الشارع المغاربي-الحبيب القيزاني: عام 1972 حطّ الرئيس ريتشارد نيكسون ببكين في أول زيارة لرئيس امريكي للصين بعد جهود وزير خارجيته هنري كيسنجر في ما سمي بـ «ديبلوماسية البينغ بونغ». اندرجت الزيارة في اطار سعي واشنطن لكسب ودّ أحد قطبي الشيوعية في العالم وكان هدفها الاستراتيجي محاولة اضعاف الاتحاد السوفياتي وضرب مزيد من الحصار عليه في اطار سياسة أمريكا لاحتواء مدّه وتزايد نفوذه في العالم. لكن الامريكان لم يدركوا انهم فتحوا بذلك الباب لمارد قال عنه نابليون الاول : «عندما تستيقظ الصين يرتعد العالم».
بعد مرور 48 سنة على الزيارة صدقت «نبوءة» نابليون لتكتشف واشنطن أنها ربّما حفرت قبر دفن هيمنتها على العالم وأنه بات من شبه المستحيل ايقاف تمدد «التنين الاصفر» حول الكرة الارضية وافتكاك الريادة منها اقتصاديا وتكنولوجيا بل وحتى عسكريا في حرب عالمية ثالثة باردة يخوضانها من أجل تشكيل المستقبل.
«لا أحد بحاجة الى جهد لادراك أن العالم لم يشهد أسابيع حاسمة مماثلة بالنسبة للتجارة العالمية منذ سنوات الثلاثين من القرن العشرين». بهذه الجملة المضمنة في افتتاحيتها ليوم 5 أوت 2019 أكدت صحيفة «الغارديان» البريطانية انقسام العالم الى شطرين : فئة انتابها الخوف لدى قراءتها واخرى لم تفقه شيئا من الحرب التجارية التي كانت آنذاك على أشدها بين أقوى اقتصادين في العالم : الامريكي والصيني.
الصحيفة التي تساءلت عن سبب حقد الرئيس الامريكي دونالد ترامب على الصين اجابت بسؤال انكاري يقول : «وكيف لا يحقد وهو يدرك أن من شأن تحريك حافظة أموال واحدة بمركز المال والاعمال الصيني Wenzhou التسبب في زوبعة بشارع «وول ستريت»؟
افتتاحية «الغارديان» لم تأت من فراغ وانما في ظلّ الحرب التجارية والاقتصادية الشرسة الدائرة الى اليوم بين واشنطن وبيكين وخصوصا بعد انعقاد مؤتمر سان بطرسبورغ في جوان 2016. فقد كان المشهد في هذا المؤتمر مبهرا ومثيرا اذ جمع 80 ٪ من صنّاع القرارات العالمية الى جانب كريستين لاغارد مديرة صندوق النقد الدولي آنذاك وكانت بكين وموسكو الحليفتان الأكبر استراتيجيا متّحدتين في الرأي حول العديد من القضايا خصوصا ملفيْ ايران وكوريا الشمالية بالاضافة الى أن الصين هي الدولة التي تمتلك أكبر سيولة وسلة من العملات الأجنبية الى جانب تخطيطها مع موسكو وعدّة دول أخرى لاستبدال الدولار بعملة جديدة ربما تكون اليوان الصيني.
أعلن ترامب حربا اقتصادية وتجارية شاملة على الصين عبر فرض ضرائب كبيرة على صادرات شركاتها إلى بلاده ردت عليها بكين بسياسة «المعاملة بالمثل». ذلك أن بكين تدرك ان الولايات المتحدة تسعى جاهدة لتدمير مشروع «طريق الحرير الجديدة» الصينية عبر زرع بؤر التوتر والحروب في المناطق التي ستمرّ منها. كما تدرك الصين أن هدف الامريكان الاستراتيجي لم يعد السعي للسيطرة على مصادر الطاقة والثروات الباطنية الاخرى في العالم مثل الذهب والنحاس والحديد والليثيوم والماس والفسفاط وانما بتحديد مَنْ من البلدان لها الحق في الحصول عليها ومن وجب حرمانها منها سعيا لتدمير اقتصاداتها المنافسة وارتهان مستقبلها.
