الشارع المغاربي-أنس الشابي: دأب رئيس الجمهورية على الاستشهاد بالنصوص الدينيّة وبأصحابها لإضفاء شرعيّة إضافيّة على خطابه. وقد لفت نظري هذه الأيام أنه استشهد بنصّ للشيخ البشير النيفر وقبله أشاد بالخضر حسين لمّا استقبل حفظة القرآن حيث ذكر أنه أوّل من تحدّث عن الحرية والحال أن محاضرة الشيخ في جمعيّة قدماء الصادقيّة التي ألقاها سنة 1906 لم تكن سوى استنساخا لِما جاء في كتب الفقه القديمة بخصوص الشورى والأموال والأعراض وغيرها ولا علاقة لها بمفهوم الحرية الذي نتداوله اليوم ويقصد به ما للمواطن من حقوق وما عليه من واجبات في مجتمع تحكمه القوانين والانتخابات التي تضمن مشاركة الشعب في الحكم. هذا المعنى مغيّب تماما لدى القدامى واللّبس يحدث عند استعمال المصطلح. فالقدامى يستعملون الحرية مقابل الاستعباد، ولدى المعاصرين ينصرف المعنى إلى الحقوق السياسيّة والاجتماعيّة. والمتأمّل في حصيلة مدونة الشيخ الخضر يلحظ أنه سلفي متطرّف غاية التطرّف. تدلّ على ذلك معارضته أية محاولة للتجديد الديني أو الثقافي. فقد نشر ردّا على كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي كما نشر ردّا على كتاب علي عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم صدّره بإهداء للملك فؤاد الأوّل ملك مصر الذي كان يطمح لأن يصبح خليفة بعد إلغاء الخلافة العثمانية جاء فيه: “فلم ألبث قليلا حتى شهدت من حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم غيرة على دين الحق… دعتني إلى أن أقدّم إلى خزانته الملكية مؤلفا قمت فيه ببعض حقوق إسلامية وعلمية وهو (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ورجائي أن يتفضّل عليه بالقبول والله يحرس ملكه المجيد ويثبت دولته على دعائم العزّ والتأييد”. أما تعيينه شيخا للأزهر من قبل ثورة 1952 فحصل لأن رجال الثورة لم يجدوا يومها شيخا مناصرا لهم اذ كان كلّهم من أتباع النظام الملكي فلجؤوا إلى أجنبي ورشّحوا سودانيا بجانب الخضر ليقع الاختيار على هذا الأخير لأن السودان أيامها كان تابعا لمصر والملك كان يسمى ملك مصر والسودان ولم يطل بقاء الخضر شيخا للأزهر سوى سنة وبضعة أشهر استقال بعدها لأنه رفض الإصلاحات التي كانت الثورة تنوي القيام بها فعُوّض بآخر مناصر للثورة، وفي المحصلة يحمل استشهاد رئيس الدولة بالخضر موقفا سلفيا يتم الترويج له بتؤدة وبطء.
الشخص الثاني الذي استشهد به رئيس الجمهورية وظهر في الشريط دون صوت هو الشيخ البشير النيفر الجدّ للأب احميدة النيفر رئيس جمعية رابطة تونس للثقافة و التعدّد التي ينشط ضمنها نوفل شقيق الرئيس، والمقال المتحدّث عنه عنوانه “فصل الدين عن الحكومة” نشر في العددين الخامس والسادس من المجلّد التاسع من المجلة الزيتونية لسنة 1955 مساهمة في حوار دار أيامها حول العلمانية واللائكيّة شارك فيه الزعيم بورقيبة وعلي البلهوان وخلاصة مقال الشيخ النيفر: “فتكون الغاية التي ينتهى إليها مطمئن القلب أن لا خطر يهدّد أحدا من الناس ولا مصلحة من المصالح العامّة والخاصة أن تبقى الحكومة الإسلامية على صبغتها الحقيقية آخذة بزمام السلطتين الدينيّة والمدنيّة بل الخير كل الخير أن تبقى على جمعها الحميد، وقياسها على بعض الحكومات المسيحية التي فرقت بين السلطتين قياس ليس له من الحق جامع بل الفارق كفلق الصبح”. إن الاستشهاد بالشيخ ونصّه ونحن مقدمون على استفتاء ليس بريئا ويحتاج منا إلى شيء من التثبت ذلك أن الشيخ النيفر في كل كتاباته وأغلبها منشور في المجلة الزيتونيّة تابع ولم يحدث أن خرج على المتون أو جاء بفكرة مخالفة لِما استقرّ عليه السلف. فلا نذكر له اجتهادا واحدا أو رأيا أو مؤلفا تميّز به عن أبناء جيله. فقد نشر حفيده احميدة مقالا عنه في مجلة “ليدرز” أجمل ما فيه الصور. أما ما تبقى من سواد فلا إضافة فيه على عادة بعض الإسلاميين الذين يصفون أنفسهم بالحداثيّين. من ذلك أنه ذكر بأن الشيخ باشر الخطابة في جامع الزيتونة “إلى سنة 1960 عندما رفض اعتماد الحساب في تحديد دخول رمضان وشوال… جملة مواقف الشيخ النيفر تعبّر عن استقلاله إزاء السلطة السياسية أيا كانت… وعندما أحيل مفتي الديار التونسية الشيخ العزيز جعيّط على المعاش في أفريل 1960… بهذه المناسبة دعاه كاتب الدولة للرئاسة والدفاع الوطني الباهي الأدغم لقبول خطة الإفتاء برغبة من رئيس الجمهورية، امتنع الشيخ عن القبول لجملة أسباب من بينها….” هذا الكلام مجانب للحقيقة ولا دليل عليه ممّا هو بين أيدينا من وثائق مكتوبة وشفويّة ويحتاج إلى تصويب كالتالي:
1) لما قرّرت الدولة اعتماد الحساب اختلف الشيوخ حول المسألة. ففيما يخصّ الشيخ البشير صلّى صلاة العيد سنة 1960 اقتداء بالرؤية في مصر وهو ما أثار غضب بورقيبة الذي أقاله مباشرة.
2) لبورقيبة علاقة وطيدة بالشيخ البشير إذ يحفظ له معروفه لمّا كان لاجئا في مصر. روى لنا الأستاذ البشير البكوش حفظه الله في ما نقل عن المرحوم حمادي الساحلي أن الشيخ البشير كان كثير السفر لأداء فريضة الحج وانه كان في كلّ مرّة ينقل الأموال للزعيم في مصر الأمر الذي يعني أن الشيخ لم يكن مستقلا عن السلطة مثلما يشيع حفيده بل كان منخرطا فيها وحتى في فرعها الداعي إلى الاستقلال وإن بتخفّ واحتشام.
3) القول بأن بورقيبة رغب في أن يتولّى الشيخ البشير الإفتاء بعد تقاعد الشيخ العزيز جعيط في غير محلّه فلا يعقل أن يعزل بورقيبة الشيخ سنة 1960 ويقترح تعيينه في منصب أرفع في نفس السنة علما بأن منصب الإفتاء بقي شاغرا سنتين إلى أن عُيِّن فيه الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور.
والذي تهمّنا الإشارة إليه هو أن الاستشهاد بالسلفيّين كلّما سنحت الفرصة يؤكد أن خطابهم المغرق في الرجعية والتكلّس مكوّن من مكوّنات برنامج رئيس الجمهورية الذي لم يصرّح به ولا نعلم حقيقته بالتفصيل إلى الآن.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 17 ماي 2022