الشارع المغاربي – الحبيب القيزاني : يوم الخميس 27 جوان الماضي أعلنت رئاسة الجمهوريّة عن نقل الرئيس الباجي قائد السبسي الى المستشفى العسكري اثر اصابته بوعكة وصفتها بـ”الحادة” بعد وعكة أولى تعرّض لها قبل أيام ومرّت بسلام. وبقطع النظر عما حدث في كواليس السلطة خلال ساعات ما بات يعرف بـ”الخميس الأسود” أو “المجنون” وفق توصيفات راجت في الكواليس فإنّ اعلان رئاسة الجمهوريّة عن مرض الرئيس يؤشّر في حدّ ذاته عن انتقال في ما يسمى بـ “ثقافة الحكم” بتونس بعدما ظلّ هذا الموضوع طيلة عقود مثلما هو شأن أغلب دول العالم من المحرّمات التي تستوجب التكتّم باعتباره سرّا من أسرار الدولة.
تضمّن دستور الجمهوريّة الثانية 4 فصول هي الفصل 83 والفصل 84 والفصل 85 والفصل 86 يتعلّق جميعها بشغور وقتي او شغور نهائي في منصب الرئاسة وضبط اجراءات سدّ الشغور وصلاحيات القائم بمهام الرئيس كالآتي:
الشغور الوقتي: رئيس الحكومة يحل محل رئيس الجمهورية
الفصل 83: لرئيس الجمهورية إذا تعذر عليه القيام بمهامه بصفة وقتية أن يفوّض سلطاته الى رئيس الحكومة لمدة لا تزيد عن 30 يوما قابلة للتجديد مرة واحدة، ويعلم رئيس الجمهورية رئيس مجلس نواب الشعب بتفويضه المؤقت لسلطاته.
الفصل 84: عند الشغور الوقتي لمنصب رئيس الجمهورية لأسباب تحول دون تفويض سلطاته، تجتمع المحكمة الدستورية فورا وتقرر الشغور الوقتي، فيحل رئيس الحكومة محل رئيس الجمهورية، ولا يمكن أن تتجاوز مدة الشغور الوقتي ستين يوما.
الشغور النهائي: رئيس مجلس نواب الشعب يتولى رئاسة الجمهورية
إذا تجاوز الشغور الوقتي مدة ستين يوما أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة الى رئيس المحكمة الدستورية أو في حالة الوفاة أو العجز الدائم أو لأي سبب آخر من أسباب الشغور النهائي تجتمع المحكمة الدستورية فورا وتقر الشغور النهائي وتبلغ ذلك الى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يوما.
الفصل 85: في حالة الشغور النهائي يؤدي القائم بمهام رئيس الجمهورية اليمين الدستورية أمام مجلس نواب الشعب وعند الاقتضاء امام مكتبه أو امام المحكمة الدستورية.
صلاحيات القائم بمهام رئيس الجمهورية في حالتي الشغور
الفصل 86: يمارس القائم بمهام رئيس الجمهورية خلال الشغور الوقتي أو النهائي، المهام الرئاسية ولا يحق له المبادرة باقتراح التعديل الدستور أو اللجوء الى الاستفتاء أو حل مجلس نواب الشعب.
وخلال المدة الرئاسية الوقتية ينتخب رئيس جمهورية جديد لمدة رئاسية كاملة كما لا يمكن تقديم لائحة لوم ضد الحكومة.
ورغم غياب المحكمة الدستوريّة باعتبارها المخوّل لها قانونا اقرار حالتي الشغور الوقتي أو النهائي بما يطرح اشكالا اجرائيا من حيث تطبيق صريح للنص الدستوري فانّ الاعلان عن مرض رئيس الجمهورية في حد ذاته دليل على صحة الديمقراطية التونسية الناشئة وانخراطها في تمشّ شفاف في ما يتعلّق بصحّة ومدارك الرئيس على غرار الديمقراطيات العريقة في العالم. فقوانين العديد من دول العالم تنصّ على اجراء فحوصات دوريّة واعلان التقارير للرأي العام ومع ذلك تتشبث مراكز القوى برذيلة التكتم على صحة صاحب أعلى منصب في البلاد، والتاريخ يحفل بمثل هذه الحالات لعلّ آخرها نوبات الارتجاف التي أصابت المستشارة الالمانية انغيلا ميركل منذ أيام. ورغم أنّ ذلك طرح في الصحافة الألمانية والعالمية تساؤلات حول حقيقة الوضع الصحي للمستشارة فان حزبها اكد أنه “لا يتناول مسألة نوبات الارتجاف هذه داخل صفوفه” الشيء الذي دفع صحيفة “أكسل سبرينغر” الى اعتبار ان ذلك يمثل “موضوعا محرّما داخل حزب المستشارة”.
والحقيقة أن التعتيم على صحة الرؤساء يفتح الباب أمام تخمينات تفرض سؤالا جوهريّا هو: من اذن يحكم فعلا ومن له مصلحة في التكتم على حقيقة الوضع الصحي للمسؤول الأوّل عن البلاد؟ ومثل هذه الاسئلة لا تطرح اليوم في تونس أو في ألمانيا فقط. ففي الولايات المتحدة تبقى حالة الرئيس دونالد ترامب محلّ متابعة لصيقة من وسائل الاعلام. وفي فرنسا أسالت رئاسات جورج بومبيدو وفرنسوا ميتران حبرا كثيرا بعد رواج أخبار عن مرضهما وهما في قصر الايليزي.
ويروى الاكاديمي الفرنسي جوان غيتون أن الرئيس الراحل فرنسوا ميتران زاره في بيته قبل ان يغادر قصر الايليزي بأشهر وأنّه بعد ان استراح أمامه قليلا قال له :” انك مختص في العلاقات بين الزمن والابدية … لقد قرأت لك كثيرا … ولأني أشعر برهبة وخوف من الموت منذ شبابي فقد جئت اليك لأسألك ما هو الموت … وماذا يوجد بعد الموت؟ “.
ويضيف غيتون أنه شرح للرئيس ما يعرف عن الموت ملاحظا أن جوابه لم يُرو فضول ميتران وحيرته وانه عاد يسأله بإلحاح: “والمابعد … ماذا بعد الموت ؟” وانه أجابه:” ولكن سيدي الرئيس انني لا أعرف أكثر منك في هذا الموضوع”.
وتابع غيتون :” لم يعجب جوابي ميتران فقال لي :وكيف ذلك؟ انك لا تموت ومع ذلك انت لا تعرف؟” مضيفا :” عند ذلك شعرت أن جواب الرئيس هزّني كثيرا ورأيت أمامي رجلا يعيش ظروف صعبة. فهو يرغب أن يكون رئيسا للجمهوريّة الى آخر مدى ليؤدي مهامه حتى آخر يوم من الشرعية الدستورية رغم المرض… كان ايضا لا يريد أن يعترف بمرضه لأنه كان يصرّ على رئاسة فرنسا بأي ثمن”.
مغزى كلام غيتون أن السلطة لا تعترف بالموت وان صراع الموت يطيل حياة السياسيين … ويشهد التاريخ أن بورقيبة ومن قبله روزفلت وهتلر وستالين وخروتشوف وبريجنيف وجمال عبد الناصر ورونالد ريغن تستّروا على مرضهم طويلا لأنّهم لا يريدون الاعتراف بالهزيمة امام الموت خاصة اذا كان يعلمون ان ثمة صراع في كواليس القصر على خلافتهم … لذلك غالبا ما تراهم “يعودون الى الحياة” اثر كل أزمة صحية بعدما تكون تراتيب جنازتهم قد تمت … وقد كان ذلك حال الجنرال فرانكو في اسبانيا وكسياوبنغ في الصين وبومدين في الجزائر وحاليا بوتفليقة ….
في فرنسا كما في ألمانيا واعتمادا على مبدإ السرّ الطبي لا يوجد أي التزام قانوني يجبر الرؤساء على الكشف عن حالاتهم الصحيّة. وقد ذكّر ايمانويل ماكرون بذلك مباشرة بعدما دخل قصر الايليزي عندما قال :” سأطبق على نفسي حقا اعترف به لكل الفرنسيين هو التمتع بالسرّ الطبي. ولكنني مع ذلك لن أتردد في الاعلام عن كل ما من شأنه النيل من قدرتي على قيادة البلاد”.
وبكلامه هذا يشير ماكرون الى قاعدة دستوريّة تثير الكثير من الجدل في فرنسا هي ان الدستور ينصّ على أنه في حالة حدوث أي عائق او مانع صحي لنشاط رئيس الجمهوريّة ينوبه مؤقتا رئيس مجلس الشيوخ. ولكن لا يوجد أي نص دستوري يضبط بشكل واضح هذه الحالة وخصوصا شروط تعرض رئيس الجمهوريّة بصفة ملموسة لمانع يعوقه عن اداء مهامه. وفي هذا الصدد يطالب العديد من رجال القانون في فرنسا بوجوب خضوع رئيس الجمهوريّة لفحوصات طبيّة دوريّة مع اعلام المجلس الدستوري في حالة رصد مشكل صحي خطير بينما يعتبر البعض الآخر ان على الرئيس أن يقرر بكل أمانة وصدق متى لم يعد قادرا على الاضطلاع بمهامه.
وعلى عكس فرنسا والمانيا تحتل الشفافية في أمريكا على الاقل حسب ما يبدو أعلى درجات الفضائل السياسية إذ لا يوجد قانون يجبر الرئيس على نشر تقارير طبية دوريّة حول صحته ولكن التقاليد الجاري بها العمل تتطلب ذلك.
وطبقا لذلك ينشر الرئيس ترامب سنويّا تقريرا مفصّلا عن وضعه الصحي. وقد أقرّ اطباؤه في عام 2018 انّ كلّ المؤشرات الصحية “خضراء” ما عدا وزنه. ومن قبله عرف الامريكان أنّ رئيسهم جيمي كارتر كان يعاني من بواسير وأنّ جورج بوش الاب كان مصابا بتكيّس منذ كان عمره 14 سنة.
ولا يختلف الامر في بريطانيا ومازال اعتراف توني بلير عام 2004 بمعاناته من مشاكل قلبيّة عالقا في الاذهان.
ومهما يكن وسواء تعلّق الامر بتونس او بغيرها من الدول يبقى التطرق الى موضوع صحّة الرئيس قلعة صعبة الاقتحام بما يلقي بظلال حول شفافيّة ممارسة السلطة ومدى تشبّثه بها حتى لو كان المرض ينخر جسده. فأيّ معنى للسرّ الطبي عندما يتعلّق الامر بحياة شعب ومصيره زمن السلم كما في زمن الحرب؟. سؤال يفرض على واضعي الدساتير والساسة الالتزام بحدّ أدنى من الشفافيّة واقرارها بإجراءات قانونيّة ودستوريّة لا لبس فيها ولا مكان معها للتأويلات.
ألم يقل الاديب الانقليزي – البولوني- جوزيف كونراد :” هناك ظلام اكثر سوادا من ظلام الليل هو بلا شك ظلام السلطة”؟.