زمنيا تاريخيا ولكنه مازال صالحا وفيه ما ينبغي تركه. أنا أتحدث دائما عن تحديث الفكر الإسلامي يعني ان يكون هذا الفكر متناغما مع مقتضيات الحداثة من هذه المقتضيات الإقرار بالحرية .. وهذا لم يكن معترفا به في القديم لا عند المسلمين ولا عند غيرهم وهو من منتجات الحداثة أي الظاهرة الحضارية التي نشأت في الغرب وأصبحت الآن كونية. أنا الحّ على مفهوم التحديث لأنني أؤمن بأن عملية التحديث ضرورية وليس منها مفرّ رغم ان الذين انتشر بينهم هذا التحديث ليسوا دائما أوفياء للقيم التي كانت أساس هذه الحضارة.. هذا واضح اليوم ونحن نعيش هذه المفارقة الكبرى بين بلاد حقوق الانسان التي اشتعلت بها الثورة الفرنسية اواخر القرن 18 وممارسة الطبقة السياسية بصفة عامة في تلك البلاد وذلك لأن هناك قوة رأسمالية بالخصوص أصبحت تتحكم في الخيارات السياسية وهذا لم يكن دائما موجودا بهذه الحدة. فالقوى المالية لا تؤمن لا بالحدود ولا بالأديان ولا باللغات وهي متضامنة في ما بينها.. مثال على ذلك في الحرب العالمية الثانية قوات الحلفاء ألقت القنابل على المدن الألمانية التي هي تحت حكم هتلر وكانت معامل كروب الشهيرة معامل للصناعة الحربية يستفيد منها هتلر ورغم ذلك فان الطائرات الأمريكية لم تلق عليها قنبلة واحدة لأن رأس المال الامريكي مساهم في شركة كروب… هذا انموذج لكن ما نعيشه اليوم هو هذا التضامن الكبير في الغرب بين رؤوس الأموال الذي يهمّش الحياة السياسة والفكرية ويصل به الامر الى مستوى لم يكن متوقعا البتة كأن يتم منع قنوات تلفزية معادية وهذا ما حصل بداية الحرب بين روسيا وأوكرانيا حيث أصبحت القنوات الروسية ممنوعة في بعض بلدان اوروبا الغربية .. الأمر لم يكن متوقعا أي ليس فيه اعتراف بقيمة الفرد وبأنه يستطيع ان يميّز بنفسه .. رأس المال هو الذي اصبح يتحكم. اذن بقطع النظر عن مدى وفاء الذين أتوا بهذه القيم ولا يحترمونها نؤمن نحن بهذه القيم الحديثة. وفي اعتقادي ان ما يحصل في غزة هو من باب هذا الايمان بهذه القيم الحديثة أي أن الفلسطينيين لم يخنعوا ولم يقبلوا بالامر الواقع وكأنه قدر محتوم وإنما يناضلون في سبيل هذه القيمة الاساسية التي هي الحرية لهذا قلت ان لي احترازا على التجديد وأفضل التحديث..
