الشارع المغاربي: العملية العسكرية “طوفان الأقصى” التي أقدمت عليها المقاومة الفلسطينية في غزة في السابع من أكتوبر 2023 تُمثّل في مضمونها وتنفيذها وتداعياتها منعرجا تاريخيا استراتيجيا من شأنه أن يغير مجرى الأحداث ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بل سيشمل كذلك مجريات الصراع الدولي بين المعسكر الغربي والقوى الصاعدة في آسيا وأوروبا كذلك.
ما حدث في السابع من أكتوبر يعتبر على المستوى العسكري أول عمل مُسلح هجومي تقوم به المقاومة الفلسطينية وفي كنف السرية الكاملة. مما اعتُبر دوليا اخفاقا تاما لاستخبارات الكيان المحتل بل ولكل استخبارات المعسكر الغربي في الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي التي طالما مثلت نقطة تفوق لهذه الأطراف منذ أكثر من سبعين سنة.
كما شكل مفاجئة للكيان المحتل حيث كشفت العملية حالة الوهن داخل الجيش “الذي لا يقهر” وزعزعت أركانه بوصفه الضامن لوجود وتوسع هذا الكيان المستعمر الذي وُكّلت له وظائف الدفاع على المصالح الامريكية والأوروبية في قلب المنطقة العربية. التعبئة والمساندة غير المحدودة التي يتم توفيرها للمستوطنين الذين يُعول عليهم للاستيلاء على ما تبقى من فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس لتكريس الاستعمار يعتبر سياسة ممنهجة تمليها مهمة الدفاع على المصالح بالوكالة التي يقوم بها هذا الكيان الوظائفي.
من هذا المنطلق يبدو جليا أن هذا الكيان قبل بمأمورية الدفاع على مصالح الغرب بمقابل تمكينه من احتلال فلسطين كخطوة أولى. لذلك استقر رأيه على وأد حل الدولتين الذي لم يؤمن به من أصله بدليل أنه لم يحدد حدوده مما يوحي أنه مستمر في التوسع في المنطقة. وهو ما يتجلى من حرصه على الهرولة في طريق مفتوح نحو المزيد من التطبيع الواهن والمذل لأطرافه من المطبعين وبدون أي مقابل.
من أهم العناصر التي عرّتها هذه العملية أيضا خاصة لدى معشر الشباب في العالم العربي تلك التي تتعلق بكشف الوجه الاستعماري والعنصري المقيت للبلدان الغربية التي انحازت بسرعة إلى المحتل وهرولت لنجدته ورفع معنوياته التي انهارت. وهو ما صدر عن الولايات المتحدة الامريكية وبصفة خاصة بلدان الاتحاد الأوروبي وفي طليعتهم فرنسا وألمانيا وإيطاليا إضافة إلى بريطانيا. وهو الطرف التي يهمنا إقليميا حيث طالما تم اعتباره إلى اليوم “الشريك المُميز” والشريك الأساسي” لكل البلدان العربية التي وقّعت معها على اتفاقيات شراكة غير متكافئة شملت موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية ولبنان وسوريا التي سعوا لتدميرها كما فعلوا مع ليبيا بدون تفويض دولي.
بالمناسبة لطالما تعرضنا في أسبوعية الشارع المغاربي إلى خطورة هذا الوجه الاستعماري الدفين ونبهنا من طبيعته التي لم تتغير. غير أن الآلة الدعائية الداخلية والخارجية طمست هذه الحقيقة لأسباب عديدة في علاقة بمصالح اقتصادية متبادلة. كما بينا أن النزعة الاستعمارية لهذا الشريك المزيف يمثل السبب الأساسي في تأبيد المنوال التنموي الذي ساد في تونس منذ بداية السبعينات والذي تعزز منذ التوقيع على اتفاق الشراكة مع الاتحادي الأوروبي في سنة 1995. هذا الاتفاق الذي لم يتم تقييمه إلى اليوم والذي أدى إلى تدمير المسيرة التنموية الوطنية في إطار ما سُمي بالعولمة التي كرست التبادل الحر للبضائع بدون حماية ديوانية. كما أدت إلى حرية دخول رؤوس الأموال الخارجية التي مكنت المستعمر الفرنسي بالدرجة الأولى من الرجوع بقوة والسيطرة على مفاصل الاقتصاد الوطني خاصة في القطاع البنكي. كما أدت إلى تفكيك المؤسسات السيادية في البلاد وخاصة منها مؤسسة البنك المركزي التونسي.
