الشارع المغاربي: جرت العادة ان تحتفلَ الشعوب الحية بأعيادها الوطنية وسط جوّ من الأبهة والجلال. وتكون تلك مناسبة لاستحضار أمجادها ومآثرها، لتستمر متوهجة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة. فبماذا سيحتفل التونسيّون في الذكرى العاشرة لما يسمّى بالثورة؟ بماذا سيحتفلون وسط هذه الفوضى العارمة التي تعمّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها أمام عجز الدولة واستقالتها؟؟
أسئلة كثيرة تستبدّ بنا ولا نجد لها جوابًا. فالمشهد السياسي والاجتماعي بات عصيًّا على القراءة حتى أنه يتعذّر تهجئة مفرداته لما يكتنف من عجائبية وغرائبية ما كانتا لتخطرا على بال كاتب مثل غابريال غارسيا ماركيز.
هذه الفوضى هي نتيجة حتمية لطبيعة “الثورة” ذاتها. فقد ولدت هذه الأخيرة مشوّهة. وحملت، بالتالي، بذور انحرافها منذ البداية. فالثورات، مثلما علّمنا التاريخ تكون بقيادة طليعة منظمة، تؤطر الزخم الجماهيري ثم تستلم السلطة في ما بعد إذا كانت لها الغلبة. ومن تعريفات الثورة أيضا أنها فعل أو حركة الهدف منها بناء نظام يتجه نحو المستقبل لا نظام نكوصي يروم العودة إلى الوراء.وهذه التعريفات وغيرها لا تنطبق، بأي حال من الأحوال على ما حدث في تونس قبل عشر سنوات. فبسبب غياب الطليعة المنظمة صودرت الثورة من طرف أعدائها من اللصوص والمرتزقة والعملاء والسفهاء والتكفيريين وتجار الدين الذين لا دين لهم سوى نهمهم الذي لا يشبع للسلطة وتكديس المال. وقد بسط هؤلاء هيمنتهم على البلاد بتوجيه وإملاءات من الخارج ونجحوا في تشويه كل شيء حتى انقلبت المفاهيم رأسا على عقب وأصبحت الرجعية في أشد مظاهرها بشاعة، وتخلّفا وأعني بها الرجعية الدينية هي المنافحة والمدافعة والمتحدث الرّسمي باسم الثورة. كما رأينا نكرات جاءت بهم رياح الصدفة يتحوّلون، فجأة، وفي غفلة من الزّمن الأغبر إلى “زعماء” و”قياديّين” في أحزاب هجينة تأسست للتوّ. وإلى “نجوم” تتخاطفهم قنوات المجاري وتلفزيونات القمامة ليتقيّؤوا من خلالها عاهاتهم وأحقادهم وجهلهم.
وحتى يكتمل المشهد السوريالي رأينا مخبرين سابقين وأشباه مثقفين وصحافيّين من الدرجة العاشرة ينتصبون منظّرين ومحللين للواقع السياسي والاجتماعي للبلاد ويوجهون بذلك الرأي العام، باثّين سمومهم وجهلهم في أوساط العامة والغوغاء من الناس.
هذه المظاهر وغيرها أفضت إلى تبليد الشعب (L’abrutissement du peuple) وفقدانه القدرة على التمييز، وهي عاهة عادة ما تصيب الشعوب في حالات العجز والوهن أو التفقير والتهميش كالتي نعيشها اليوم في تونس. فيتحوّل الفرد عندها إلى كائن غريزي، يمارس أشد أنواع المازوشية وأكثرها إيلامًا. فلا غرابة، والحال هذه أن ينتخب الشعب الفاسدين والمنحرفين والتكفيريّين والارهابيّين وتجار الدين ومن لفّ لفّهم من أفاقين وخونة وعملاء يجاهرون بعمالتهم على الملأ. ولا غرابة أيضا أن يتخلى الشعب عن أبسط شروط المواطنة بما هي انتماء قبل كل شيء، فيعمد إلى التخريب وزرع الفوضى كأن يوقف الإنتاج في المؤسسات الصناعية ويقطع الطرق ويهاجم المراكز الأمنية ويشلّ المرفق العام.
لكن هذا التبليد لم يقتصر على الغوغاء والعامة من أبناء الشعب الكريم، بل طال النّخب “الحداثيّة” التي وقفت عاجزة أمام زحف الظلاميين والدواعش وإحكام سيطرتهم على مفاصل الدولة وتغلغلهم في أوساط شرائح واسعة من المواطنين بعد تخديرهم بالشعارات الدينية الزائفة. واكتفت بالنّدب والعويل دون أن تقدم بديلا لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
فمن مظاهر تبلّد هذه النخبة، على سبيل المثال لا الحصر، اعتقادها، في يوم من الأيام أن “البجبوج” مثلما يسمونه تحبّبا سوف ينقذ البلاد من سطوة الإخوان، ناسين أو متناسين الماضي الأسود الذي يجرّه وراءه هذه الرجل. لكنه كان وفيّا لتاريخه فغدر بهم شرّ غدرة وتحالف مع أعداء الأمس تنفيذًا لأوامر الدوائر الأجنبية.