اذن هل ترى في هذا الكتاب تتويجا لمسار نقدي كامل ؟
تتويج.. لا.. انا عنونت الفصول التي نشرت في مناسبات مختلفة بـ»لبنات» عمدا باعتبار ان هذه المساهمات النقدية أو غير نقدية تحليلية تاريخية الخ انما هي مساهمات متواضعة ولذلك فإن التتويج لا يمكن ان يأتي من شخص واحد. ويمكن الحديث عن تتويج إذا تغير الفكر الاسلامي المعاصر انذاك يمكن ان نتحدث عما يمكن ان يتوّج هذه ”اللبنات” او المحاولات او هذه الجهود التي أبذلها انا وغيري لتحديث الفكر الاسلامي…
هذه الجرأة في كتابك ”البداهات الزائفة” يجب أن تصحبها جرأة في نقد الراهن بعيدا عن الشعبوية وما فيها من مزايدات. أعتقد أنك لم تركب مركب عدد غير قليل من المثقفين في الدفاع عن القضية الفلسطينية انخراطا منهم في منطق دفاعي يستبطنون فيه مسايرة العامة تملقا ومسايرة. ما رأيك؟
في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية بينت في مداخلة بجامعة منوبة سبتمبر 2022 التحولات التي حصلت في الفكر اليهودي والتي أدت إلى انتشار الصهيونية وهذا الفكر الصهيوني او هذه الايديولوجيا الصهيونية لم تكن موجودة في القديم عند اتباع الدين اليهودي وهي ايديولوجيا زيفت التاريخ في ما يتعلق بالعلاقة بالأرض وخاصة بأرض فلسطين . ثمة محاولات في الشرق وفي الغرب لإعادة النظر في هذا التاريخ القديم وأذكر محاولات المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند الذي كتب كتابين هامين هما ”كيف اختُرِع الشعب اليهودي؟” و”كيف اختُرِعت أرض إسرائيل؟ .” إذن إسرائيل هي اختراع وليس له أي أساس تاريخي وحتى في العالم العربي الإسلامي ثمة محاولات لإعادة النظر في ما هو متداول انطلاقا من النصوص القديمة، بغض النظر عن قيمة هذه المحاولات انا لا أحكم على أنها صحيحة أو خاطئة .. وأذكر على سبيل المثال أطروحة المؤرخ اللبناني كمال الصليبي ”التوراة جاءت من جزيرة العرب” وهناك عدة كتب للباحث العراقي الفاضل الربيعي الذي يحسن العبرية واللغات القديمة وقام ببحوث في اليمن. كتب ”اسرائيل المتخيَّلة” وعدة كتب اخرى لاعادة النظر في هذه الموضوع. ولهذا الباحث الذي لديه هاجس نقدي لا يسلّم بكل ما يقرأ فقط. وأن ينطبق موقفه على القديم والحديث وعلى تراثه وتراث الاخرين بنفس الدرجة ليس من باب تفضيل السنة على الشيعة او الشيعة على الخوارج وما الى ذلك…. انا لا أؤمن بالنسبية المطلقة في هذه الامور التي تنحدر الى نسبوية ولهذا فالموقف من القضية الفلسطينية انما ينطلق من قراءة لهذا الواقع الذي نعيش وانا دافعت في تلك المداخلة عن فكرة اعرف ان كثيرين لا يشاطرونها ولكني اعتقد انها صحيحة وهي ان من بين اسباب تأييد الغرب الكيان الصهيوني أن الغربيين ورثوا النظرة المسيحية التي تعتبر ان اليهود قاتِلو الرب .. هم قتلوا اليسوع لذلك اطردهم المسيحيون من الاندلس وقاموا تجاههم بأعمال وحشية عبر التاريخ سواء في الحرب العالمية الثانية او في اوروبا الشرقية بولونيا وبلاروسيا وغيرهما في ما يعرف بـ»البوغروم» الذي تناوله الأدب التاريخي وهذه حقائق السبب فيها اذن هو هذا الكره لليهود. ورغم ابتعاد الغربيين المحتكمين عن الايمان المسيحي التقليدي فإن لديهم رواسب في العقلية الغربية ولذلك فليذهب اليهود الى فلسطين او الى الجحيم المهم ألاّ يبقوا بيننا.. هذه قراءتي لبعد من ابعاد القضية التي يعيشها الفلسطينيون اليوم والى جانب القضايا الجغراسياسية ومصلحة بريطانيا اولا ثم ما ورثته بريطانيا وما ورثته عنها الولايات المتحدة. ولعلك سمعت بايدن يقول ”لو لم تكن اسرائيل موجودة لأوجدناها” وهذا يدل على ان وظيفتها بالاساس هي حماية مصالح امريكا مثلما يتصورها الامريكيون ولكن ما هو جدير بالاهتمام هو التغير الذي يحصل تحت اعيننا اليوم في الراي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية. بدأ ذلك باحتشام في المركبات الجامعية الامريكية وكان اليهود الصهاينة واتباعهم متخوفين من هذا الانحياز للفلسطينيين والابتعاد عن الايديولوجيا الصهيونية التي كانت سائدة في المركبات الجامعية الامريكية في هافارد وغيرها باعتبار أن خرّيجي هذه الجامعات هم ساسة الغد .. الان اصبحت اغلبية الشعب الامريكي حسب استطلاعات الرأي مناصرة للقضية الفلسطينية وما حدث مؤخرا من محاولة اقتحام الحزب الديمقراطي الذي هو تقليديا يؤيد اسرائيل اكبر دليل على هذا التغيير والفضل في ذلك يعود الى وسائل الاتصال الجماهيري لأن الاعلام في الغرب كله في قبضة رؤوس الاموال اذن هو متضامن مع اسرائيل مثلما هو متضامن ضد مصالح ما يسمى بالجنوب اليوم.. ما أراه انا هو أنّ وظيفتي ووظيفة زملائي ليس الصياح والانسياق وراء شعارات ايديولوجية وشعبوية المهم هو النظر في عمق هذه الاحداث..
