الشارع المغاربي: الحراك الامريكي المكثف في الداخل التونسي خلال الاسابيع الاخيرة يثير التساؤلات خاصة مع تضارب الروايات بخصوصه وتكتم جل القوى السياسية التي كانت طرفا في محادثات مع كبار المسؤولين سواء في البيت الابيض أو في سفارة الولايات المتحدة الامريكية بتونس .

تنطلق الحكومة اليوم الثلاثاء في مفاوضات تقنية مع صندوق النقد الدولي حول مشروع اتفاق جديد للحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار حسب تصريح سابق لرئيس الحكومة هشام المشيشي لوكالة رويترز. مفاوضات اكد وزير الاقتصاد والاستثمار والمالية علي الكعلي انها ستتم بنسق سريع وانها ستكون بمعدل اجتماع كل يومين بهدف التوصل لاتفاق في غضون شهرين بالنظر الى الالتزامات المالية العاجلة للدولة سواء لسداد ديون حان اجل خلاصها او في شكل نفقات وعلى راسها صرف الاجور.

وفي تقديمه لحصيلة زيارة واشنطن، تحدث الكعلي في حواره لاذاعة «اكسبراس اف أم» بلهجة تفاؤل عن دعم امريكي ثلاثي الاول عبر مساندة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي وهو ما اشارت اليه نائبة الرئيس الامريكي كاميلا هاريس في بيان صادر عن البيت الابيض، والثاني عبر هبة بقيمة 500 مليون دولار من «مؤسسة تحدي الالفية «قال انها الاهم في تاريخ الدولة والثالث في شكل ضمان بقيمة مليار دولار سيسهل مهمة الخروج للاقتراض من السوق المالية الدولية.

هذا الدعم الامريكي مشروط بالتسريع في تنفيذ اصلاحات غير مسبوقة تتطلب توافقا سياسيا واسعا، حسب عبد السلام العباسي المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة الذي كان ضمن الوفد التونسي. العباسي شدد في تصريح لإذاعة موزاييك يوم امس على ان « نجاح المفاوضات مع صندوق النقد الدولي مشروط بتوافق سياسي»، يبدو ان التوصل اليه سيتم برعاية امريكية، اذ ان مصدرا موثوقا اشار في هذا الصدد الى ان اللقاء الذي عقد بين سفير امريكا دونالد بلوم ورئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي في مقر الحزب تطرق الى «مناخ تنفيذ الاصلاحات» والى ان السفير طرح بين الاسطر دعم الولايات المتحدة الامريكية سياسة التوافق وحكومة وحدة وطنية والى ان هذه النقطة طُرحت أيضا لرئيس الجمهورية قيس سعيد.

خفايا اللقاء

شكل تحول السفير الامريكي بتونس دونالد بلوم شخصيا الى مقر الحزب الدستوري الحر مفاجأة في المشهد السياسي، اذ ان هذه الزيارة غير المنتظرة سبقها خطاب حاد واتهامات مباشرة وجهتها عبير موسي للسفير منها التدخل في الشأن الداخلي التونسي عبر عدد من المنظمات الامريكية «الراعية للانتقال الديمقراطي» .وجاءت الزيارة ايضا بعد 3 أسابيع من تلقي موسي رسالة رسمية من السفارة بتاريخ 26 افريل 2021 ردت فيها على «التوضيحات» التي طالبت السفير بتقديمها حول جملة من النقاط منها ما يتعلق بحزبها .

وموسي التي رفضت في وقت سابق مقابلة مساعد السفير الامريكي، خصصت جزءا من خطابها في صفاقس يتاريخ 20 مارس 2021 لتقييم سياسة الادارة الامريكية في التعاطي مع الشأن التونسي وتوجهت خلاله للرئيس جو بايدن بالقول «إن أردتم أن نناقش التعاون فمرحبا… أما غرس عملائكم في البرلمان والإعلام والمؤسسات الوطنية فلا يمكن أن يمر». وهذا التوعد الذي جعل البعض يشبهها بسخرية بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ، كان في سياق الجبهة التي فتحتها ضد منظمات امريكية واساسا المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية والذي اتهمته باختراق البرلمان.

 هذه الاتهامات وغيرها ضمنتها موسي في رسالة وجهتها الى سفير امريكا طالبته فيها بتوضيحات حول « تعمد بعض المحللين السياسيين المنتمين لتيارات متشددة وبعض الموالين للتنظيم الذي يقوده رئيس البرلمان وذراعه العنيف والتكفيري التصريح خلال تدخلاتهم بمنابر إعلامية بأن لديهم معلومات لا مجرد تحاليل بأن أمريكا قد أطلقت صفارة تشكيل المشهد السياسي الجديد وأصدرت قرارا بتنحية عبير موسي من حزبها «وطالبت موسي أيضا بالرد على مخطط نقلته نفس الأطراف يتمثل في الإعداد للتدخل في مؤتمر الحزب والدفع بأطراف محسوبة على العائلة الدستورية لإثارة مشاكل مفتعلة داخله خدمة لتسوية جديدة تعتمد على عنوان جديد للحزب وعلاقات جديدة بينه وبين تنظيم الإخوان في تونس.»

هناك من ربط بين الزيارة وحدة خطاب موسي تجاه السفير والسفارة والادارة الامريكية واعتبر انها تهدف لـ»احتواء التوتر» ولـ»وضع النقاط على الحروف « ضمن مبادرة من السفير للنأي بنفسه وبالسفارة عن الاتهامات الموجهة لشخصية سياسية تتزعم المعارضة ومحل تهديدات جدية بالتصفية الجسدية . لكن أحد المقربين من رئيسة الحزب شدد لـ«الشارع المغاربي» على ان اللقاء كان بمثابة اعتراف واضح على «المكانة التي يحظى بها الحزب في المشهد السياسي باعتباره يتزعم المعارضة ويتصدر مختلف نتائج سبر الاراء ويمثل احد الكتل الوازنة في مجلس نواب الشعب» مشيرا الى ان السفير الامريكي «اكد مساندة بلاده للتوافق السياسي في تونس» والى انه اكد ان «الاصلاحات المرتقبة ضمن اتفاق مع صندوق النقد الدولي تتطلب هدنة سياسية واجتماعية ومشاركة واسعة لانقاذ الاقتصاد الوطني من مخاطر الافلاس».

كما ابرز المصدر ان «الحزب فهم من خطاب السفير انه قد يكون يطرح مشروع توافق جديد يضم الحزبين الكبيرين اي « الحزب الدستوري الحر وحركة النهضة مبينا في هذا السياق ان « عبير موسي التي ذكّر بأنها التقت السفير بحضور قياديين من الحزب جددت رفض أي تدخل اجنبي في الشأن الداخلي وانها قدمت ما أسماه بالرؤية الاصلاحية للحزب التي قال انها تقوم على «منظومة حكم لا يشارك فيها الاخوان» .

وبالنسبة للدستوري الحر ، يضيف المصدر ان اللقاء مع السفير كان فرصة للحصول على توضيحات بخصوص «التدخل الامريكي في تونس» و«الاصطفاف مع حركة الاخوان» تحت غطاء دعم الديمقراطية التي تُعتبر بالنسبة للحزب شكلية وانها «فصلت على مقاس منظومة ربيع الخراب» بما تسبب في عشرية من الفشل على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وان «لا خلاص الا برحيلها».

ما يُتداول حول فحوى لقاء السفير بعبير موسي يُحيل الى مبادرة لبناء تقارب مع حركة النهضة يحتمه الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعيش على وقعه البلاد وتكون الولايات المتحدة الامريكية عرابته يفضي في نهاية المطاف الى خارطة طريق للمرحلة القادمة على شاكلة ما حصل مع حزب نداء تونس ومرحلة « توافق الشيخين « بين رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي والرئيس الراحل الباجي قائد السبسي .

هذا التوجه يقول المصدر انه مرفوض «تماما داخل الحزب ،وغير مطروح لا في اطار تسويات تحت مسميات الانقاذ ولا في صورة الفوز في الانتخابات وتحت اكراهات نتائج الصندوق مثلما فعل كل معارضي النهضة الذين انقلبوا على تعهداتهم الانتخابية بمجرد فوزهم في الانتخابات والامر بالنسبة للدستوري الحر خيار استراتيجي بنى من منطلقه شرعيته وحتى سبب وجوده السياسي كمعارض للنهضة بسردية الحزب القادم للإنقاذ بعد عقد من الخراب ومن ثورة جاءت في اطار مخطط خارجي لضرب الدولة ومكاسبها.

مثل هذا الدور لا يبدو مستغربا من الولايات المتحدة الامريكية ونذكر في هذا السياق بما كشف سفيرها السابق جاكوب والس خلال عشاء انتظم سنة 2014 في واشنطن على شرف رئيس الحكومة انذاك مهدي جمعة عندما قال انه ابلغ الادارة الامريكية بلقاءاته التي كانت تتم بشكل منتظم بين النهضة ونداء تونس وانه كان حريصا على ان تكون زياراته الى الغنوشي ثم الى الباجي بشكل دوري مبرزا انه شجع «الشيخين» على التقارب وعلى محاولة تجاوز خلافاتهما للتوصل الى توافق ينجح الحوار الوطني بقيادة الرباعي الراعي وتنظيم انتخابات على «قاعدة تفاهمات» واضحة بل وذهب السفير الى اكثر من ذلك ليلمح صراحة الى انه هو من اقترح ترشيح مهدي جمعة للحزبين وانه وجه تقريرا لادارة بلاده حول جمعة عندما كان وزيرا للصناعة وانه قال لهم «انتبهوا لهذا الرجل» .

امريكا تنزل بثقلها

لا تعد زيارة السفير الامريكي الى مقر الدستوري الحر المفاجأة الوحيدة من الجانب الامريكي . فقد تلاها اتصال هاتفي اخر مفاجئ من نائبة الرئيس الامريكي «صنصرت» رئاسة الجمهورية الجزء الاهم من مضمونه ويتعلق بتأكيدها على دعم امريكا لتونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي ولا نعلم ان كانت الرئاسة على وعي بان هذه الصنصرة سلوك غير مقبول خاصة ان البيت الابيض اصدر بيانا حول المكالمة الهاتفية وحول مضمونها .

هذه الصنصرة خطيرة ليس من حيث السلوك وتلاعب الرئاسة بمعطيات هامة ، وانما لما تعكس من موقف رافض او على الاقل متحفظ على هذه المساندة وكأنها تميل الى العكس باعتبار ان من يقود هذه المفاوضات هي حكومة ترفضها الرئاسة وتسعى لأسقاطها وتعمل على رحيلها واشترطت ذلك قبل تنظيم حوار وطني حسب ما صرح في وقت سابق امين عام الاتحاد العام التونسي للشغل . والخطير ان صراع الرئاسة مع الحكومة « صُدر» للخارج وهو امر غير مسبوق بشكل مفضوح مثلما نعيشه اليوم .

ذلك الاتصال قاد البعض للحديث بإطناب عن الاتصالات الهاتفية التي جرت بين الرئاسات الثلاث بمناسبة عيد الفطر المبارك والتي قدمت كبداية مسار لاحتواء التوتر الشديد القائم بينها منذ اكثر من 5 اشهر وعن دور امريكي واضح لانهاء الازمة السياسية.

لكن كل ذلك يبدو من باب التفاؤل المبالغ فيه خاصة مع تجنب الرئاسة الاشارة الى تأكيد نائبة بايدن على مساندة تونس في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي وهي مساندة مهمة، أو مع ما يُشبه نهاية الهدنة التي حاول ارساءها الغنوشي مع الرئيس سعيد من خلال تعليقه المؤقت لنشاطه الدبلوماسي ليعود منذ أيام بشكل لافت للإدلاء بدلوه في السياسة الخارجية من بوابة القضية الفلسطينية وقبلها في المساهمة في مجهودات الحكومة لتعبئة موارد لميزانية الدولة.

وللتذكير تُتهم الرئاسة بإفشال هذه المساعي وبضرب اية مبادرات خارجية لاحتواء الازمة او الوساطات التي كان قد اكدها صراحة القيادي في حركة النهضة رفيق عبد السلام في تصريح لموقع عربي 21 القطري وقال فيها ان «  السفير الأمريكي في تونس دونالد بلوم وفريقه أبلغ رئيس البرلمان راشد الغنوشي ورئيس الحكومة هشام المشيشي ورئاسة الجمهورية أن الإدارة الأمريكية ما تزال تدعم الانتقال الديمقراطي وسياسات التنمية في تونس وأنها مع التوافق السياسي والحوار بين أركان الدولة والأحزاب السياسي»..

كما اشاد عبد السلام بفريق الرئيس الأمريكي بايدن وخاصة بوزير الخارجية الذي قال انه سبق له أن زار تونس والتقى قيادة حركة النهضة» مرارا. واعتبر أن واشنطن ستدعم في مرحلة ما بعد «الرئيس الشعبوي» دونالد ترامب مجددا التوافق السياسي في تونس وتوقع أن يدعم فريق بايدن الديمقراطية والتنمية والعقلانية بتونس.

عبد السلام اشار ايضا الى ما اسماه بالجهود التي تقوم بها سفارات واشنطن ومفوضية الاتحاد الأوروبي والعواصم الغربية من أجل تسوية الأزمة السياسية في تونس، مشددا على ضرورة ان تتوصل «الأطراف السياسية التونسية الى التوافق دون الحاجة إلى تدخلات ووساطات، بدءا من رئيس الجمهورية». 

كل هذا يدفع للتساؤل عن خلفيات نزول أمريكا بثقلها في الشأنين السياسي والمالين اللذين باتا مرتيطين ومترابطين بشكل واضح ، هناك من يعتبر ذلك دعما من صديق للتجربة الديمقراطية ومن في المقابل يتوجس منه ويرى فيه تدخلا مسترابا فُرض على تونس بسبب وضعها الاقتصادي الدقيق.

الواضح ان الرئاسة وعبير موسي ترفضه وتعتبره طوق نجاة للنهضة وان «فانة» التداين بدعم امريكي قد تكون الغطاء الجديد لحماية النهضة وفرض بقائها في السلطة بتسويات جديدة لا يعرف ان كانت تتضمن بقاء رئيس الحكومة هشام المشيشي وحكومته الضعيفة والعاجزة ام لا ام ان هذا الدعم الامريكي السخي بوابة لمسار اخر لا علاقة له بالترتيبات الداخلية والخلافات بين الخصوم .

ما يطرح بخصوص دخول أمريكا على الخط لـ»نصرة النهضة» حسب قول البعض ، يستند الى الميزانية الضخمة التي خصصتها الحركة للتسويق لصورتها في بلاد العم سام مع مراكز نفوذ أمريكية ولوبيات ضغط ، وفق تقارير إعلامية داخلية وخارجية واخرها تقرير صادر عن Foreign Lobby Report، المتخصص في رصد مجموعات الضغط والتأثير في الخارج بواشنطن.

وكشف الموقع ان Burson Cohn BCW توقفت عن التعامل مع حزب حركة النهضة في 31 ديسمبر المنقضي، وفقًا لتحديث السجل الخاص بجماعات الضغط في الولايات المتحدة والمعروفة سابقًا باسم Burson-Marsteller والتي قال الموقع انها أمنت للحزب التواصل مع وسائل الإعلام وأصحاب النفوذ في أمريكا منذ عام 2014، وان ذلك ساعد على تهدئة مخاوف الولايات المتحدة بشأن الحزب المنضوي تحت لواء جماعة الإخوان المسلمين ودوره في السياسة التونسية. مبرزا ان تعاقد النهضة مع BCW أفاد أيضًا الحكومة التونسية على نطاق أوسع من خلال تشجيع دعم الولايات المتحدة الديمقراطية الوليدة.

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 18 ماي 2021