لقد كنا نعتقد أن الثورة التونسية التي وضعت حدا للنظام السابق، الذي كرس هذا التمشي الليبرالي وفتح الباب على مصراعيه لرجوع الاستعمار، أن تكون بطبيعة الحال فرصة لتقييم اتفاق الشراكة وتداعياته على المسيرة التنموية للبلاد والعمل على مراجعته على أسس موضوعية ووطنية تعمل لصالح الشعب التونسي وضمان مستقبل أجياله. غير أنه تبين أن مناورات الاستعمار في قمة دوفيل في ماي 2011 وتواطئ السلطة والأحزاب السياسية في تونس أجهضت هذا الأمل في التدارك والإصلاح.
بل ازداد الوضع تأزما عبر سيطرة المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي الذي أمعن في فرض وصفته التقشفية بدفع ماكر من طرف البلدان الغربية وفي مقدمتها بلدان الاتحاد الأوروبي. مما أدى إلى تعطيل نسبة النمو بمعدل سنوي لا يتجاوز الواحد بالمائة على مدى عشرة سنوات نتيجة تعطيل الاقتصاد المنتج الوطني وانهيار العملة الوطنية وتعميق المديونية وارتفاع البطالة.
والمريب أيضا أنه تم الإجهاض على الفرصة الثانية التي توفرت في بداية سنة 2020 إثر اندلاع جائحة كوفيد-19 لمراجعة المنوال التنموي والخروج من سطوة صندوق النقد الدولي. حيث مثلت هذه الجائحة العالمية صدمة كبرى كرست بدون شك نهاية العولمة وانطلاق برامج جديدة سارعت في تنفيذها البلدان الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي عمادها تحقيق الأمن الغذائي والصحي الوطني لكل بلد وإعادة توطين السلسلة الإنتاجية داخل كل بلاد عبر تشجيعات مالية وجبائية هامة جدا لوضع حد لظاهرة المناولة خارج بلدانهم. مما يضمن استمرارية الإنتاج المحلي ويشجع خلق مواطن الشغل ويضع حد لتطور الاقتصاد الصيني الذي أصبح يهدد المعسكر الغربي رغم فوات الاوان.
هذا التوجه الجديد الذي يتضارب مع قوانين المنظمة العالمية للتجارة والعولمة كان من الممكن للدولة التونسية أن تنسج على منواله لتضع مخططا تنمويا اقتصاديا وطنيا الذي يتطلب مقاومة التصحر الصناعي عبر تشجيع الاستثمار المحلي لخلق نسيج صناعي جديد وتنمية فلاحية تحقق الأمن الغذائي الوطني. غير أنه تم التفريط في هذه الفرصة أيضا وإلى اليوم. حيث ما زالت البلاد تتخبط في دائرة سياسة تقشفية ثبت بالكاشف أنها فاشلة ولا تجدي نفعا.
المطلوب اليوم وطنيا القطع مع سياسة التقشف والتعويل على مقدراتنا الوطنية عبر الانخراط في سياسة تعتمد الإنتاج المحلي والتشغيل وتشجيع الاستهلاك المحلي ورد الاعتبار للمرافق العمومية في التعليم والصحة والنقل
لقد نجح الاتحاد الأوروبي منذ انطلاقه سنة 1957 في تطور بنائه وتوسع أعضائه. كما نجح خاصة في إنجاح تفاعلاته الخارجية لتتجاوز حدود القارة الأوروبية، لتصل إلى جنوب المتوسط وتحديداً إلى كافة الدول العربية المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط. وقد انطلق هذا التفاعل منذ الستينيات حين وقّع عدداً كبيراً من الاتفاقات ذات الطابع التجاري والاقتصادي مع دول المغرب العربي إضافة إلى مصر ولبنان وسوريا. وقد استمر هذا الوضع طيلة السبعينيات والثمانينيات حتى انتقل من صيغة التعاون “coopération” إلى صيغة الشراكة “Partenariat” في منتصف التسعينيات وتحديداً في نوفمبر 1995 مع انعقاد مؤتمر برشلونة الذي ضم وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي مع نظرائهم من 12 دولة متوسطية.