ما رأيك في مواقف بعض المثقفين التي بدت للبعض ”مستفزة” ولآخرين ”صادمة” مما يحدث في غزة على غرار تصريح حمّادي الرديسي لأحدى الاذاعات الفرنسية؟
أعتقد أن حمادي الرديسي مظلوم لأنني اطلعت على استجوابه في نسخته الأصلية وليس فيه ما نسب إليه. اعتقد ان موقف حمادي الرديسي كان متوازنا.. ربما ضخّم أبعادا من السلوك لا تستحق ذلك مثل مسألة القرب الجغرافي من سفارة فرنسا بتونس .. هو موجود ولكنه ليس الاساس.. انا لا اوافقه في كل ما قال ولكنّي اعتقد انه ظُلِم في الحملة التي شنت عليه.. هو لم يؤيد البتة الموقف الاسرائيلي ولم يدعُ الى اعتباره متواطئا مع الموقف الصهيوني وهذا هو الاساس..
وماذا عن مواقف الفة يوسف التي بدت للبعض مستفزة بداية عملية ”طوفان الاقصى”؟
لم اطلع على موقف الفة يوسف في الحقيقة ولكن مبدئيا احترز على كثير مما تقول وتكتب ألفة يوسف. وكتابها ”ناقصات عقل ودين” كاف في الاستدلال على هذا الموقف الذي ليس له اساس عقلاني البتة..
وكتابها الأخير ”حبيبات الله”؟
ربما هو حب الظهور الذي يطغى على ألفة بصفة لاشعورية فتستفز بمثل هذه المواقف.. لا محالة للفكر دائما تأثير لكن الواقع هو أكثر صلابة من المواقف الفكرية.
وكيف تنظر لمسارها الفكري في السنوات الأخيرة ولهذا الانغماس في الجانب الروحاني؟
لا أستغربه .. لا يعني ذلك انني اوافقها ولكن ارى في مواقفها نوعا من البراءة التي لا يُسمح بها للباحث.. لنكن متسامحين في هذه النقطة. صحيح أن ألفة تلميذتي ولكنّي أؤمن بمسؤولية الباحث او الباحثة مهما كان التأثير الذي يلقاه او تلقاه من زيد او من عمرو. ينبغي ان يكون هو المسؤول الاول والاخير.. وقد كنت دائما وابدا أؤكد لطلبتي على الحرية في الرأي وهم ليسوا مطالبين بأن يكرّروا ما قلت أو حتى يساندوه..
على من تطمئن أكثر اليوم من طلبتك في ما يتعلق بالمسارين الاكاديمي والبحثي؟
أنا أسجّل بكل ارتياح أن عددا من طلبتي يمارسون هذا الفكر النقدي بنجاح كل في اختصاصه .. ما تكتبه ناجية الوريمي مثلا وليست الوحيدة و منسجم تماما مع مواقفي وامتداد لها في الحقيقة . كذلك ما كتبه المنصف بن عبد الجليل ومحمد حمزة وحافظ قويعة وبسام الجمل ونايلة السليني وآمال قرامي الخ.. كل في ميدانه يبذل جهودا محمودة ولا أظن انه ينبغي ترتيبهم… أذكّرك بما قلت في البداية عندما طرحت عليّ سؤال التتويج. قلت لك انها عملية طويلة الامد ليست مرتبطة بشخص أو بأشخاص وإنما يتم تتويجها عندما تتغير الأفكار في المجتمع وتغيير الذهنية المجتمعية أصعب بكثير من تغيير المادة. تستطيع ان تبني بسرعة بناية شاهقة او جسرا او طريقا او معملا ولكن أن تغير ذهنيات مجتمعات كاملة فهذا يتطلب وقتا..
