الشارع المغاربي-السيدة سالمية تحتفل تونس يوم غد الاثنين 13 أوت بعيد المرأة وبمرور 62 سنة على صدور مجلة الأحوال الشخصية ، المجلة التي تُعد مفخرة لتونس ، ونقطة مُضيئة في مسيرة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ، وخطوة ثورية غير مسبوقة ليس عربيا فقط وانما أيضا على مستوى أوسع في العالم.
وتلك المجلة ما كانت لترى النور في تلك الفترة وفي تونس الناشئة في محيط عربي واقليمي هش ومحافظ ، لولا وجود بورقيبة على رأس الدولة ، وعلى وقع ما تعيشه البلاد من حالة تجييش على تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة ، وسط استقالة السلطة السياسية وتحولها الى مجرد متابع لانحراف خطير قد يعيد تونس الى مربع العنف، تطرح مقارنات بين السلطة السياسية وقتها وحكام اليوم.
هذه الاستقالة قد تنتفي يوم غد في صورة تقديم رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي موقفا واضحا من التقرير ، من خلال تحويل جزء من مضامينه الى مبادرة تشريعية يتم تمريرها للنقاش في مجلس نواب الشعب ، لذلك وجد الرئيس قائد السبسي نفسه في مقارنة بالزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ، وهناك من يرى انه بعيد عن شجاعة وحزم أول رئيس لتونس بالنظر الى الاختلاف الجوهري في طريقة طرح مجلة الاحوال الشخصية شكلا ومضمونا وتركيبة من صاغها وادار النقاش حولها من جهة وتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة .
ويذهب البعض الى حد تحميل قائد السبسي مسؤولية حالة الانقسام الحاصلة ، لعدة أسباب منها تركيبة لجنة توصف بغير المتوازنة ، وطرح تقريرها دون سند سياسي واضح مما جعلها تواجه رافضيها وحيدة .
ونُعيد اليوم نشر مقتطفات من كتاب احمد المستيري “شهادة للتاريخ”، ونذكر بأنه كان وقت اصدار مجلسة الاحوال الشخصية وزير العدل .وفي شهادته يكشف ،رغم خصومته المعروفة مع بورقيبة، كيفية ظهور المجلة والمراحل التي مرت بها من نقاش ومشاورات وحتى مفاوضات حول مضامينها ، وكيف كان بورقيبة حاسما في فرض فصول منها على غرار منع تعدد الزوجات وكيف قبل باسقاط فصول اخرى على غرار المساواة في الارث في اطار سياسة المراحل المعروف به وتسبيق الأهم على المهم ، لتكون النتيجة الغاء المحاكم الشرعية ومنع تعدد الزوجات وغيرها من مكاسب تُعتبر الى اليوم غير مسبوقة.
وفي ما يلي شهادة المستيري :
«لا شك أننا لم نتمكن من اجتياز كل هذه المراحل والوصول إلى هذه النتيجة ,لولا الظروف السياسية الملائمة في الدّاخل والخارج, وإقدامنا على إصلاح التشريع والنظام القضائي,وكانت الغاية الأساسية للإصلاح,الاستجابة لمقتضيات العصر ولحاجات المجتمع التونسي نفسه,ورغبة الاجيال الصاعدة.
وبالإضافة إلى ذلك فقد ساعدنا هذا التمشي إلى حد كبير في سعينا الحثيث لإزالة القضاء الأجنبي وجعل المواطنين, على اختلاف أديانهم, والمتساكنين على اختلاف أجناسهم, يخضعون للقضاء الوطني الموحّد.
هذا ومن المعلوم ان النظام القضائي القائم حتى سنة 1956، كان يشتمل على خمسة أصناف من المحاكم:المحاكم الفرنسيّة– المحاكم التونسية المدنية– المحاكم الشرعية الإسلامية (بفرعيها المالكي والحنفي)- والمحاكم اليهودية ( مجلس الأحبار ).
وصار من الضروري, مع توحيد القضاء, توحيد التشريع, لاسيما أنّ المحاكم الدينية, لا تحكم بمقتضى فصول قانونية مضبوطة ومعروفة من المتقاضين, إنما تستند إلى مراجع فقهيّة, وكان الأمر موكولا, بقدر كبير, إلى اجتهاد القاضي في اختيار النصّ المنطبق على الصورة المعروضة عليه.
والجدير بالذكر, في هذا الصدد, أن فكرة التقنين (codification) المكتوب الموحّد, بالنسبة إلى المحاكم الشرعية, خصوصا في مادة الأحوال الشخصية, فرضت نفسها منذ زمن. ولقد سبق أن تبنّاها قطب من أقطاب الفقه المالكي في تونس,وأحد المشايخ الأجلاء بالجامع الأعظم «الزيتونة» ألا وهو المرحوم الشيخ عبد العزيز جعيط…
ومع فكرة التقنين المكتوب الموحّد–التي ليست من ابتكارنا كما قلت–خامرتنا فكرة اغتنام فرصة التقنين, لإدخال إصلاحات هامّة على التشريع في مادة الأحوال الشخصية (منع تعدد الزوجات…وجوب عرض الطلاق على القاضي..تحديد سن أدنى للزواج..وجوب موافقة المرأة على الزواج,إلخ..) وهي إصلاحات, في نظرنا, لا تتنافى مع أحكام القرآن والسنّة, ويفرضها تطور المجتمع التونسي …
وعرضت الفكرة على بورقيبة مع مشروع القضاء الشرعي في القضاء المدني الموحد, فقبلها بحماسه المعهود, وألّح بالخصوص على مسألة منع تعدد الزوجات, وكنت شخصيا (مع مستشاري) ميالا, في هذه النقطة, إلى حل وسط, وهو إبقاء إمكانية التعدد مع فرض شروط صعبة التحقيق,إلا أن بورقيبة أصّر على موقفه في المنع الباتّ, وبعد ذلك, كوّنت لجنة لإعداد مشروع «مجلة الأحوال الشخصية»كان من بين أعضائها السادة محمد بن سلامة والشيخ محمد القروي ومحمود العنابي، وهم قضاة سامون ألحقتهم بديواني,فشرعوا في تحرير النصوص, بالتعاون مع الشيخ الفاضل بن عاشور, وهو على اتصال مستمر بوالده ,المصلح الكبير الذائع الصيت,الشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ عبد العزيز جعيط, وقد اتصل بهما بورقيبة واستشارهما مباشرة…
ثم شرعت اللجنة في أعمالها, وأخذت تدرس لائحة «المجلة الشرعية» (التي أعدتها لجنة سابقة كوّنها الشيخ عبد العزيز جعيط سنة 1947). فتبين لنا أن اللائحة لا تستجيب للشروط المطلوبة,شكلا ومضمونا:أولا من حيث الشكل,فهي عبارة عن مجموعة أحكام فقهّية صالحة لتكون مادّة للتعليم والدروس الدينية والبحوث الجامعية,وليست محررة في صيغة بنود قانونية ,ثانيا من حيث المضمون,فهي تحتوي على أحكام بعيدة, كلّ البعد, عن واقع المجتمع التونسي المعاصر؛ وقد تكون أداة صالحة للشرخ في حلقات الدروس, لكنها غير قابلة للتطبيق من طرف القضاة في أغلب الحالات المعروضة عليهم في عصرنا الحاضر. وبالإضافة إلى ذلك – وهذا الأهم– لم نجد في اللائحة المذكورة, من الأحكام الجديدة ,ما يستجيب لأغراض الإصلاح كما نتصوره, إلا النّزر القليل.
لذلك رأينا من الضروري إدخال تحوير شامل على اللائحة وإعادة تحرير العديد من أحكامها في شكل بنود قانونية,باستثناء «باب الإرث» المحرّر طبق المذهب المالكي, فإننا أبقيناه كما هو,في الجملة, لأنه نظام متكامل مستمد من آيات قرآنية صريحة.
هذا, دون الدخول في التفاصيل ,أتعرض في ما يلي إلى ثلاث مسائل أثارت الجدل والنقاش,وأحيانا «التفاوض» بيني انا وبورقيبة من جهة، والمشائخ الطاهر بن عاشور وابنه الفاضل وعبد العزيز جعيط,من جهة أخرى.وكان الشيخ الفاضل, في الغالب,يقوم بدور الوسيط والموفّق.
أولا: منع تعدد الزوجات.كان موقفنا يستند إلى آيات قرآنية صريحة: « إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى, فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع,وإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أ لا تعولوا…» ( النساء:الآية 4), ثمّ«ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم..» ( النساء: الآية 129)… ومع ذلك امتنعنا,في تحرير النص,عن أي عبارة تشير إلى تحريم الزواج بثانية دينيا, أو اعتباره باطلا, بالنسبة للقانون المدني…
إنما اقتصرنا على منع هذا الزّواج واعتباره جنحة يعاقب مرتكبها جزائيّا.
ثانيا: وجوب عرض الطلاق على القاضي في كلّ الصّور, وتمكين الزوجة من ذلك على غرار الزوج, ومنح الغرامة للزوجة في حالة الضرر… مما لا يتنافى مع روح الأحكام الشرعية.
ثالثا: مساهمة الزّوجة في نفقات العائلة إن كان لها مال.»
مقتطفات من كتاب«شهادة للتاريخ» (من ص 104 إلى ص107)