الشارع المغاربي : لا حصر للزوايا التي يمكن أن تختارها لقراءة نتائج التشريعيات كما قدّمتها مراكز سبر الأراء أو لما بدأ يتسرّب من المراكز بعد الفرز من نتائج وأرقام ومعطيات. يمكن أن تقلّب النتائج الأوّلية أو رسالة التونسيين يمنة ويسرة وتستخلص دروسا وعبر كما تشاء وهي دروس تهمّ الجميع: طبقة سياسية سواء أحزابا أو جبهات أو شخصيات، ناخبون ومواطنون سواء صوّتوا أو تخلّفوا، قوى صاعدة بتلويناتها المتناقضة و أخرى بصدد التلاشي والانقراض…في النهاية وفي محصّلة مهمّة “لرسالة الأحد”: عاقب التونسيون الأحزاب الحاكمة وفتحوا في الأثناء الأبواب أمام المجهول !.
لو حاولنا في قراءة أولى لرسالة التونسيين ووفق زاوية نظر تكتفي بتفكيك دلالات الأرقام الأوّلية التي تهمّ الائتلاف الحاكم (تحيا تونس والنهضة والمشروع) وترصد دواعي العزوف النسبي للتونسيين في الذهاب للتصويت ومآلات كلّ ذلك على مستقبل العملية السياسية، سنصل بالضرورة إلى استنتاجات أوّلية هي بمثابة خلاصات لرسالة “الصندوق. وأوّل سطور “الرسالة” تفيد بأنّ حزب تحيا تونس ورغم أنّه حزب حاكم وماسك بالقصبة و “ولد كبيرا” كما ادّعى مؤسّسوه، ورغم توظيفه امكانات الدولة قبل “الحملة” وأثناءها فإنّه قد اكتفى بمرتبة سابعة بنسبة 4 فاصل 7 بالمائة من مجموع أصوات الناخبين. عوقب حزب تحيا تونس من المصوّتين الذين كانوا في حدود الـ40 بالمائة من الناخبين المرسّمين، ولم يقنع الـ60 بالمائة من العازفين الذين لم يصوّتوا واختاروا معاقبة الجميع بمن فيهم طبعا “حزب الشاهد” المسؤول الأبرز حسب تقديرنا عن “لطخة” الرئاسيات في جولتها الأولى، والمسؤول خاصّة عن حالة التشظي والتفتّت الذي تعاني منه اليوم “العائلة الحداثية الوسطية” بسبب تماهيه الكبير مع النهضة إلى حد الإمّحاء وبسبب تخريب “المشروع التاريخي” النداء والغدر بزعيمه الراحل بالتزامن مع تخريب مواز للإبن الهارب وبطانته المقرّبة. للتذكير فقط، نشير إلى أنّ حزب تحيا تونس أعلن إبّان تأسيسه أنّه يعمل على الفوز بأكثر من 109 مقاعد لتنفيذ برنامجه ! ، وها هو اليوم يحتفي بـ14 مقعدا ويسوّق الأمر على أنّه نصر مبين !! .
في المقابل وبالتزامن مع “احتفالات” تحيا تونس، يسجد الغنوشي لربّه شاكرا تدحرج الحركة من 89 مقعدا سنة 2011 إلى 68 في 2014 وصولا إلى 52 اليوم !، ويعلن مباشرة بعد التهليل والتكبير من بعض القيادات وجمع من القواعد والمناصرين الأقربين وبعد التأكّد من المعطيات التي وصلته أنّ النهضة “حقّقت نجاحا لا غبار عليه”، وأنّه “من المكابرة إنكار هذا الفوز” !. ثمّ يستدرك “نقدّر أنّ هناك معارضين لنا ونحترمهم وغياب الأحزاب المعارضة غياب للديمقراطية” وبذلك يكون الغنوشي مصيبا في إشارته لغياب الأحزاب المعارضة “لمشروعه” التي اندثرت كنداء تونس، ويكون في نفس الوقت قد وقع في مغالطة أو تمويه خطابي وسياسي.
