الشارع المغاربي: الكراهيّة والحقد والبغضاء هي بعضٌ من المشاعر الشيطانيّة الساكنة فطريّا في النفس البشريّة، وقدرُنا طيلة المسيرة الدنيويّة أن نحوّلها إلى محبّة وتسامح وعفو وعطاء، على معنى الآية الكريمة والبليغة: “ونفس وما سوّاها قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها”. قدرُنا إذن أن نزكّي أنفسنا دنيويًّا لنفوز بأرقى الدرجات أُخْرويًّا.
وقد كنت ممّن اعتقدوا أنّ السيد قيس سعيّد نظرًا إلى ما يبديه من حماس وورع شديدين لدينه إلى درجة التماثل، ضمنيّا على الأقلّ، مع الخليفة عمر بن الخطاب قد أدرك عمق المعاني الواردة في هذه الآية الكريمة. فدأب على ترويض مشاعر النفس الكريهة والإجهاز عليها بسلطان الروح التي تروم الفلاح عن طريق التزكية الدؤوبة لذاتها.
اليوم خاب ظنّي فيه، بعد أن جازفتُ على إثر فوزه في الانتخابات الرئاسيّة بالاستبشار بما قد يُضْفِيه من سموّ الأخلاق ورفعة المشاعر لتنقية المستنقع السياسي الذي غرقت بلادنا في أوحاله. خاب ظنّي بعد أن اتّضح بسرعة أنّ الكراهيّة مكوّنٌ غريزيٌّ عميقٌ في نفسه ومحرّكٌ نشيط الدفع في تصرّفاته وأقواله بوصفه رئيس الجمهورية، إذْ لم يسلم من شرّه لا شارد ولا وارد، لا بورقيبة ولا اليهود التونسيّون ولا فئات عديدة من الطبقة السياسيّة لم ينفكّ عن تهديدها ووعيدها، دون حجّة دامغة ولا دليل قاطع، بنبرات صوتيّة تنمّ عن نفسٍ لم تتعفّف بعد عن مشاعر الكراهيّة.
ما معنى مثلا أن يشترط تغيير التسمية الرمزية لكأس تونس لكرة القدم من كأس الحبيب بورقيبة إلى كأس رئيس الجمهورية، وقد جرت العادة طبقا لاختيارات الجامعة التونسية لكرة القدم أن يُسمّى الكأس رمزيا في كل موسم باسم شخصية تاريخية تونسية؟
قد تكون لقيس سعيّد كمواطن عادي مآخذ وسخط على بورقيبة، وهذا من حقّه، لكن بصفته رئيسًا للجمهوريّة فإنّه وصل إلى منصب الرئاسة بعد رؤساء كان لهم دور موضوعي في إنضاج المسار التاريخي الذي أفضى في نهاية الأمر إلى فوزه هو نفسه في الانتخابات الرئاسيّة. وهو ما يدعوه إلى الارتقاء إلى مستوى ما يفرضه التاريخ من تجرّدٍ وتعالٍ على الذاتيّات، وأن يُقدّر في بورقيبة ما هو تاريخي قبل ما هو سياسي!، لا سيما أنّ قيس سعيّد يحمل بالحجّة افتراءات تجاه بورقيبة لا تليق بأستاذيّته الجامعيّة الفارضة للتحرّي المنهجي قبل أيّ استنتاج واستدلال. “كلّ من اقترب من السلطة كان مصيره الإعدام مع بورقيبة”، هذا ما صرّح به قيس سعيّد في حديثه الشهير لجريدة “الشارع المغاربي” سنة 2019. افتراءٌ استقاه ربّما من حديث المقاهي التي كان ولا يزال يرتادها، إذ ما عدا صراع بورقيبة الدرامي مع المرحوم صالح بن يوسف الذي سعى بدوره إلى اغتيال بورقيبة في مناسبتين على الأقلّ وانتهى باغتياله هو، فإنّ التاريخ لم يسجّل أبدًا مثالا واحدًا لما افترى سعيد على بورقيبة!.
ألم يخطر ببال الأستاذ سعيد أن يتّعظ بما هو سائد في الأنظمة العريقة التي تحترم تاريخها إلى حدّ التقديس بما فيه ممّا ثمّن الزمن وما أدان؟ هل سعى الإخواني التركي رجب طيّب أردوغان مثلا أو فكّر حتّى مجرّد التفكير في محو آثار باني الدولة العلمانيّة التركيّة الماسوني كمال أتاتورك؟… وأخيرًا بعد الموجة العالميّة الداعية إلى مراجعة تاريخ الدول الاستعماريّة على إثر القتل العمد لمواطنٍ أمريكي زنجيّ على يد قوّات البوليس، هل أذعن القادة الحاليّون لتلك الدول لهذه الموجة أم أبقوا على المعالم المرتبطة بأسماء الاستعماريّين كجزء لا يتجزّأ من تاريخ بلادهم؟.
