الشارع المغاربي : اعتبرت الكتلة الغربية (مجموعة السبع بلدان الصناعية الكبرى) الثورة التونسية نقطة فاصلة ولحظة “تأسيسية” في تاريخ المنطقة العربية المتوسطية لحظة تتطلب وضع إطار جديد لتنظيم العلاقات بين ضفتي المتوسط يراعي نظريا التطلعات إلى الحرية والديمقراطية والكرامة للشعب التونسي وعموم الشعوب العربية المنتفضة.
وفي حقيقة الأمر لم تكن هذه المجموعة معنية فعلا برعاية الديمقراطية الناشئة بتونس وبالوطن العربي بقدر ما كانت تخشى من حصول أي تغيير جوهري في السياسات الاقتصادية والتوجهات الدبلوماسية لتونس باتجاه إعادة النظر في سياسة الانفتاح الاقتصادي والتجاري التي تخدم مصالحها والقائمة على اتفاق التبادل الحر للسلع الصناعية الموقع مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995 المزمع توسيعه من خلال اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق.
واللافت للانتباه أن الكتلة الغربية الأوروبية تعاملت بشكل جماعي ومنسق مع تداعيات الانتفاضات العربية، مثلما كان الأمر بمناسبة التحولات التاريخية الكبرى في العلاقات الدولية أو في العلاقات شمال – جنوب منذ الاستقلال، وتجسد ذلك في البيان الختامي لقمة مجموعة السبع المنعقدة في ماي 2011 الذي يتضمّن مبادرة جديدة بعنوان ” الشراكة من اجل الديمقراطية” تتعهد بموجبها الدول الصناعية الكبرى،بإنجاح الانتقال الديمقراطي والاقتصادي بتونس ومصر والدول التي تحذو حذوهما في المنطقة العربية.
وبدا أن هذا الموقف الغربي يشكل منعرجا في تاريخ العلاقات بين الضفتين من حيث إقراره بالطابع التاريخي للتحولات الحاصلة في المنطقة العربية وإعطائه الأولوية للأبعاد المبدئية والقيمية في العلاقات شمال جنوب بخلاف مواقفه المعهودة القائمة على تغليب الأبعاد المصلحية والتجارية مما أدى إلى دعمه الدكتاتوريات العربية وتغاضيه عن خرقها المتواصل لحقوق الإنسان العربي. ومن هذا المنطلق قدمت مجموعة السبع تعهدات ملموسة بتشجيع الانتقال الديمقراطي بتونس ومصر و ذلك من خلال الالتزام بتمكينهما من استرداد أموالهما “المسروقة” المهربة إلى الخارج فضلا عن إقرار برنامج مساعدات مالية ضخم لفائدتهما بشروط ميسرة.
غير أن مصداقية هذه التعهدات كانت منذ البداية محل شك وريبة باعتبار أنها كانت مرتبطة بشروط سياسية واقتصادية تلتزم بموجبها الدول المعنية –ومنها خاصة تونس بوصفها “الاستثناء” الوحيد الذي ظل وفيا للمبادئ الكونية الرئيسية التي تأسست عليها الثورة -بالحفاظ، في إطار”استمرارية” الدولة، على الخيارات الاقتصادية والإلتزامات المالية ذات الصلة ومنها خاصة مواصلة التعهد بمديونية النظام السابق والتمسك بمنظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر التجاري، ومزيد توسيعها من خلال اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمّق مع الاتحاد الأوروبي بوصفه شريكها الاقتصادي والتجاري الرئيسي وأحد الأعضاء الفاعلين ضمن مجموعة السبع.
وهكذا تموقعت مجموعة السبع منذ البداية وإلى يومنا هذا كفاعل أساسي في المشهد السياسي والاقتصادي التونسي حيث تمسكت الحكومات التونسية المتعاقبة بنفس الخيارات الاقتصادية الانفتاحية للنظام السابق دون مطالبة الجانب المقابل بالإيفاء بالتزاماته المذكورة وذلك رغم استمرار الأوضاع والمؤشرات المالية والاقتصادية التونسية في الانحدار إلى أن بلغت الدرجات القصوى من التدهور والانهيار.
ومن ابرز مظاهر الانخراط المباشر لهذه المجموعة في الحياة السياسية التونسية، الدعم السياسي والمالي المقدم إلى رئيس الحكومة الحالي في أفق الاستحقاقات الانتخابية القادمة بتونس مقابل تعهده بالتوقيع على اتفاق “أليكا” خلال 2019 وإعطاء الأولوية للقوانين ذات الصلة بأدراج هذه الاتفاقية بالمنظومة التشريعية التونسية وجعلها أمرا واقعا بقطع النظر عن تقدم المفاوضات من عدمه.
وهذا هو الإطار الذي تم فيه بتاريخ 12 فيفري المصادقة من قبل مجلس نواب الشعب على القانون الذي يتبنى المواصفات الأوروبية في مجال “السلامة الصحية للمواد الغذائية وتغذية الحيوانات” الذي سيضرب الفلاحة التونسية في الصميم من حيث انه سيحول تونس إلى سوق حصرية للمواد الغذائية الأوروبية وسيرفع حواجز إضافية أمام الصادرات التونسية بإلزامها بتلك المواصفات.
ويندرج هذا القانون ضمن سلسلة من التشريعات السابقة المدرجة بما يسمى بالإصلاحات الهيكلية المرتبطة بالقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي التي انخرطت فيها تونس منذ 2013ومنها قانون الاستثمار الجديد وقانون المنافسة وقانون استقلال البنك المركزي وغيرها.