وقد خرج عن المؤتمر الذي سُمّي “بمسار برشلونة” أو إعلان برشلونة، والذي مثّل بداية التحول في العلاقات الأورو-متوسطية، تصور جديد للتفاعل بين الجانبين تضمّن ثلاثة محاور رئيسية:
- المحور الأول، سُمّى بالشراكة السياسية والأمنية، والتي تهدف لتأسيس “منطقة متوسطية للسلام والاستقرار قائمة على احترام حقوق الإنسان والديمقراطية”.
- والمحور الثاني، أطلق عليه الشراكة الاقتصادية والمالية ويهدف إلى إنشاء منطقة للتجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي ودول حوض البحر الأبيض المتوسط، ويسعى إلى دعم القطاع الخاص في الدول المتوسطية وزيادة حجم الاستثمارات المالية والاقتصادية داخله.
- والمحور الثالث، سمى بالشراكة الاجتماعية والثقافية والإنسانية، ويهدف إلى إحداث نوع من التقارب “بين مواطني حوض البحر الأبيض المتوسط”، بجانب تعميق التفاعل بين مؤسسات المجتمع المدني في الجانبين. وقد شدد هذا المحور على ضرورة تدعيم التعاون بين الجانبين في مجالات العدل والقانون والشئون الداخلية.
لقد نجح فعلا الاتحاد الأوروبي في تسويق هذه الشعارات البراقة نذكر منها ” تأسيس “منطقة متوسطية للسلام والاستقرار قائمة على احترام حقوق الإنسان والديمقراطية” والتي أضافوا إليها جملة أخرى مهمة ” منطقة نتقاسم فيها الثروات فيما بيننا”.
غير أننا عوض “السلام والاستقرار واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية” عشنا تدمير العراق وسوريا ولبنان وليبيا من قبل دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. أما عن تقاسم الثروات” فحدث ولا حرج عن الفقر ونهب الثروات والسطو على المؤسسات العمومية وتدمير المرافق العمومية داخل بلداننا وتدمير مقومات الهوية الوطنية الثقافية واللغوية واندلاع ظاهرة الهجرة السرية عبر وزارق الموت وهجرة الادمغة التي أضرت بثرواتنا البشرية ثمرة مجهود حكومات الاستقلال. أما عن المحور الثاني المتعلق بزيادة حجم الاستثمارات المالية والاقتصادية فلنا مثال في السطو على البنوك المحلية ومصانع الاسمنت وغيرها من المؤسسات الأخرى التي تحولت إلى مصدر الأرباح بالعملة الأجنبية التي نقترضها منهم ليتم تحويلها إلى فرنسا وأخواتها في بلدان الاتحاد الأوروبي ونكبل البلاد بمديونية خارجية ارتهنت سيادتنا الوطنية ومستقبل اجيالنا.
هذه الصورة القاتمة إذا ما أضفنا عليها التصريحات الاستعمارية والعنصرية التي صدرت من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا ورئيسة المفوضية الأوروبية. والذين بالمناسبة هرولوا جميعا لفلسطين المحتلة لنصرة الكيان الوظائفي المحتل العنصري ولرفع معنوياته المنهارة بدون أي تلميح لمعاناة الشعب العربي الفلسطيني الذي انتزعت أرضه وسلبت حقوقه بالحديد والنار منذ أكثر من سبعة عقود، لا يسعنا إلا أن نطالب بضرورة القطع مع هذا الاستعمار الذي له تاريخ أظلم سواء فيما بينه (الحرب العالمية الأولى والثانية) وفيما يتعلق بالشعوب التي استعمروها وتونس من بينها. هذه الكيانات المتوحشة التي استعملت القنابل الذرية على هيروشيما وناقازاكي في اليابان وقنابل النابالم الحارقة ضد الأطفال في فيتنام والقنابل الفوسفورية في فلسطين والعراق حيث قضوا على أكثر من مليون مواطن بدعاوى كاذبة وفي أفغانستان كذلك. ولا ننسى حروب فرنسا في تونس والجزائر والمغرب وتجاربها النووية في الصحراء الجزائرية وتعريض المواطنين الجزائريين مكبلين في منطقة التجربة لاستعمالهم كتجارب حية. تاريخ أظلم ولا يصدقهم إلا معتوه أو مرتزق.
هذه الكيانات لا تمثل دول لأنها لا تلتزم بالعهود ولا بالقيم الإنسانية ولا بالقوانين الدولية ولا تحترم حقوق الأطفال والنساء والشيوخ العزل عند الحروب والذين يتم الفتك بهم بأعتى الطيران الحربي وأعتى القنابل الفتاكة، فهي في الحقيقة عصابات دينها المال ووسيلتها الاعتداء بالقوة المفرطة.