هل تعتقد وأنت الذي تتلمذ على يديك جيل رفع معاول النقد لتراث يمجده البعض حد التقديس أن هزيمتنا في جزء كبير هزيمة حضارية تعود إلى سوء ترتيب البيت الإسلامي؟
لنكن واضحين حضارتنا الاسلامية انتهت تاريخيا وعوضتها حضارة اخرى تسمى ”الحداثة” نشأت في الغرب وأصبحت الان كونية.. يتحدثون الان عن ”ما بعد الحداثة” وأنا لا أؤمن بها. الحضارة الاسلامية هي حضارة تاريخية انتهت بصفتها حضارة. لا يعني ذلك ان الفكر الذي أنتجته لم يعد صالحا. هي منجزات حضارية أثّرت في الحضارة التي أتت بعدها مثلما هو الشأن من استِفادة الحضارة الاسلامية من الحضارات التي سبقتها كالحضارات الاشورية والفرعونية واليونانية والرومانية الخ…
طيّب كيف نسترد هذا الزخم الحضاري؟
أعتقد أن واجبنا هو الاسهام الايجابي في الحضارة الحديثة المبنية على العلم والتقنية وهذه الحضارة ليست كلها جيدة ومفيدة للبشرية وانما فيها ما هو خطر على الوجود البشري كله. فإذا كنا نسهم فيه فإذّاك نستطيع ان نؤثر ولكننا الان على هامشها. كانت للصين حضارة عريقة والان لم تسترد حضارتها القديمة وانما انخرطت في الحداثة منذ ثمانينات القرن الماضي واليوم اصبحت تسهم في هذه الحداثة بطريقتها الخاصة لأنها تشارك فيها. أما اذا كنت على الهامش فلن تستطيع.. كم عدد براءات الاختراع الذي يسجلها العرب؟ كم عدد البراءات التي كان يسجلها الصينيون قبل الثمانينات ويسجلونها اليوم؟ هذه هي الحضارة الحديثة.. الان رغم مقاطعة الولايات المتحدة لشركات الهواتف المحمولة الصينية فإن الصين تفوّقت في بعض النواحي على التكنولوجيا الغربية..
قد يشكّل قولك بانتهاء الحضارة الاسلامية صدمة لدى البعض من العرب…
ربّما ولكن هذا رأيي وألحّ من ناحية اخرى على أن تجاوز الحضارة الحديثة للحضارة الاسلامية لا يعني أنها عديمة التأثير. السلبي والايجابي موجودان الى الى اليوم و”البداهات الزائفة” التي ذكرتُ هي من مخلفات الجوانب السلبية في هذه الحضارة لكن فيها أيضا منجزات مادية ومعنوية ستبقى خالدة لا يمكن أن ننكرها لهذا لا بد من التمييز بين الحضارة بما هي كل شامل وبين ما هي عناصر بعضها مأخوذ مما قبلها وبعضها ما أنتجته هي وبعضها ما سيواصل الحياة في أية حضارة أخرى تأتي بعدها. فعندما نتحدث عن الحضارة بهذه الطريقة هي مجمل الانجازات الفكرية والمادية والمعنوية ولا نأخذ جانبا واحدا منها… شخصيا أوافق على أن ثمة انحطاط أخلاقي في هذه الحضارة المادية المعاصرة.
