الشارع المغاربي – قرطاج‭.. ‬و‭.. ‬قيادة‭ ‬الفكر‭ ‬الانساني /بقلم: د.محمد اللومي

قرطاج‭.. ‬و‭.. ‬قيادة‭ ‬الفكر‭ ‬الانساني /بقلم: د.محمد اللومي

قسم الأخبار

1 سبتمبر، 2023

الشارع المغاربي: لا‭ ‬شك‭ ‬وأن‭ ‬البشر‭ ‬يختلفون‭ ‬في‭ ‬نواحي‭ ‬كثيرة‭.. ‬تختلف‭ ‬أجناسهم‭, ‬تتعدد‭ ‬أوطانهم‭, ‬تتلون‭ ‬بشراتهم‭ , ‬تتنوع‭ ‬لغاتهم‭.. ‬ينتمون‭ ‬الى‭ ‬ديانات‭ ‬مختلفة‭, ‬يعتزون‭ ‬بهويات‭ ‬متباعدة‭, ‬يحتكمون‭ ‬الى‭ ‬ثقافات‭ ‬متعددة‭.. ‬ولكن‭ ‬البشر‭ ‬على‭ ‬اختلافهم‭ ‬يجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬مجتمعين‭ ‬وكأن‭ ‬لا‭ ‬شيئ‭ ‬يفرقهم‭.. ‬يجمعهم‭ ‬الجنس‭ ‬البشري‭.. ‬فاذا‭ ‬بالإنسان‭ ‬هو‭ ‬الانسان‭ ‬أينما‭ ‬كان‭, ‬رغم‭ ‬تعدد‭ ‬الأوطان‭ ‬واللغات‭ ‬والأديان‭.. ‬له‭ ‬نفس‭ ‬التركيبة‭ ‬العضوية‭.. ‬نفس‭ ‬الأداء‭ ‬الفيزيولوجي‭.. ‬تحكمه‭ ‬نفس‭ ‬الفطرة‭.. ‬فطرة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ ‬مركبة‭ ‬ومعقدة‭, ‬بقدر‭ ‬ماهي‭ ‬بسيطة‭ ‬يسيرة‭ ‬تدعوه‭ ‬دائما‭ ‬الى‭ ‬الالتقاء‭ ‬مع‭ ‬بني‭ ‬جنسه‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬أوطانهم‭ ‬ولغاتهم‭ ‬وأديانهم‭.. ‬لأن‭ ‬الانسان‭ ‬ككل‭ ‬الكائنات‭ ‬محتاج‭ ‬لبقية‭ ‬الكائنات‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬جنسه‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬الاستمرار‭, ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭, ‬وتطوير‭ ‬ذاته‭, ‬واثبات‭ ‬تفوقه‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬المخلوقات‭.. ‬وانك‭ ‬لتجد‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬جمعاء‭ ‬منذ‭ ‬القدم‭ ‬من‭ ‬الأحداث‭ ‬والحروب‭ ‬والسير‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الانسان‭ ‬لم‭ ‬يكتف‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬من‭ ‬الحقبات‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬مدنيا‭ ‬بطبعه‭ ‬فحسب‭, ‬ولكنه‭ ‬سعى‭ ‬دائما‭, ‬الى‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كونيا‭, ‬لا‭ ‬يهدأ‭ ‬له‭ ‬بال‭ ‬حتى‭ ‬يجتمع‭ ‬بغيره‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬الأمم‭ ‬المختلفة‭, ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بواسطة‭ ‬الحروب‭ ‬والخطوب‭, ‬قصد‭ ‬إرساء‭ ‬قوانين‭ ‬وتقاليد‭ ‬بشرية‭ ‬مشتركة‭ ‬تحقق‭ ‬له‭ ‬العيش‭ ‬والتعايش‭.. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬لنا‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭ ‬ما‭ ‬يكفي‭ ‬لأن‭ ‬نتبين‭ ‬أن‭ ‬الانسان‭ ‬منذ‭ ‬القدم‭, ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬الى‭ ‬ابراز‭ ‬خصوصياته‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مصدر‭ ‬تميزه‭ ‬وفخره‭, ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬بحث‭ ‬عن‭ ‬الالتقاء‭ ‬ببني‭ ‬جنسه‭ ‬في‭ ‬مشارق‭ ‬الأرض‭ ‬ومغاربها‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬قواسم‭ ‬فكرية‭ ‬مشتركة‭, ‬تعزز‭ ‬القواسم‭ ‬الجسدية‭ ‬والفطرية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تكفي‭ ‬وحدها‭ ‬لاشباع‭ ‬رغبته‭ ‬في‭ ‬الارتقاء‭ ‬الفعلي‭ ‬الى‭ ‬مرتبة‭ ‬الانسان‭, ‬بكل‭ ‬المقاييس‭ ‬التي‭ ‬تميزه‭ ‬عن‭ ‬عالم‭ ‬الحيوان‭.. ‬ثم‭ ‬ان‭ ‬تخليص‭ ‬الإنسانية‭ ‬مما‭ ‬يصيبها‭ ‬من‭ ‬حين‭ ‬لاخر‭ ‬من‭ ‬مشاكل‭ ‬وأزمات‭, ‬لا‭ ‬تفرق‭ ‬بين‭ ‬أمة‭ ‬وأخرى‭, ‬ولا‭ ‬بين‭ ‬شعب‭ ‬واخر‭, ‬يستوجب‭ ‬انخراط‭ ‬كل‭ ‬الشعوب‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مشاربها‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬انساني‭, ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬خصوصيات‭ ‬كل‭ ‬أمة‭, ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يجمع‭ ‬كل‭ ‬الأمم‭ ‬حول‭ ‬فكر‭ ‬موحد‭.. ‬بحيث‭ ‬نجد‭ ‬أن‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬المشترك‭ ‬كان‭ ‬يمثل‭ ‬منذ‭ ‬القدم‭ ‬هاجس‭ ‬الانسان‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭, ‬يخفيه‭ ‬تارة‭ ‬ويعلنه‭ ‬تارة‭ ‬أخرى‭.. ‬ولا‭ ‬يكاد‭ ‬يخفيه‭ ‬حتى‭ ‬يبرز‭ ‬رجل‭ ‬نابغ‭ ‬في‭ ‬أمة‭ ‬نابهة‭ ‬يحمل‭ ‬لواء‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭, ‬ليؤسس‭ ‬الوجه‭ ‬المتحد‭ ‬منه‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬تقتضيه‭ ‬ظروف‭ ‬البشرية‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬العصر‭ ‬المحيط‭ ‬به‭, ‬عله‭ ‬يهدي‭ ‬الانسان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أرجاء‭ ‬المعمورة‭ ‬السعادة‭ ‬التي‭ ‬ينشدها‭, ‬ويبعد‭ ‬عنه‭ ‬كل‭ ‬أسباب‭ ‬الفرقة‭ ‬والتناحر‭ ‬مع‭ ‬بني‭ ‬جنسه‭ ‬من‭ ‬البشر‭.. ‬

قادة‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭…‬

هؤلاء‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬تعاقبوا‭ ‬على‭ ‬البشرية‭ ‬ليوحدوا‭ ‬العقل‭ ‬الإنساني‭ ‬حول‭ ‬توجه‭ ‬مشترك‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬والتصور‭ ‬والحكم‭, ‬أوردهم‭ ‬تباعا‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬″طه‭ ‬حسين″‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬″قادة‭ ‬الفكر″‭.. ‬كانوا‭ ‬قادة‭ ‬للفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬خلال‭ ‬الحقبات‭ ‬المتتالية‭ ‬التي‭ ‬مرت‭ ‬على‭ ‬الانسان‭ ‬منذ‭ ‬العصر‭ ‬القديم‭.. ‬قادوا‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬العصور‭ ‬فشكلوا‭ ‬بذلك‭ ‬تاريخ‭ ‬الإنسانية‭ ‬حقبة‭ ‬تلو‭ ‬أخرى‭, ‬بحيث‭ ‬نعيش‭ ‬اليوم‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬فلسفاتهم‭ ‬وأفكارهم‭ ‬ونماذجهم‭ ‬التي‭ ‬أرادوا‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬أن‭ ‬يخلصوا‭ ‬الى‭ ‬الانسان‭ ‬حيثما‭ ‬كان‭.. ‬وكذلك‭ ‬فنحن‭ ‬لو‭ ‬استثنينا‭ ‬إضافة‭ ‬أي‭ ‬منهم‭ ‬لأصبح‭ ‬حالنا‭ ‬مغايرا‭ ‬لما‭ ‬نحن‭ ‬عليه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬شؤون‭ ‬وظروف‭.. ‬تناول‭ ‬حينئذ‭ ‬″طه‭ ‬حسين″‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬النابغين‭ ‬الذين‭ ‬استجابوا‭ ‬لشغف‭ ‬البشرية‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ , ‬فحملوا‭ ‬لواء‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تثبيت‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬المشتركة‭ .. ‬تناولهم‭ ‬بالوصف‭ ‬والتحليل‭ ‬والتمحيص‭.. ‬وهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أصحاب‭ ‬استحقاق‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬الطعن‭ ‬فيه‭ ‬لما‭ ‬تجشموه‭ ‬من‭ ‬خطير‭ ‬العناء‭ ‬والمثابرة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬جعل‭ ‬الحضارة‭ ‬الإنسانية‭ ‬ارثا‭ ‬مشتركا‭ ‬لكل‭ ‬الشعوب‭.. ‬ولكني‭ ‬أعتقد‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬أن‭ ‬عميد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ .. ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬وسامحه‭.. ‬كان‭ ‬قد‭ ‬سها‭ ‬عن‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬أولئك‭ ‬الرجال‭ ‬الذين‭ ‬أخلصوا‭ ‬للإنسانية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ما‭ ‬اهتدوا‭ ‬اليه‭ ‬من‭ ‬الأوجه‭ ‬المتحدة‭ ‬للعقل‭ ‬الإنساني‭ .. ‬فأنتجوا‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬العصور‭ ‬التي‭ ‬مروا‭ ‬بها‭ ‬فكرا‭ ‬إنسانيا‭ ‬جامعا‭ ‬ولامعا‭.. ‬ففي‭ ‬اعتقادي‭ ‬أننا‭ ‬لما‭ ‬نتناول‭ ‬موضوع‭ ‬قيادة‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭.‬

فكان‭ ‬حنبعل

فانه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نمر‭ ‬مباشرة‭ ‬من‭ ‬الاسكندر‭” ‬إلى‭ “‬يوليوس‭ ‬قيصر‭ ” .. ‬فالزمن‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬الرجلين‭ ‬يتجاوز‭ ‬القرنين،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬الزمن‭ ‬كان‭ ‬متصلا‭ ‬لما‭ ‬انتقلت‭ ‬قيادة‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬الحياة‭ ‬العقلية‭ ‬اليونانية‭ ‬القوية‭ ‬من‭ ‬سقراط‭” ‬إلى‭ “‬افلاطون‭ ‬ومنه‭ ‬إلى‭ “‬أرسطو‭” ‬ثم‭ ‬إلى‭ “‬الاسكندر‭”.. ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬بامكان‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬وتزهر‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬من‭ ‬يتعهدها‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬قرنين‭ ‬ونيف‭ ‬من‭ ‬الزمن؟‭ .. ‬ثم‭ ‬لما‭ ‬تعلم‭ ‬وأن‭ “‬الاسكندر‭” ‬قد‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬ولكن‭ ‬الأقدار‭ ‬حالت‭ ‬دونه‭ ‬ونشرها‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬فهل‭ ‬كان‭ ‬بامكان‭ ” ‬يوليوس‭ ‬قيصر‭” ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬‭-‬لاحقا‭- ‬الشرق‭ ‬والغرب‭ ‬حول‭ ‬الحياة‭ ‬العقلية‭ ‬اليونانية‭ ‬القوية‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تتغلغل‭ ‬هذه‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬غربا‭ ‬كما‭ ‬تغلغلت‭ ‬شرقا‭ ‬خلال‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬ق‭.