لذلك المطلوب اليوم وطنيا والحكومة التونسية تتصارع من أجل تغطية ميزانية تقشفية لسنة 2024 في إطار مصادرة دور وصلاحيات البنك المركزي، يبدو من البديهي وبدون تردد ضرورة إلغاء القانون عدد 26 لسنة 2006 المؤرخ في 15 ماي 2006 والقانون عدد 35 لسنة 2016 المؤرخ في 25 أفريل 2016 حتى تتمكن الدولة من التعويل على الاقتراض المباشر من طرف البنك المركزي بدون فوائد حتى تخفف ثقل المديونية حيث الفوائد الموظفة حاليا تتراوح بين ثمانية وتسعة بالمائة سنويا على مبالغ مرتفعة مما يمثل هروب إلى المجهول.
كما يجب التذكير أن استرجاع دور البنك المركزي في النمو والتشغيل يُمكّن من تمويل كل البرامج التنموية بالدينار التونسي خاصة في القطاعات المنتجة الفلاحية والصناعية والخدماتية وفي قطاع الصناعات التقليدية بصفتها تمويل في خلق القيمة المضافة والثروة والنمو وهو أمر محمود ولا يمثل ضررا على الكتلة المالية. يبقى موضوع توفير العملة الأجنبية لشراء المستلزمات الخارجية فهي مسألة تتطلب ترشيد التوريد حسب أوليات البرنامج المنتج تحددها وزارة الاقتصاد والتخطيط ويتم تطبيقها بطريقة صارمة من طرف وزارة التجارة والبنك المركزي والقطاع البنكي. كما يتطلب الأمر حماية كل القطاعات المنتجة من أجل إنقاذ البلاد من هذه الأزمة الخانقة. وهو ما دأبت عليه عديد البلدان بما فيها البلدان المتطورة.
بالمناسبة أيضا ترشيد التوريد يمكن من ارتفاع قيمة الدينار التونسي لأن الطلب عل العملة الأجنبية سوف يتقلص وهذا من شأنه أن يخفف من ارتفاع المديونية الخارجية ومن العجز التجاري كما سيشجع الاستثمار المحلي.
كما يجب تحديد مدة زمنية بثلاثة سنوات عل الأقل للتعويل على القروض الداخلية حتى تتمكن الدولة من تطبيق مخطط تنموي يعتمد استرجاع نسبة نمو مرتفعة وتصاعدية لا تقل عن أربعة بالمائة في السنوات الأولى عبر برنامج اقتصادي تنموي يعتمد إمكانيات مالية ذات أولوية للقطاعات المنتجة في الفلاحة كما يعتمد مخطط لرد الاعتبار للشركات العمومية وبعث برنامج لخلق مؤسسات صغرى ومتوسطة في كل القطاعات الصناعية والخدماتية.
كما يجب تغيير قانون المنافسة والاسعار نحو قانون يحدد هوامش الربح حسب دراسة معمقة لكل القطاعات تحفظ حقوق كل الأطراف المنتجة وعلى مستوى المسالك التجارية لوضع جد لانفلات الأسعار التي أضرت بالقدرة الشرائية للمواطن وعمقت الأزمة الاجتماعية.
ختاما نعتبر وبكل وضوح أن من يترقب في اتفاق مع صندوق النقد الدولي لصرف 1,9 مليار دولار أمريكي تصرف على أربع سنوات وهو مبلغ برمته لا يغطي شهرين عجز تجاري في هذه السنة حيث بلغ العجز 27 مليار دينار في موفي شهر سبتمبر أي بمعدل 3 مليار دينار شهريا في النظام العام (النظام المقيم) المعتمد دوليا في تحديد الميزان التجاري منذ 2010 والذي نشره المعهد الوطني للإحصاء مؤخرا. فكان من الأحرى على الحكومة تطبيق ترشيد صارم للتوريد الذي يدفع البلاد إلى مديونية خارجية بالعملة الأجنبية مهلكة ونتخلص من تبعية المؤسسات المالية التي تسيطر عليها الأطراف الغربية التي كتشف “طوفان الأقسى” طبيعتها وتنكرها لحقوق الشعوب في العيش بأمان في أوطانها.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 24 اكتوبر 2023