كان سؤالك – الهاجس والخيط الناظم لبحثك: ما هو الإسلام)كتاب الإسلام والحداثة ص(12 والكيفية التي يؤول بها المسلم القيم الدينية والنصوص المعبرة عن تلك القيم على ضوء وطأة الحداثة … فما مدى تطور الخطاب الإسلامي في مجالات العقيدة والتفسير والحديث والفقه ؟
الواقع المعيش يتطور وربما هذا التطور غير معترف به لكنه موجود وهي سنة الحياة. من مظاهر التطور في الفكر وفي الممارسة اليومية بالمجتمع أن كثيرين من كانوا مواظبين على صلاة الجمعة أصبحوا لا يريدون الذهاب لأدائها نظرا الى مستوى الخطب التي تلقى بالجوامع .. ثمة تطور ولكنه غير ملحوظ دائما وغير معترف به. رسميا متى يظهر؟ عندما يتكرّس في نصوص قانونية في ما يتعلق مثلا بمسألة الإرث.. حين يصدر قانون يكرّس هذا التغيّر يمكن ان يلاحَظ ويصبح مُعترَف به …
ما هي المشاكل التي تطرحها الحداثة على الضمير الإسلامي باعتباره شرطا لمخرجات العديد من المسلّمات ومواجهة مجموعة من التحديات ؟
كل ما يغادر النظم الدينية التي يؤمن بها الناس اليوم في الاسلام وفي غيره من الاديان ظهر في ظرف تاريخي سابق للحداثة. ومن الطبيعي ان تجد هذه النظم صعوبة في التأقلم مع قيم جديدة تكمن في ان يجد المؤمن بتلك الاديان مسلكا للتوفيق بين جوهر الدين والايمان الذي يعتقده ومقتضيات المجتمع الحديث.. هذه هي الصعوبة وهي ليست إسلامية فقط وانما يهودية ومسيحية وبوذية وهي موجودة بالاديان التقليدية والكبرى بصفة عامة .. وقد ظهرت في زمن اخر مخالف في تصوره للكون وفي نظرته الى الحياة وفي المعطيات المتوفرة لديه عن هذه الحياة … في هذا السياق بالذات قمت هذه السنة بترجمة كتاب من تأليف الدكتور رفيق بو خريص بعنوان ”الحياة والديناميكا الحرارية” . ترجمته لأن علماء الكلام في القديم كانوا يخصصون جزءا وافرا من مؤلفاتهم لما يسمى ”دقيق الكلام” اضافة الى ”جليل الكلام” الذي يتعلق بالتوحيد والنبوّة ومسائل اخرى.. بينما يتعلق”دقيق الكلام” بالحركة والسكون والقوانين الطبيعية وهم كانوا يوظفونه لفائدة جليل الكلام. ما حصل هو ان المعلومات التي كانت موجودة في دقيق الكلام عند المسلمين لم تعد صالحة وتجاوزها العلم الحديث . تجاوزتها الديناميكا الحرارية والنظريات النسبية وكل النظريات العلمية الحديثة. إذن كيف يمكن توظيف هذه المعرفة العلمية الحديثة ايمانيا واعتقاديا؟ وكتاب الطبيب رفيق بوخريص في نظري هو دعوة الى التفكير في هذه القضية.
ونحن نتحدّث عن النهايات، نهاية الحضارة ونهاية بعض الايديولوجيات… هل انتهى الإسلام السياسي ؟
الإسلام السياسي مرتبط بالسياسة الدولية أكثر مما هو مرتبط بالأوضاع الداخلية والآن سيبقى في تصوري ظاهرة هامشية في المجتمعات الاسلامية هامشية جدا ولا تمثل المجتمع.. الخطر الذي كان يمثله الاسلام السياسي انتهى لأنه كان في فترة معينة يحتل وسط الميدان… اليوم هو على الهامش … هو ظاهرة هامشية مثل كل الظواهر الهامشية في المجتمع سواء كانت يمينية او يسارية . فأيّ مجتمع يحتاج الى من هو تقليدي يؤمن بضرورة التقليد ويحتاج أيضا الى من يكفر في كل ما هو موجود ويريد تجديد كل شيء .. هذه الظاهرة لم تعد موجودة في البلدان الاسلامية كلها ولا تحتل وسط الميدان الا بالقوة مثلما هو الشأن بإيران .
