الشارع المغاربي: تضاربت الروايات الرسمية حول أسباب أزمة الخبز بين رواية ” المؤامرة” التي قدمها رئيس الجمهورية قيس سعيد وقال ان الهدف من ورائها تأجيج الأوضاع الاجتماعية لغايات سياسية بقيادة “4 أسماء معروفة” ورواية “اللهفة” الشبيهة بمجاعة وفق وزيرة التجارة وأخيرا رواية اضطراب ظرفي في التوزيع حسب مدير المنافسة فيما تحذّر تقارير جدية من ازدياد أزمة الخبز حدة خلال الأشهر القليلة القادمة.
اتهم رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم امس الاثنين 22 ماي 2022 اربعة ” اسماء” أكد انها معروفة بالوقوف وراء ازمة الخبز مشددا على ان الهدف من ورائها يتمثل في تأجيج الأوضاع الاجتماعية . سعيّد لفت من مقر وزارة الفلاحة اين التقى بالوزير وعدد من المسؤولين بالوزارة الى ان الازمة ستشمل قريبا المحروقات .
تصريحات سعيد تتقاطع مع تصريحاته نهاية الأسبوع المنقضي خلال اللقاء الذي جمعه بوزيرة التجارة لكنها تتناقض في المقابل مع المعطيات المُقدمة من قبل الحكومة لاسيما على مستوى وزارتي التجارة والمالية حول أزمة الخبز التي اصبحت متواترة بين فينة وأخرى. وذلك على خلفية الصعوبات التي تعيش على وقعها المالية العمومية وتحوّلت الى مصدر تذمر واسع وغضب شعبي في عدد من الولايات بشكل ازعج الرئيس سعيد بالنظر ربما الى “حساسية الخبزة” سياسيا واجتماعيا وسجلها التاريخي كشرارة “احتجاجات” تبقى اهمها أحداث الخبز الشهيرة التي تحولت الى ” انتفاضة” خلال شتاء عام 1984 ولم تنته الا بتراجع سريع من السلطة عن قرار ترفيع في سعر الخبزة وعدد من المواد الاساسية ضمن اجراءات لرفع الدعم.
أزمة هيكلية
يمكن وصف الحوار الدائر يوم أمس بين رئيس الجمهورية ووزير الفلاحة حول أزمة الخبز بالسريالي لمن تابع تصريحات وزيرة التجارة ومدير المنافسة بها من جهة والمهنيين من جهة اخرى. فوفق سعيد فإن الاشكال “غير طبيعي” كاشفا عما اسماها بـ “ترتيبات” لتأجيج الأوضاع الاجتماعية يقودها ” من يعيشون في الظل” و” يتحكمون في كل شيء” ويضنون انهم سيفلتون من العقاب” وانهم ” فوق القانون وفوق المحاسبة” داعيا ” المسؤولين الوطنيين” الى ” التصدي لهم” مؤكدا ان الامر يتعلق بـ 4 اسماء معروفة.
سعيّد توعد بمحاسبة من ” يعملون على العبث بقوت الشعب ” و من ” يعمل على تجويعه والتنكيل به ” مشدّدا على ان ما يحصل اليوم أشبه بما حدث في “مارس 2017” ( في إشارة لاحتجاجات قطاعات واسعة) وتوعّد أيضا الاداريين ممن ” لا يتحملون المسؤولية ” و”الخائفين” الذين يتردّدون في اتخاذ القرارات او التوقيع في انتظار مآلات الاحداث و”غدوة شنوة باش يصير” وفق قوله لافتا الى ان كل ” القرارات تستند الى الارادة الشعبية”. فات سعيد التطرق الى الاهم وهو يطرح ملف ازمة الخبز من مقر وزارة الفلاحة و الاهم في حلقة الازمة هو قطعا ديوان الحبوب الذي يعد أحد ابرز الهياكل التابعة للوزارة.
وضعية هذه المؤسسة العمومية كارثية بالنظر الى حجم ديونها التي ناهزت حتى نهاية شهر ديسمبر 2022 خمسة مليارات دينار ( 4 مليارات و768 مليون دينار و74 الف دينار) وفق التقرير السنوي للبنك الوطني الفلاحي بما يعني استهلاك كل موارده الذاتية. الى ذلك تخلفت الدولة عن صرف مليارين و385 مليون دينار و74 الف دينار من ميزانية الدعم بما يجعل الديوان عاجزا عن استيراد حاجات السوق من القمح وفق منظمة “الارت” وذلك في تعليلها لوصفها تصريحات قيس سعيد في علاقة بأزمة الخبز بالمضللة.
حسب أرقام المرصد الوطني للفلاحة التابع للوزارة والصادرة منذ ايام قليلة ، تراجعت واردات الحبوب اواخر شهر افريل المنقضي بنسبة 13.4 في المئة مقارنة بنفس الفترة من السنة الفارطة وبلغت قيمة الواردات 1417 مليون دينار فيما ذكرت نفس المنظمة انه تم التخفيض خلال شهر افريل الماضي في كمية القمح الصلب الموزعة من قبل الديوان بنسبة 30 في المئة وانه تم الى حدود يوم 20 ماي المنقضي توزيع 15 في المئة لا غير من الاستهلاك الشهري فيما ينتظر ان يتم حتى نهاية نفس الشهر توزيع 500 الف قنطار فقط من نفس المادة بما يعني تسجيل انخفاض بـ 50 في المئة بالتمام والكمال.
يُموّل واردات تونس من ” القمح اللين الذي يستعمل لانتاج الفارينة ” البنك الاوروبي لاعادة الاعمار والتنمية عبر قرض بقيمة 150 مليون اورو و500 الف ارورو ضمن مشروع الاستجابة لصمود الامن الغذائي بالاضافة الى قرض من البنك الافريقي للتنمية بقيمة 80 مليون دولار ضمن” مشروع الدعم الطارئ للأمن الغذائي وقرض ثالث من البنك الدولي بقيمة 130 مليون دولار.
لذلك ينتظر ان تتفاقم ازمة الخبز خلال الاشهر القادمة مع انتهاء خطوط التمويل التي تحصلت عليها تونس بدعم اوروبي-امريكي بشكل طارئ تحت عنوان اجراءات دعم من تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية “. ينضاف الى ذلك النقص الحاصل في القمح الصلب (السميد) مع توقعات بألا يتجاوز المحصول المحلي العُشر فيما تشير معطيات رسمية الى انه تمت تغطية احتياجات الفترة الفارطة (شهرا مارس وافريل) عبر استهلاك كامل المخزون في انتظار وصول شحنات جديدة تتعطل باستمرار بسبب اشكاليات في خلاص المزودين. نقص كبير ولّد ضغطا على مادة الفارينة.
وأزمة الخبز هي نتاج لأزمة هيكلية وشاملة لمنظومة وصلت الى منتهاها بعد تأخر الإصلاحات وتواصل “سياسة الامتيازات” لما يسمى بالكارتلات التي انتفعت لعقود. وان تم مؤخرا اقرار بعض الاجراءات على غرار دعم الفلاح عبر الترفيع في اسعار شراء القمح فإن الطريق لا تزال طويلة في غياب تصور كامل، وفق الهياكل المهنية ، للبدء في تحقيق أمن غذائي. تصوّر ينطلق عبر الإقرار بالأزمة في ظل حالة الإنكار التي تتخبط فيها السلطات القائمة.
السياسي والموضوعي
نفس المشهد يتكرر تقريبا في جل أحياء الجمهورية بين مخابز أوصدت أبوابها أو مفتوحة لساعات قليلة بما يجعلها لا تكاد تستجيب لاحتياجات طوابير من المواطنين يقفون يوميا في انتظار الظفر بـ” خبزة” دون ان يخفوا تذمرهم وغضبهم من النقص الحاد ومن صعوبات الحصول على هذه المادة . ولقد عرفت الازمة ذروتها بعدد من الولايات خلال الاسبوع المنقضي وتجلّت في وصول سعر ” الخبزة ” الى دينارين مع ارتفاع سعر “الطابونة” التي باتت “البديل” بما لا يقل عن دينار في أحسن الاحوال بعد ان كان سعرها لا يتجاوز 800 مليم.
يقول المهنيون ان ما يحدث اليوم هو في النهاية نتيجة عدم تحسّس السلطات القائمة خطر سوء إدارة هذا الملف طيلة الثلاث سنوات الأخيرة ورفضها الحلول المقترحة لتفادي ” الأسوأ” بالنسبة إليهم وبالنسبة للمستهلك على حد سواء . وهذه الازمة كانت متوقعة ومنتظرة استنادا الى واقع المالية العمومية من جهة ولوضعية ديوان الحبوب من جهة اخرى وما انجر عن ذلك من صعوبات التزود. نقص يُعدّ وفق عدة قراءات سياسة مثالية للرفع المقنّن للدعم.
حسب رئيس الجمهورية لا يعدو ان تكون الازمة سوى مؤامرة تهدف لضرب السلم الاجتماعية، في المقابل دعت وزيرة التجارة الى التقليل من اللهفة مشددة على وجود إقبال وصفته بغير العادي على الخبز مؤكدة ان ” البلاد لا تعيش مجاعة” . وأبرزت ان الاضطراب في التزود بالقمح الصلب ولد ضغطا على القمح الليّن كاشفة أنه سيتم توريد هذه المادة بالنظر إلى تراجع الانتاج مقارنة بالسنة الفارطة.
من جهته اكد حسام الدين التويتي مدير المنافسة والابحاث الاقتصادية بوزارة التجارة ان مرد النقص في الخبز اضطرابات ظرفية وضغط كبير على مستوى الطلب.
كما لفت التويتي إلى أن سبب الاضطراب في توفير الفارينة خلال الأسبوع المنقضي حصول تأخير بـ3 ايام في عملية تفريغ باخرة محمّلة بالقمح اللين بسبب سوء الأحوال الجوية الى جانب تزامن ذلك مع العطلة الأسبوعية لعدد كبير من المخابز مقابل ارتفاع الطلب.
غياب الانسجام وازدواجية الخطاب هما سمة تعاطي منظومة 25 جويلية مع كل الازمات بين خطاب رئاسي يغلب عليه ” الانكار” وغياب التشخيص الموضوعي وخطاب حكومي بسقف عال من التطمينات والوعود والاجراءات دون ان يكون لها اثر على ارض الواقع. وفي كل الأحوال ستكون السلطات في مواجهة تحديات حقيقية مع توقعات بدخول أزمة الخبز مستويات غير مسبوقة خلال الاشهر القادمة اذا تواصل الوضع على ما هو عليه من حيث توفير التمويلات الضرورية لتأمين التزوّد بالقمح اللين والصلب واذا لم تجد حلولا لاشكاليات المخابز المصنفة والعصرية على حد سواء التي ستنطلق مع بداية شهر جوان في اضرابات وتحرّكات بسبب عدم صرف مستحقات الدعم منذ اكثر من 14 شهرا من جهة ورفض الحد من كميات السميد والفارينة من جهة اخرى.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 23 ماي 2023