وتصر الحكومة بالتواطئ مع مجموعة السبع – المتحكمة في مجلس إدارة الصندوق و في المؤسسات المالية الدولية ذات الصلة– على مزيد التوسع في هذه السياسة من خلال البرنامج التكميلي الموقع سنة 2016 الذي يتضمّن حزمة من الالتزامات الخطيرة التي تضرب في الصميم كيان الدولة الوطنية التونسية ومكتسبات الاستقلال مما انعكس على طبيعة الصراع الداخلي المحتدم في تونس الذي تخطى القضايا الاجتماعية و الاقتصادية ليطال المخاطر المحدقة بمؤسسات الدولة المخترقة وثروات البلاد المنهوبة والسيادة الوطنية المستباحة وكل ما يرمز إليها من مكاسب ومرافق ومؤسسات ومنظومة تعليمية عمومية.
وبالتوازي مع البرامج ذات الصبغة الاقتصادية والمالية والتجارية، وفي ظل تفاقم الأخطار والتهديدات الإرهابية المحدقة بتونس تعددت الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الإطراف ذات الصبغة الأمنية والدفاعية المبرمة بين تونس وبلدن مجموعة السبع ومنها إدماج تونس بالحلف الأطلسي كشريك غير عضو وكذلك اتفاقيات تتعلق بالتسليح والتأمين الالكتروني للحدود البرية والمطارات والمنشآت السياحية التونسية. هذا إلى جانب عضوية تونس بالتحالف العربي المنخرط في الحرب الأهلية اليمنية بدعم من الدول الغربية الكبرى.
وللوقوف على خفايا وخلفيات الموقف الذي تتبناه المنظومة الغربية المتعددة الإطراف ممثلة في مجموعة السبع من تونس والدول العربية وبلدان الضفة الجنوبية عموما، لا بد من التعرف عن ظروف نشأة هذه المجموعة وعقيدتها الدبلوماسية والمهام الموكولة إليها علما أنها تضم في عضويتها الشركاء الرئيسيين لتونس ومنهم الاتحاد الأوروبي إلى جانب الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا وألمانيا واليابان.
تونس تحت تأثير المجموعات الإقليمية والدولية الأوروبية الغربية منذ الاستقلال
في حقيقة الأمر حرصت الكتلة الأوروبية الغربية باستمرار منذ القرن التاسع عشر على تنسيق تحركاتها إزاء تونس في المحطات التاريخية الهامة و منها الضغط العسكري المزدوج الفرنسي البريطاني لإرغام محمد باي على التوقيع سنة 1857 على “عهد الأمان” الضامن للحقوق المدنية والاقتصادية المتميزة للجالية الأوروبية ثم بمناسبة بسط الوصاية المالية على تونس من خلال تنصيب الكومسيون المالي سنة 1869 وكذلك أثناء مؤتمر برلين المنعقد سنة 1878 الذي أعطى الضوء الأخضر لفرنسا لاحتلال تونس.
وفي إطار اتفاقية الحكم الذاتي المبرمة مع تونس بتاريخ 3 جوان 1955 عملت فرنسا على تضمينها بنود خاصة تتعلق بضمان الحقوق المكتسبة للجاليات الأوروبية إلى جانب الإبقاء على ميزات تفاضلية لفائدة الجالية الفرنسية وقطاع الأعمال الفرنسي الذي حافظ على دوره الاقتصادي المحوري في مجال استغلال الثروات فضلا عن السيطرة الفرنسية على المبادلات التجارية واستغلال الثروات وقطاع الاستثمار.
واستمر الوضع على حاله بعد الاستقلال حيث اضطرت تونس لتنسيق مخططاتها التنموية منذ مرحلة الستينات مع البنك الدولي و صندوق النقد الدولي والمجموعة الاقتصادية الأوروبية التي ظلت الشريك الأول لتونس من خلال اتفاق التبادل الحر الأول المبرم سنة 1969 ثم اتفاق التعاون الموقع سنة 1976 وقبله قانون استقطاب الاستثمارات الخارجية لسنة 1972 الذي مهد لعودة فرنسا وأوروبا كمحرك أساسي للدورة الاقتصادية التونسية.
ويعتبر بعض المختصين أن تأسيس مجموعة السبعة سنة 1975 جاء كرد فعل على سياسة المواجهة والحظر النفطي التي تبنتها الدول العربية ضد الدول الغربية أثناء حرب 1973 مما جعل هذا الحدث محطة مفصلية في تاريخ العلاقات الدولية والعلاقات العربية مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين الذين ادخلوا منذ ذلك التاريخ مراجعات جوهرية على سياساتهم تجاه العالم ودول العالم الثالث وتحديدا الدول العربية بشكل خاص.
وسنعود بأكثر تفصيل إلى هذا الموضوع الهام في الجزء الثاني لهذا المقال حيث سنسلط الأضواء على العلاقة بين هذا الحدث والاستراتيجية الجديدة للدول الغربية إزاء العالم العربي التي شهدت تحولات كبرى انطلاقا من عشرية الثمانينات والتسعينات سيما بعد انهيارالاتحاد السوفياتي وبداية عصر الأحادية القطبية والهيمنة الأمريكية الغربية على العالم.
بقلم : احمد بن مصطفى (سفير سابق باحث في القضايا الدبلوماسية والاستراتيجية)
صدر باسبوعية الشارع المغاربي في عددها 160