‬م؟‭ .. ‬بحيث‭ ‬كانت‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬منذ‭ ‬نهايات‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬ق‭.‬م‭ ‬في‭ ‬حاجة‭ ‬ملحة‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬يتعهدها‭ ‬غربا‭ ‬كما‭ ‬أخلص‭ ‬إليها‭ “‬الاسكندر‭” ‬شرقا‭.. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬المدرسة‭ ‬العقلية‭ ‬اليونانية‭ ‬القوية،‭ ‬بسبب‭ ‬ضعف‭ ‬أمر‭ ‬اليونان‭ ‬وتفرق‭ ‬جهودها‭ ‬بفعل‭ ‬الخصومات‭ ‬الحزبية‭ ‬داخل‭ ‬المدن‭ ‬والحروب‭ ‬السياسية‭ ‬بين‭ ‬المدن،‭ ‬كانت‭ ‬تبحث‭ ‬–غربا‭- ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬يتحمل‭ ‬مسؤوليتها‭ ‬المعنوية‭ ‬مثلما‭ ‬وجدت‭ ‬في‭ “‬الاسكندر‭” ‬–شرقا‭- ‬خير‭ ‬من‭ ‬يتعهدها‭ ‬بالوفاء‭ ‬والتصدير‭.. ‬وكان‭ “‬حنبعل‭ ” ‬هو‭ ‬ذلك‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬أهدته‭ ‬الحضارة‭ ‬البونية‭ ‬القوية‭ ‬في‭ ‬قرطاج‭ ‬إلى‭ ‬الفلسفة‭ ‬اليونانية‭ ‬غربا‭ ‬مثلما‭ ‬أهدتها‭ ‬مقدونيا‭ “‬الاسكندر‭” ‬شرقا‭.. ‬وأغلب‭ ‬الظن‭ ‬ان‭ ‬الأمة‭ ‬النابهة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تهدي‭ ‬الرجل‭ ‬النابغ‭ ‬لبقية‭ ‬الشعوب‭ ‬والأمصار‭.. ‬ولا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬قرطاج‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬ق‭.‬م‭. ‬مركزا‭ ‬لإشعاع‭ ‬الحياة‭ ‬العقلية‭ ‬اليونانية‭ ‬القوية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬شاكلة‭ ‬مقدونيا‭ ‬خلال‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬ق‭.‬م‭ ‬في‭ ‬الشرق‭.. ‬فلقد‭ ‬أورد‭ ‬المؤرخ‭ ‬التونسي‭ ‬″الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬فنطر″‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬″التربية‭ ‬والثقافة‭ ‬في‭ ‬قرطاج‭ ‬″‭, ‬أن‭ ‬قرطاج‭ ‬عرفت‭ ‬الجمهورية‭ ‬منذ‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬ق‭.‬م‭ ..‬وقد‭ ‬نوه‭ “‬ارسطو‭”, ‬بدستور‭ ‬قرطاج‭ ‬ووصف‭ ‬دواليبه‭ ‬ونظمه‭, ‬فمن‭ ‬ميزاته‭ ‬أنه‭ ‬يشتمل‭ ‬على‭ ‬سلطات‭ ‬تشريعية‭ ‬وأخرى‭ ‬تنفيذية‭ ‬ودوائر‭ ‬قضائية‭.. ‬وبذلك‭ ‬يكون‭ “‬المعلم‭ ‬الأول‭” ‬قد‭ ‬شهد‭ ‬بعظمة‭ ‬قرطاج‭ ‬السياسية،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬أورد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬″السياسة″–‭ ‬حسب‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬″الأستاذ‭ ‬الصادق‭ ‬شعبان″‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬″عودة‭ ‬حنبعل″‭- ‬ما‭ ‬يلي‭ ..” ‬ونجد‭ ‬لدى‭ ‬القرطاجيين‭ ‬عددا‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬المؤسسات‭ ‬الممتازة‭, ‬ومما‭ ‬يقوم‭ ‬دليلا‭ ‬واضحا‭ ‬على‭ ‬حكمة‭ ‬تنظيماتهم‭ ‬أنها‭ ‬حافظت‭ ‬دوما‭ ‬على‭ ‬الصيغة‭ ‬نفسها،‭ ‬ولم‭ ‬نر‭ ‬أبدا‭ ‬عصيانا‭ ‬ولا‭ ‬استبدادا‭..”.. ‬

وظهر‭ ‬ماجون