صحيح أنّ النهضة هي الأولى ولكنّها متراجعة باستمرار وهذا يقلق داخلها وخزّانها الانتخابي ، إضافة إلى أنّها الأولى في غياب توازن سياسي كان قد تحقّق في 2014 ، بمعنى أنّها كانت الأولى في سباق مع أحزاب “صغيرة” أو متوسّطة الحجم في أحسن الأحوال…الحكماء داخل النهضة وهم كثر يعلمون أنّ “رسالة الأحد” ليست بهديّة هذه المرّة بل هو عقاب ثان لها بعد صفعة 2014 ترجم إلى عزوف عن التصويت هذه المرّة لم تغنم منه النهضة سوى كتلة قادمة لا حول ولا قوّة لها.
أمّا مشروع تونس فيكاد يكون قد اختفى من المشهد البرلماني (4 مقاعد)، وتلقّى هزيمة مذلّة تقصيه من السلطة بعد أن كان مروره عابرا على الحكم في توقيت خاطىء وتقدير سياسي متنطّع ومتسرّع كعادة رئيسه، فكانت “لطخته” الأسرع والأشدّ إيلاما.
عوقبوا جميعا دون استثناء: “تحيا” والنهضة و”المشروع” وصفعتهم النتائج بدرجات متفاوتة، انتفض الشعب عليهم “بالصندوق” رغم تسويقهم العبثي بالنصر (النهضة) والصّمود (تحيا تونس)… الصندوق ورّط النهضة وحجّمها لتصبح كتلة متوسّطة تائهة وسط أرخبيل من الكتل الصغيرة و”النواتية” وحرمها من نصر مريح رغم خلوّ مضمار السّباق من العدّائين الكبار !
المستقبل مبني “على المجهول”
كانت رسالة المصوّتين والعازفين أيضا عقابا للأحزاب الحاكمة ولكنّها فتحت في الآن ذاته الأبواب على مصراعيها على المجهول. والمقصود بالمجهول هنا هو السيناريوهات الممكنة التي لا تحصى أمام البرلمان القادم وقدرة الحزب الفائز على تشكيل حكومة في ظلّ حالة التشظّي والتشتّت والتناقضات الحادّة التي تشق القوى الصّاعدة داخله.
يمكن أن يفتح الباب مرّة أخرى على سلوكات ومحاصصات وتوزيع للمغانم والحقائب الوزارية والمواقع نفرها التونسيون ولفظوها.
إذ يمكن أن نرى مثلا، تحالفات “حكم” عجيبة ومفاجئة تعيد استنساخ تجارب رديئة وكريهة سابقة، من قبيل ائتلاف جامع بين النهضة و”تحيا تونس” و”قلب تونس” بعد أن تتمّ “التسويات” والمحاصصات وتوزيع “الرؤوس” على القصبة وقرطاج وباردو. وهو سيناريو مستبعد اليوم ( قلب تونس أعلن أنّه لن يتحالف مع النهضة) ولكنّه يبقى واردا وممكنا إذا ما اعتصمت حركة الشعب والتيّار الديمقراطي بالمعارضة ورفضت التحالف مع النهضة لتشكيل حكومة. حينها “ستختنق” النهضة وتصبح عاجزة حسابيا وسياسيا على إقامة ائتلاف حكومي يجمع جماعة مخلوف بالشاهد والعزّابي ومصطفى بن أحمد، ولن تجد سوى قلب تونس منقذا من الورطة ومحرّرا لها من عبء “ائتلاف الكرامة” وخطابها “الثوري جدا” الذي لا يمكن أن تتحمّله لأسباب “جيوسياسية” يعلمها “الشيخ” جيّدا !
لن تقبل النهضة أن تشرّك في حكمها “رموز” الموجة الثورية” الثانية بعد أن قاست الأمرّين من قيادات “الموجة الأولى” زمن حكم الترويكا، لمّا تمرّد عليها المرزوقي مرّات عديدة وخرج عن جلباب “الشيخ”، وأحرجها بمواقف “مزايدة” ثورية جعلتها في إحراج أمام قواعدها ومناصريها، وانتهى (المرزوقي) بأن أصبح متحدّثا رسميا باسم “شعب النهضة” ومهدّدا لوحدتها وتماسكها. لن يكون “ائتلاف الكرامة” سوى سند داخل البرلمان لتمرير القوانين أو معارضتها، أمّا أن يكون شريكا في الحكم فذلك مدعاة (بالنسبة للنهضة حسب تقديرنا) إلى الانزلاق في مغامرة غير محسوبة العواقب، وعودة إلى مناخات “الترويكا” وكوابيسها التي أضرّت بالنهضة أيضا بسبب تنطّع بعض من قياداتها و”ثورجية” زائدة من حليفها المؤتمر.