كراهيّة قيس سعيّد لبورقيبة، القديمة على ما يبدو، طبعت مع الأسف العلاقة المتحضّرة، مؤسّساتيًّا التي من المفروض أن تجمع بين رئيس سابق ورئيس لاحق للجمهورية نفسها. وهو ما جعله لا يترك فرصة تمرّ إلا وينساق لكراهيّته تلك بأشكال عدّة: إمّا التجاهل المتعمّد لذكر اسمه في خطابه المؤسّس لرئاسته أمام البرلمان أو عن طريق التنسيب وحتّى تقزيم فضائله على البلاد كإصدار مجلة الأحوال الشخصيّة. مواقف كان يمكن أن يكون لها اعتبار لو سبق لسي قيس سعيّد أن أفصح بمثلها وبورقيبة في الحكم!. فمن شيم العقلاء وأصحاب الأرواح المزكّاة ألا يشملوا الأموات بالافتراء والضغينة، وإنّما بالتناغم مع روح الإسلام بالرحمة والنزاهة: “واذكروا موتاكم بخير”. أمّا التقييم السياسي لسياسي ميّت فمن مشمولات رجال التاريخ، لا رجال الحقد والكراهيّة!. ولعلّ في نبل وسموّ شخصيّات تونسيّة يساريّة وديمقراطيّة ممّن كابدوا أهوال السجن والنفي في عهد بورقيبة ما من شأنه أن يُلهم قيس سعيّد مستقبلا نظرة إلى بورقيبة تسمو عمّا هو قريب من الدناءة. فمن بين تلك الشخصيّات من يُعرّف نفسه اليوم بـ”البورقيبي”، ومنهم من يُقرّ لهذا الرجل بجليل الخدمات والتضحيات من أجل هذا الوطن، على عكس السيد قيس سعيّد الذي لم ينل شرف أيّة مضايقة تُذكر لا في عهد بورقيبة ولا في عهد بن علي…
مهما يكن من أمر لا أرى شخصيًّا محوًا لاسم بورقيبة ما دامت تونس موجودة. وسيظلّ اسمه مقرونا اقترانا عضويًّا بالتاريخ الحديث للأمّة التونسيّة، وسيبقى اسمه مرسومًا على ملعب المنستير وعلى أهمّ شارع في العاصمة وعلى العشرات من المؤسّسات التربويّة والصحيّة والثقافيّة والرياضيّة التي زرعت في الديار التونسيّة في عهده وفي بعض الأحيان برعايته الشخصيّة. أمّا حضرة قيس سعيّد، فكما تقول التعبيرة التونسيّة: “يا ذنوبي”…
كراهيّته الغريزيّة المتأصّلة في نفسه جذريّا طالت أيضا اليهود التونسيّين! فقد رفض قيس سعيّد ولأوّل مرّة في تاريخ تونس أن يقدّم، بصفته رئيس كلّ التونسيّين مهما كانت دياناتهم، التهاني إلى التونسيّين اليهود بمناسبة حلول السنة العبرانيّة. يا للهول! لقد نزلتَ سي قيس سعيّد بالمؤسّسة الرئاسيّة إلى الدرك الأسفل! فهل تتجرّأ مثلا على ألّا تُهنّئ التونسيّين المسلمين بحلول السنة الهجريّة أو المولد النبوي الشريف؟ لا علم لنا بسبب امتناعه هذا، لكن مهما كان السبب فلن يكون إلّا “لا سبب”، سبب منعدم أصلا لضربه لا فقط بكلّ القيم المتحضّرة وبدستور البلاد عرض الحائط، ولكن أيضا وهو الأخطر بالنسبة إلى رجل يدّعي في الإسلام معرفة وفي عمر بن الخطاب مثالًا جوهر الدين المحمدي! هل أتاك سي قيس سعيد ما جاء في محكم التنزيل حول من امتنعت عن تهنئتهم بعيدهم؟: “إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل عملا صالحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ” (هادوا نسبة إلى اليهود). آية 62 سورة البقرة.
أكتفي بهذا القدر، وكفى بالله وكيلا…