وما بالعهد من قدم، رأينا أيضا حقوقيّين وأكاديميّين ممّن “يشار إليهم بالبنان” يقيمون الأرض ولا يقعدونها، مطالبين في كتاباتهم الصحفية وإطلالاتهم التلفزيونية والإذاعية بإطلاق سراح رئيس حزب كان يقبع في السجن بتهمة الفساد والتحيل لينقذ الدولة المدنية-الحداثية مثلما توهّموا، فلم يخيّب ظنهم ، هو الآخر ووضع يده في يد الإخوان بعد الانتخابات الأخيرة، ولم يكتف بذلك، فنصّب الغنوشي رئيسا للبرلمان.
ولنا أن نتساءل : إذا كانت “النخبة” – وما هي بنخبة- على هذا القدر من ضيق الأفق وعدم القدرة على التمييز بمفهومه العميق (le discernement) فكيف نلوم الشعب الكريم المنشغل بقوته اليومي إذا انطلت عليه شعارات الدجل والشعوذة وخطابات الكراهية والعنف؟
هذا بعض ما جنينا خلال عشر عجاف من الاحتطاب الحثيث والتدافع الاجتماعي سيّء الصيت. وما خفي أعظم. أما الشعارات التي رفعتها الحشود الزاحفة ذات يوم مطالبة بالحرية والكرامة والتشغيل فقد طارت بها عنقاء مُغرب بعيدًا وظلّت مجرّد حلم لم ولن يتحقّق منها شيء.
ومع ذلك، وبالرّغم من كل هذا الخراب المحيط بنا، تشير دلائل كثيرة إلى ما هو أسوأ: فبعد تقسيمهم أبناء الشعب الواحد أفقيّا، بين مسلمين وكفار ومؤمنين وعلمانيّين ملحدين، ها هم دعاة المشروع الظلامي يحاولون تقسيمه عموديّا هذه المرّة. من خلال تغذية النزعات الجهوية والقبلية وبعث التنسيقيات المشبوهة إيذانا بإلغاء الدولة المترنحة والآيلة للسقوط وإطلاق رصاصة الرّحمة عليها.
أمّا ما ينتظر البلاد مستقبلا فلا يحتاج إلى خيال خصب لاستشرافه، فما يسمّى اليوم بالاحزاب المدنية والديمقراطية ستتذرّر وتتبخّر جميعها من دون استثناء لينفرد التكفيريون والدواعش بالساحة ويطبقوا أجندتهم الجهنمية. أمّا اليسار فقد تبيّن بالمكشوف أنه كذبة سخيفة لا تستحق مجرّد الوقوف عندها.
وحتى نكون منصفين، علينا أن نعترف بأنه كان لـ”النخبة الحداثيّة” التي نُكبت بها البلاد، هي الأخرى دورها في ما وصلنا إليه. وإذا كان لما يسمى بالثورة من فضل يُذكر فيشكر فهو فضحها هذه النخب وكشف عوراتها وعاهاتها بعد أن أزالت الأحداث المتسارعة المساحيق الزائفة عن وجوه أصحابها، فسقطت الأقنعة، كل الأقنعة.
تبدو اللوحة قاتمة، بل شديدة القتامة لكنّني شخصيًّا لم أفاجأ بما حصل طيلة العشرية السوداء ولن أفاجأ بما سيحصل مستقبلا وهو مرعب. فقد يئست من “تحقيق أهداف الثورة” التي دفع المفقرون والمهمشون من أجلها ثمنا باهظا بعد انتخابات 2011. وفيما كان ضيوف موائد السابع من نوفمبر الدائمون يتغنون بالثورة وينظمون القصائد العصماء ويدبجون المقالات النّارية في مديحها، هجوتها في قصيدة لي نشرت بجريدة القدس العربي بتاريخ 5 /11 /2011 وتضمنتها مجموعتي “أطوار من سيرة الشبيه” الصادرة عام 2012. وممّا جاء فيها:
..أهذي ثورةٌ / أم عورةٌ / أم كذبةٌ؟؟… هذي البلاد سبيّةٌ نخاسها هيُّ ابنُ بيْ وما أكثر النخاسين في هذه البلاد. هل كنت أرى؟ – بلى…
والدليل على ذلك ما عشنا خلال السنوات العشر الأخيرة من فوضى عارمة أتت على الأخضر واليابس وما شهدنا ونشهد اليوم من تكالب محموم على تمزيق أوصال البلاد: فهذا يعضعض وينهش لحمها المرتجف حتى يفيض شدقاه دمًا وذاك يغرز فيها مخالبه تشفّيا وانتقاما والآخر يجزُّ بسكين صدئة أطرافها بسادية لا تعرف الرحمة فيما الكل يتفرّج ولا يحرّك ساكنا، من أعلى سلطة إلى أصغر مسؤول كأن بهم خدرا.