ستعجز النهضة عن تشكيل حكومة إذا تمسّك قلب تونس “بمقاطعتها” إلى جانب “حركة الشعب” و”التيّار”، ولن تغامر مع حلفاء “مغامرين” وستجد حينها نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا القبول بحكومة كفاءات غير حزبية تقودها شخصية مستقلّة تحصل على إسناد سياسي ربّما يمتدّ إلى إسناد منظّماتي ( نسخة مكرّرة من “وثيقة قرطاج”) وذلك رفعا للحرج “النهضوي” عن كلّ إكراهات التحالفات الممكنة أو الرضوخ والذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكّرة…في الحالة الأولى ستدخل النهضة مرحلة “الموت السريري”، أمّا في الحالة الثانية فستكون مغامرة نهضوية يمكن أن تؤدّي إلى “حتفها” السياسي، وهي أيضا مغامرة ورحلة وطنية في المجهول واستفحال للأزمة السياسية بعد تراكم الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية.
إنّ كتلة النهضة القادمة والتي ستكون في حدود الخمسين تنقص أو تزيد قليلا، إلى جانب التفتّت والتذرّر الحاصل حولها من القوى الصّاعدة سواء حركة الشعب أو التيّار أو تحيا تونس أو الحزب الدستوري أو ائتلاف الكرامة أو حتى قلب تونس ، سيجعل مستقبل العمليّة السياسية برمّتها أمام المحكّ وأمام مستقبل يمكن أن يهدّد المسار الديمقراطي. سيصبح عسيرا جدا تشكيل حكومة، وحتى في صورة تشكّلها فإنّها ستكون “هشّة” حسابيا ولا يمكن أن تصمد إلّا لأشهر قليلة وربّما لأسابيع قليلة حينها سندخل جميعا دوّامة خطيرة وعطالة في الحكم لن يبقى “الشارع” ساكتا وصامتا أمامها بعد أن انتظر سنوات واستمع لوعود لم يجن منها سوى مزيدا من الفقر والخصاصة والجوع.
نقطة أخيرة، وجبت الإشارة إليها وهي أنّ الحكومة المقبلة (إذا ما كتب لها أن تتشكّل)، ستلقى معضلات عديدة، منها القدرة على الاتفاق على وزارات سيادية كالداخلية أو العدل، وسيتطلّب ذلك ماراطونا من المفاوضات والحوارات والتسويات يمكن أن تنتهي إلى لا شئ. سنعود مرّة أخرى إلى المحاصصة وسياسة “تورّي نورّي”. سيصبح منصب كاتب دولة أو رئيس ديوان خاضع “لقسمة” أساسها المغنم والمصالح الحزبية والفئوية الضيّقة، وسيتسلّل مرّة أخرى المال الفاسد وأصحاب النفوذ والمافيات بعد أن تمدّد وانتشر في جسد الدولة وتمكّن من مفاصلها خلال السنوات الأخيرة.
مؤشّرات ومعطيات “الصندوق” تقول أنّنا جميعا على عتبات أزمة سياسية و”عطالة” برلمانية، وأنّ الحزب الأكثر انتظاما وانضباطا (حركة النهضة) في ورطة حقيقية لن يستفيد منها أحد في هذا السياق الاقتصادي والاجتماعي الوطني الدقيق، وأنّ المأزق أو الأزمة السياسية الحادّة المنتظرة يمكن يدفع الجميع ثمنها باهظا جدا…صبر “العازفين” و”المصوّتين” والصامتين والمهمّشين بدأ ينفد…حذار نحن أمام المجهول..وجانفي على الأبواب…
مقال صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الاخير مع تحيين بعض المعطيات المتعلقة بنتائج الانتخابات التشريعية.