ولم‭ ‬تكن‭ ‬عظمة‭ ‬قرطاج‭ ‬العلمية‭ ‬أقل‭ ‬شأنا‭ ‬من‭ ‬نهضتها‭ ‬السياسية‭.. ‬ولك‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬موسوعة‭ “‬ماجون‭” ‬الزراعية‭ ‬خير‭ ‬مثال،‭ ‬حيث‭ ‬تضمنت‭ ‬تلك‭ ‬الموسوعة‭ ‬28‭ ‬سفرا‭ ‬تناولت‭ ‬الضيعة‭ ‬وتربية‭ ‬الماشية‭ ‬ومعالجتها،‭ ‬وانتشرت‭ ‬تلك‭ ‬الموسوعة‭ ‬في‭ ‬أقطار‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬ترجمات‭ ‬إغريقية‭ ‬ولاتينية‭.. ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تحدث‭ ‬النهضة‭ ‬السياسية‭ ‬والعلمية‭ ‬التي‭ ‬عرفتها‭ ‬قرطاج‭ ‬ازدهار‭ ‬اقتصادها‭ ‬ورخاء‭ ‬شعبها‭.. ‬فلقد‭ ‬استند‭ ‬الاقتصاد‭ ‬القرطاجي‭ ‬إلى‭ ‬قطاعات‭ ‬ثلاثة،‭ ‬الفلاحة‭ ‬والصناعة‭ ‬والتجارة‭.. ‬ولقد‭ ‬اعتنى‭ ‬القرطاجيون‭ ‬بمختلف‭ ‬هذه‭ ‬الميادين،‭ ‬فوفروا‭ ‬الظروف‭ ‬العلمية‭ ‬والتقنية‭ ‬والقانونية‭ ‬لازدهارها‭ ‬وإشعاعها‭ ‬وحمايتها،‭ ‬حتى‭ ‬عم‭ ‬الرخاء‭ ‬في‭ ‬قرطاج‭ ‬وربت‭ ‬ثروتها‭ .. ‬نفقه‭ ‬حينئذ‭ ‬أن‭ ‬قرطاج‭ ‬قد‭ ‬عرفت‭ ‬التقدم‭ ‬السياسي‭ ‬والعلمي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬قرونا‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تظهر‭ ‬بوادر‭ ‬الحياة‭ ‬العقلية‭ ‬القوية‭ ‬في‭ ‬اليونان‭.. ‬ففي‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬اليونان‭ ‬تعيش‭ ‬البداوة،‭ ‬أكلا‭ ‬وشربا‭ , ‬أمنا‭ ‬ودعة،‭ ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬القرطاجي‭ ‬مجتمعا‭ ‬حضريا‭ .. ‬مجتمع‭ ‬حضري‭ ‬بمعنى‭ ‬–‭ ‬حسب‭ ‬الأستاذ‭ ‬محمد‭ ‬حسين‭ ‬فنطر‭- ‬أنه‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬تفرزه‭ ‬المدينة‭ ‬ومؤطر‭ ‬بقوانين‭ ‬يساهم‭ ‬المواطن‭ ‬في‭ ‬بعثها‭ ‬وصوغها‭ ‬ويشعر‭ ‬بضرورة‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المصالح‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية‭.. ‬وفي‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬اليونانيون‭ ‬يعيشون‭ ‬فيه‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬الخصومات‭ ‬الحزبية‭ ‬داخل‭ ‬المدن‭ ‬والحروب‭ ‬السياسية‭ ‬بين‭ ‬المدن‭ ‬بسبب‭ ‬تعلقهم‭ ‬بالمصلحة‭ ‬الخاصة،‭ ‬كان‭ ‬المواطنون‭ ‬في‭ ‬قرطاج‭ ‬يتمتعون‭ ‬بالحرية‭ ‬وبحقوق‭ ‬المواطنة‭ ‬والإسهام‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المجتمع‭ ‬والدولة،‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬لهم‭ ‬حق‭ ‬الاضطلاع‭ ‬بالمهام‭ ‬السياسية‭ ‬والإدارية‭ ‬والدينية‭.. ‬بحيث‭ ‬لما‭ ‬طلع‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬ق‭.‬م‭ ‬على‭ ‬الإنسانية‭, ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬القرطاجي‭ ‬مجتمعا‭ ‬حضريا‭ ‬متقدما‭ ‬منظما،‭ ‬يسود‭ ‬الوئام‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬فئاته‭.. ‬وكانت‭ ‬قرطاج‭ ‬سيدة‭ ‬البحر‭ ‬بموقعها‭ ‬المحوري‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التبادل‭ ‬التجاري‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬المتوسط،‭, ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬لها‭ ‬مصارف‭ ‬تجارية‭ ‬بصقلية،‭ ‬وفي‭ ‬سردينيا،‭ ‬وفي‭ ‬سواحل‭ ‬أسبانيا‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭, ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬قرطاج‭ ‬تمتلك‭ ‬أسطولا‭ ‬بحريا‭ ‬متطورا‭ ‬لتأمين‭ ‬سلامة‭ ‬الطرق‭ ‬البحرية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تسير‭ ‬فيها‭ ‬نحو‭ ‬مناجم‭ ‬الذهب‭ ‬في‭ ‬خليج‭ ‬غينيا‭ ‬جنوبا‭ ‬ومناجم‭ ‬القصدير‭ ‬عند‭ ‬السواحل‭ ‬البريطانية‭ ‬شمالا‭ .. ‬كانت‭ ‬قرطاج‭ ‬بحلول‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬ق‭.‬م‭ ‬عظيمة‭ ‬بحضارتها‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬وبإشعاعها‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ .. ‬ولعلك‭ ‬تعجب‭ ‬أكثر‭ ‬بعظمة‭ ‬قرطاج‭ ‬حين‭ ‬تعلم‭ ‬أن‭ ‬نهضتها‭ ‬الحضارية‭ ‬الضخمة‭ ‬ومكانتها‭ ‬المتقدمة‭ ‬في‭ ‬المتوسط‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحقبة‭ ‬التاريخية‭ ‬لم‭ ‬يمنعا‭ ‬المجتمع‭ ‬القرطاجي‭ ‬من‭ ‬التحلي‭ ‬بقيم‭ ‬التسامح‭ ‬وقبول‭ ‬الآخر‭.. ‬فلقد‭ ‬كانت‭ ‬قرطاج‭ ‬مفتوحة‭ ‬للأجانب‭, ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬فيها‭ ‬جاليات‭ ‬أجنبية‭ ‬من‭ ‬إغريق‭ ‬ومصريين‭ ‬وأترسكيين‭ ‬وايباريين‭ ‬وأجانب‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬الأقطار‭ ‬القريبة‭ ‬والبعيدة‭ ‬والجزر‭.. ‬وكان‭ ‬الاغريق‭- ‬حسب‭ ‬الأستاذ‭ ‬الصادق‭ ‬شعبان‭- ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الجاليات‭, ‬وكانت‭ ‬لغاتهم‭ ‬وآدابهم‭ ‬وعلومهم‭ ‬وفلسفتهم‭ ‬تدرس‭ ‬في‭ ‬قرطاج‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أساتذة‭ ‬اغريق‭.. ‬وكالت‭ ‬الجالية‭ ‬الإغريقية‭ ‬قد‭ ‬تحصلت‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬إقامة‭ ‬معبد‭ ‬مخصوص‭, ‬كما‭ ‬تبنى‭ ‬القرطاجيون‭ ‬الهة‭ ‬مصريين‭ .. ‬وكان‭ ‬القرطاجيون‭ ‬يتقنون‭ ‬عديد‭ ‬اللغات‭ .. ‬وانك‭ ‬لما‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬شخصية‭ “‬حنبعل‭” ‬فستجدها‭ ‬نتاجا‭ ‬لعظمة‭ ‬الحضارة‭ ‬القرطاجية‭ ‬من‭ ‬ناحية‭, ‬ولتفتح‭ ‬قرطاج‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬الحضارات‭ ‬الإنسانية‭ ‬المتاخمة‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.. ‬وخاصة‭ ‬منها‭ ‬الحضارة‭ ‬اليونانية‭ ‬متجسمة‭ ‬في‭ ‬مدرستها‭ ‬العقلية‭ ‬القوية‭.. ‬‭ ‬بحيث‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬القرن‭ ‬الثالث‭ ‬قبل‭ ‬الميلاد‭.. ‬كانت‭ ‬قرطاج‭ ‬أمة‭ ‬نابهة‭ ‬أنجبت‭ ‬رجلا‭ ‬نابغا‭.. ‬حمل‭ ‬لواء‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭ ‬في‭ ‬عصره‭.. ‬فوجب‭ ‬التعرض‭ ‬لشخص‭ ‬″حنبعل″‭- ‬لاحقا‭- ‬كواحد‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬الفكر‭ ‬الإنساني‭..‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 اوت 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING