الشارع المغاربي: طوت البلاد شهرها السادس بعد قرارات 25 جويلية وأكملت حكومة السيدة بودن المدة الرمزية لمائة يوم، ودخلنا مرحلة غابت فيها الوحدة الوطنية والوضوح وحضر فيها إحتدام الصراع والضبابية في غياب تام لـ”الشعب” الذي انتشر يبحث عن الزيت والسميد والدواء متناسيا كل مهمة سياسية. هذا المشهد التونسي يطرح علينا عديد الأسئلة أهمها تشخيص الحصيلة ثم البحث عن الآفاق.
أولا، لا يخفى على عاقل حجم التباطؤ الكبير الذي طبع هذه الفترة . بطء في طي صفحة الفساد السياسي والمالي وبطء في محاسبة من تغوّل على الدولة وارتهن مؤسساتها وحذق لعبة الديمقراطية المغشوشة التي حول بها الإنتقال الديمقراطي إلى انتقاء سياسي وأد الديمقراطية نفسها في كل معانيها السامية والشاملة وحوّلها إلى استهزاء بعقول التونسيين واستخفاف بطموحاتهم في عيش كريم فوق أرضهم. وكذلك بطء في فتح الملفات الخطيرة، فلا يمكن فتح صفحة جديدة دون غلق ملف الإغتيالات ومعرفة المسؤولين عنها ودون غلق ملف التسفير ومعرفة الضالعين فيه ودون الكشف عمّا إذا كانت بالبلاد أجهزة وأذرع سرية ونحن نحيي هذا الأسبوع الذكرى الأليمة لستة فيفري ذكرى إغتيال الزعيم شكري بلعيد .
البطء في فتح هذه الملفات يبعث على التخوف والشك في قدرة السلطة على المضي في تحقيق كل وعودها التي قطعتها على نفسها أمام التونسيين وبشهادتهم. ثانيا، تتخبط البلاد في وضع إقتصادي صعب وظروف مالية أصعب. فقانون المالية الذي سُنّ بموجب مرسوم لم يأت بما يمكّن من مقاومة التهرب الجبائي. ولم تهتد السلطة إلى إعادة الثقة إلى المستثمرين بل إن ركود السوق عاد بنا إلى سنوات التقشف التي خلناها لن تعود. فأصبحت وزارة التجارة تقوم مباشرة بتوزيع السلع الأساسية من زيت وسميد في مشاهد تذكرنا بستينات القرن الماضي. وأصبح التحذير من انهيار الاقتصاد الوطني يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي وعن رؤساء المؤسسات الاقتصادية. كما إن غياب الحلول المجددة والعادلة والمشروعة في التعامل مع المديونية لن يزيد الأزمة إلا عمقا منذرا بتحوّل الإحتقان الاجتماعي إلى تحركات إجتماعية للدفاع عن المقدرة الشرائية والشغل والمكاسب الاجتماعية.
ثالثا، أصبح التخوف من التضييق على الحريات مشروعا أمام إطلاق اليد للتعامل العنيف مع المعارضين للسلطة بوصفهم مواطنين وكذلك أمام عنتريات بعض الولاة والميل المتجدد لإدارة التلفزة العمومية نحو لون واحد وصوت أوحد… وعلى مستوى آخر أصبح غياب التحقيق الجدي في تمويلات الجمعيات والتدقيق في حساباتها يثير الاستغراب أمام تهاطل الإتهامات بالفساد المالي . إن هذا الوضع لا يحتمل الإطالة والمزيد من الانتظار. ولأن تركة العشرية المنقضية ثقيلة جدا لا يستقيم التعامل معها بانتقائية وفردانية. لا تستقيم الإنتقائية لأن الملف الاقتصادي والاجتماعي هو بنفس أهمية الملف السياسي بل ربما كان أهم لسبب بسيط هو أن تحسين ظروف العيش هي غاية كل سياسة. ولأهمية هذه الملفات يتطلب الإنقاذ الإقتصادي تشريك كل المتدخلين والاستماع إلى أصحاب الاختصاص الذين تزخر بهم بلادنا. كما أنه لا يمكن اختزال حلحلة الأزمة السياسية في القيام بإستشارة وطنية لأن الحلول المنتظرة والمرجوة واللازمة تتجاوز مخرجات الاستشارة. هذا إذا سلمنا بتمثيليتها ونزاهتها وهو أمر يرصده جميع الملاحظين. لكن الحاصل إلى حد الآن هو الاخراج الإنتقائي لبعض نتائجها وهو ما يفرض جديا وبإلحاح وجود هيئة محايدة ونزيهة ومستقلة للقيام بتأليف نتائج هذه الاستشارة حتى تحافظ على جديتها وحتى لا تنعت بأنها أداة لتكريس اختيار مسبق. في الازمات، إذا أردنا خروجا سريعا وآمنا منها لا غنى لنا عن الحوار لأن البديل عنه هو تعميق الأزمة والاملاءات والتدخل الخارجي وربما أيضا الوصول إلى العنف المنظم. لكن الحوار مع من؟ هو بلا شك ليس مع من يقصي نفسه وليس مع من يخرج من مربع الجمهورية الديمقراطية والمدنية وليس مع من يثبت القضاء مسؤوليته في العنف وقيامه بجرائم مالية . الحوار التونسي-التونسي الذي دعا اليه في سابقة الأمين العام للأمم المتحدة للخروج من الأزمة يبقى الحل الوحيد والأوحد لتفادي الاسوأ . فالأسوأ هو الهروب الى الأمام بكل التبعات والمخاطر …أما الأقل سوءا فهي إنتخابات بنفس القانون الانتخابي وفي نفس المناخ المتعفن ربما تعيد لنا من كان مسؤولا عن هذا الكم من الإخفاقات والاختيارات الخاطئة والمخطئة.. الحوار لا معنى له دون المنظمات الوطنية الكبرى ودون مشاركة قوى المجتمع المدني الديمقراطي والاجتماعي والجندري ولا معنى له دون إشراك ممثلي القطاعات. والحوار لا معنى له دون فريق يرعاه ويديره في إطار برنامج وطني للإنقاذ ينفي المصالح الفئوية من أجل المصلحة الوطنية وفي أفق سقف زمني محدد حتى لا نبحث فيه عن جنس المباركة من جديد.الحوار سيبحث عن إجابات عاجلة وضرورية لإنقاذ الإقتصاد والمالية العمومية ولإنقاذ النهج الديمقراطي بتصور مناخ انتخابي جديد ولوضع تصور جديد لعلاقة السلط ببعضها في إطار وحدة الدولة وأخيرا لتثبيت كل المكاسب المجتمعية التي راكمها الشعب في إطار مسيرته نحو التقدم والرقي. وعلى الرئاسة أن تبقى على مسافة من هذا الحوار، مسافة تحافظ بها على وقار مركزها وهيبتها ودورها التحكيمي. وإن تونس تزخر بمن لهم الخبرة والكفاءة والنزاهة والوطنية والإشعاع الداخلي والخارجي والذين أكّدوا أن لا رغبة لهم في أي دور سياسي في المستقبل .
سأبقى على قناعتي العميقة بأن لتونس قدرة عجيبة على تجاوز الأزمات بأخف الأضرار. ففي لحظة تضيق فيها بنا السبل تأتي مبادرة تنير الدرب وتعيد الأمل.. هذه اللحظة مازالت ممكنة لنتفادى الاسوأ ونغلق منافذ الفوضى والعنف.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 فيفري 2022