الشارع المغاربي: لا يخفى عن ايّ متابع للشّأن الوطني توسّع الهوّة يوما بعد آخر بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسّلطة التنفيذيّة ممثّلة رأسا وأساسا في رئيس الدّولة قيس سعيّد.
كما لا يفوت ايّة عين متيقّظة تهافت العديدين اطرافا حزبيّة كانوا ام افرادا للتّموقع في هذا الصّراع الذي بات جليّا.
ففي حين يتحلّق مريدو الرّئيس واتباعه مثلما كان الحال مع النّظام الحاكم في مختلف الفترات قبل الثورة وبعدها في “حفلات” تجييش ونعت الاتحاد وقياداته بشتّى النّعوت بل ويذهب بعضهم لتصنيف المنظّمة الشغيلة في خانة دعائم النّظام السّابق وحتى اعتبارها جزءا من منظومة الفساد يحاول بعضهم داخل نفس المعسكر التّقليل من خطورة احتداد الازمة بين الاتحاد ورئيس الدّولة.
من جهة اخرى يعيب معارضو سعيّد على الاتّحاد عدم حسمه المباشر والوقوف في صفّ المناهضين للانقلاب وبالتالي دخوله تحت خيمتهم والتّخلي عن استقلاليّة موقفه وخاصّة تحكّمه في اختيار طريقة تحرّكه والاطراف التي يُنسّق معها.
ومع تعاظم الازمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة وبلوغها مرحلة الانذار بحدوث انفجار اجتماعي ومُضيّ الرّئيس سعيّد قدما في بناء مشروعه رغم ما عرفته “المراحل المُنجَزة” إلى حدّ الآن من عزوف ومقاطعة واسعة واصراره على تجريم كلّ معارضة لـ “مشروعه” الى جانب انسداد الافق امام ايّ حلّ سياسي ووعي قيس سعيد ومنظومته بأنّ الطّرف الوحيد القادر على معارضته هي المركزيّة النّقابيّة، توجّه بخطاب مفاده ان العمل النّقابي لا يمكن ان يكون غطاء للعمل السّياسي وأخذ مثالا محدّدا: نقابة شركة تونس للطّرقات السيّارة خطابه ذاك كان من داخل ثكنة الحرس وتلاه في نفس اللّيلة إيقاف كاتب عام النقابة المذكورة !
هذا الايقاف كان كفيلا بزيادة تأزيم الوضع خاصّة أنّ الاتحاد العام التّونسي للشّغل يشتغل منذ مدّة غير قصيرة مع شركاء آخرين على تقديم مبادرة لإخراج البلاد من الأزمة وبدأ فعلا في تكوين لجان تتولّى تقديم ورقات في كلّ المجالات… ويبدو أنّ قيس سعيّد يصرّ على سلك طريق سلكها من حكموا تونس قبله : يحاول تحجيم دور الاتّحاد وحصره في الدّور المطلبي المادّي دون سواه وتذكيره بأنه ليس المنظمة النّقابيّة الوحيدة في تونس متناسيا انّ الاتّحاد ولد وطنيّا وأنه كان له دور حاسم في المواعيد الوطنيّة الكبرى زمن الاستعمار وبعده.
هذا الايقاف الذي جاء بعد خطاب بثكنة العوينة واستعمل فيه الرّئيس عبارات من معجم الحرب والمعارك زاد في ادراك كلّ المتابعين وفي مقدّمتهم قيادات الاتحاد أنّ رأس السلطة التّنفيذيّة ماض قدما في استهداف كل الاجسام الوسيطة وأنه صعّد من لهجته تجاه أقواها وأعرقها: المركزيّة النّقابيّة في تجاهل تام لتاريخ العلاقات بين النّظام والحكومات المتعاقبة، منذ زمن الرّئيس الرّاحل الحبيب بورڨيبة، والمآلات التي عرفتها كلّ محاولات ليّ ذراع الاتّحاد وتركيعه…
وكردّ أوّل على محاولة الحدّ من الدّور الوطني للاتّحاد جاء انعقاد الهيئة الإداريّة الوطنية وبيانها الختامي الذي لم يعكس التمسّك بثوابت الاتحاد الوطنيّة واستعداده لخوض كلّ المعارك داخل هذا المربّع فحسب وإنما تمسّكه بالدّفاع عن اطاراته وعن حقّ العمل النّقابي !
بعد صدور بيان الهيئة الاداريّة، بدأ عدد من المتابعين في طرح تساؤلات عديدة لعلّ اهمّها: هل سينزع الاتحاد إلى المواجهة في ردّ على الخطاب الحربي للرّئيس سعيّد؟
الحقيقة، حسب رأيي أعقد من ذلك لأنّه بات واضحا أنّ منسوب الاستعداد لمزيد انتظار مآلات سياسات قيس سعيّد باعتباره “أراح” البلاد من منظومة النّهضة وبأنّه سيستجيب في لحظة ما لدعوات التّشاور والحوار على الأقل مع الاتحاد تبخّر. كما أنّه يستنتج من خلال قرارات الهيئة الإداريّة أنّ المركزيّة النّقابيّة حسمت أمرها في طريقة الردّ وهي طريق سبق للاتّحاد انتهاجها: اطلاق يد القطاعات والجهات للتحرّك قبل الوصول لتحرّك وطني… هذه الطّريق، عدا انّها اثبتت فاعليّتها قبل 14/1/2011 هي ايضا طريقة للردّ على مقولة “الشّعب يريد” المأثورة لدى قيس سعيّد المرشح للرّئاسية ثم الرّئيس!
لا شيء يوحي إلى حدّ السّاعة بتغيّر موقف السلطة التّنفيذيّة بل على العكس من ذلك تماما فـ”القضايا” المُثارة ضدّ الاطارات النّقابيّة متواصلة بل متصاعدة الوتيرة (قضايا ضدّ قيادات وسطى في جامعة النقل وفي الاتّحاد الجهوي بتونس) بحثا ربّما عن “إضعاف” القيادة المركزيّة بانهاكها بقضايا علّها تترك الشّأن السياسي الوطني وتتشتّت جهودها بين المحاكم !
في المقابل تصرّ القيادات النّقابيّة على تذكير(ضعاف الذّاكرة) بأنّه كلّما زاد استهداف الاتحاد كلّما تراصّت صفوفه في الدّاخل والتفّت حوله شرائح واسعة من الرّأي العام حتّى من خارج الاتحاد لعلم الجميع بأنّ استهداف العمل النّقابي هو تعبير واضح عن توجّه السّلطة نحو مزيد من التّضييق على الحريّات وفي مقدّمتها حريّة العمل النّقابي المضمون والمُضمّن بكافّة الاتفاقيّات والتشريعات الدوليّة.
تعيش تونس تحت وطأة ازمة متعدّدة الابعاد وضرب الاتّحاد قد يسهّل على الحكومة تمرير التزاماتها للجهات المانحة دون المرور بمربّع التّفاوض الاجتماعي لكنه وبما سينتج عنه من احتقان اجتماعي سوف يزيد من صعوبة التقدّم ولو بخطوة واحدة نحو الخروج من هذه الأزمة…
يعني وفي المحصلة، الطّرف الأضعف في شدّ الحبل هذا هو وخلافا لما تعتقد السّلطة هو السّلطة الحاكمة ذاتها لأنّ منطق الفرض بالقوّة لم يُنتج يوما سوى الانفجار الاجتماعي واضطرار الماسكين بالحكم للتّراجع وفي الاثناء تخسر البلاد وقتا وجهدا ثمينا كان يمكن استثمارهما لمصلحتها.