ثمة من يرى أن نهاية الاسلام السياسي في تونس «مؤقتة» بسبب سجن الغنوشي فحسب؟
عندما وقف الغنوشي وهو رئيس البرلمان ينتظر النصرة من اتباعه ولم يأتوا كان ذلك كافيا للدلالة على ان التأثير الذي كان لهذه الحركة هو في الحقيقة تأثير ظاهري وليس عميقا في المجتمع التونسي .. عبّرت عنه مظاهرات ”اعتصام الرحيل بباردو” صيف 2013 والتعداد الذي قامت به الاقمار الصناعية عندما رصت 700 ألف تونسي كاف في اعتقادي. اثر ذلك مباشرة حاولت النهضة ان تجيّش انصارها فسخّرت الحافلات وكل الوسائل للتجمع في القصبة ورغم كل الامكانات التي ضُخّت في ذلك لم يجتمع سوى 50 ألفا. هذا يدل على الوزن الحقيقي للحركة. منذ البداية قلت انها ستبقى هامشية وقد كانت كذلك قبل ان يضخّمها الاعلام والسياسة.. لم أغير موقفي الان لأن الحركة مشلولة ولكني كنت أعرف منذ البداية انها لا تمثل الشعب التونسي..
كيف تنظر الى الوضع السياسي الحالي بتونس؟
يتميّز بحكم فردي. وقد عبّرت عن ذلك سابقا وقلت إن الحكم الفردي يؤدي دائما الى مأزق أو إلى انفجار. أخشى ذلك على كل حال. سواء كان زيد او عمرو على رأس هذا الحكم الفردي الذي يمارسه لا يمكن أن ينجح على المدى المتوسط لا على المدى الطويل فقط. ربما ينجح اليوم لكن لا يمكن ان ينجح على المدى المتوسط او البعيد.
انفجار؟! كيف؟
لا أحد يعرف ولا أحد يمكنه التكهّن بطريقة التغيير.. ربما مثلما حصل بالغابون.. لكن لا يمكن أن يستمر الحكم الفردي في بلاد تضم 12 مليون شخص. لنكن صرحاء: ما هي تمثيلية البرلمان اليوم عندما يشارك في الانتخابات 8 أو 10 أو حتى% 20 ؟ ليست لديه تمثيلية. وما قيمة دستور يصادق عليه % 13 ؟ هذه أيضا من الامور البديهية (…).
ونحن موجودان بفضاء بيت الحكمة لا يمكنني إجراء هذا الحوار دون سؤالك عن شؤون البيت وإدارتها الجديدة من بعدك.. ثمة لوم في كواليس المجْمَع لشخصك بسبب تشجيعك أو ربما مساندتك القوية لترشح رئيس بيت الحكمة الحالي؟
الذين ينظرون إلى المسألة بهذه الطريقة لا يعرفون حقيقة ما يجري لأن الرئيس الحالي فاز طبقا لانتخابات.. فعندما كنت رئيس البيت كنت محايدا ونظمت تلك الانتخابات ونتائجها افرزت في ما بعد نجاح شخص وإخفاق آخر.. أين مسؤوليتي هنا؟ هي مسؤولية جماعية وليست مسؤوليتي وحدي..
يتحدثون أيضا عن قضايا مرفوعة بالمحكمة وعن سوء تسيير إداري وعن غياب رؤية علمية وفكرية واضحة وعن مستوى ندوات لا يليق بقيمة البيت وبتاريخه… ما تعليقك؟
يوم أتممت مهمتي على رأس بيت الحكمة قررت الا أتدخل في تسييرها لأن هذه مسؤولية الرئيس ومسؤولية الهياكل العلمية الموجودة في بيت الحكمة. اذا كان لي موقف فإنني أعبر عنه في الجلسة العامة. ولكن بالتجربة اعرف جيدا ان التسيير ليس سهلا . والمسؤول دائما يكون عرضة للنقد. وهذا النقد قد يكون احيانا صحيحا وقد يكون غير صحيح .
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 28 نوفمبر 2023