وقد أدى فرض ترامب ضرائب قمرقية جديدة على واردات بلاده من الحديد والالومنيوم على حلفائها الى توجه دول مثل فرنسا والمانيا وكندا والمكسيك شرقا وجنوبا نحو آسيا وخصوصا نحو الصين وبلدان «النمور الآسياوية» وأمريكا اللاتينية وافريقيا. توجه تفرضه مصالح هذه الدول باعتبار ان الصين خصوصا تمثل أكبر سوق لمنتوجاتها. وقد كرّست قمة الشراكة الصينية-الأوروبية سنة 2018 هذا التوجه خصوصا أن حجم التجارة اليومي بين الصين واوروبا يتخطى مليار أورو أي أكثر بـ 10 مرات من حجم الشراكة مع أمريكا. ثم ان طريق الحرير الجديدة تفتح الباب للجميع للانضمام اليها وقد وصل عدد الدول المنخرطة فيها الى نحو 70 دولة منها ما لا يقل عن 20 دولة اوروبية و16 دولة في وسط وشرق اوروبا وقعت معها بيكين اتفاقية «1+17».
لذلك لا يستبعد عديد المحلّلين الاستراتيجيين الدوليين انسلاخ أوروبا اقتصاديا عن أمريكا نظرا لحاجتها الى «حليف محترم» ودرءا لاية هزّات واضطرابات اجتماعية قد تتسبّب فيها سياسات تفرضها المنافسة غير الشريفة التي تمارسها واشنطن خصوصا في ظل ما تعاني اقتصادات دولها من ركود وعجز وقلة سيولة وبعد الخيبة التي مني بها قادة هذه الدول من تصرفات الحليف الامريكي الذي اتضح انه لا يريدها ان تكون اكثر من تابع لها.
معركة الـ «5G»
لكن أبرز ما يثير مخاوف واشنطن هو مشروع الصين «صنع في الصين 2025» الذي من المنتظر أن تصبح الصين بفضله أكبر دولة مصنّعة للالكترونيات والسيارات الكهربائية والروبوات الذكية والمنتوجات عالية التقنيات في العالم مما سيفتح لها باب صناعة الطائرات واقتحام ميدان غزو الفضاء خصوصا بعد مشاريع التطوير الكبيرة التي اتفقت عليها مع الروس والاوروبيين.
وممّا يثير جنون واشنطن وهي ترى انحسار هيمنتها الاقتصادية على العالم امام نموّ دول اخرى ان الصين فاجأتها بامتلاكها بدائل تكنولوجية لم تخطر على بالها بما يفتح الباب أمام مواجهة من نوع جديد في ميادين التشويش الالكتروني والتنافس التكنولوجي خصوصا في ما يتعلق بالذكاء الصناعي. ومثلت مقاطعة أمريكا شركة «هواوي» الصينية الرائدة في ميدان التكنولوجيا الذكية واقرار ترامب عقوبات على بعض مسؤوليها وعلى كل شركة تتعامل معها ذروة الصدام مع الصين. وكشفت صحف أمريكية العام الماضي أن سبب غضب الامريكان الحقيقي هو اكتشاف وكالات الامن الامريكية وخصوصا منها تلك التابعة للبنتاغون استحالة التجسس على منظومة برمجيات الهواتف الصينية الجديدة من الجيل الخامس «5G» وقناعة المسؤولين الامريكيين بتجسس الصين على كل منظومات الاتصال بالولايات المتحدة بما يمثل خطرا على أمنها القومي. وقد حدا ذلك ببعض المراقبين الدوليين الى الحديث عن «حرب عالمية ثالثة» مسرحها فضاء التكنولوجيا الحديثة لرسم ملامح المستقبل : أي انواع التكنولوجيا ستحكم العالم؟ من هو المتفوّق فيها تكنولوجيا وبالتالي اقتصاديا؟ وأيّهما تبعا لذلك الدولة العظمى الأولى في العالم؟
سفير الصين بموريتانيا ردّ منذ حوالي سنة على الاتهامات الامريكية بسرقة التكنولوجيا مؤكدا أن بلاده «لا تخاف من خوض حرب اقتصادية وتكنولوجية» وأن الصين «ليست دولة ضعيفة ولا ولن تخضع لأية ضغوط خارجية ولن تبقى مكتوفة الأيدي أمام أي اعتداء سافر يطال مصالحها الجوهرية الذاتية، والاقتصاد الصيني يتمتع بصلابة قوية في مواجهة التهديدات والضغوط الخارجية… وبكين ستتخذ التدابير اللازمة اذا استدعى الأمر ذلك للدفاع عن مصالحها حتى النهاية وبكل ما أوتيت من قوة، ولا توجد أية قوة يمكنها ايقاف خطوات الامة الصينية الثابتة على طريق تحقيق حلمها العظيم في نهضتها».
السفير اضاف :«الصين التي يبلغ عدد سكانها أكثر من مليار و300 مليون نسمة حققت في سنوات قليلة على طريق التنمية الشاملة ما حقق الغرب خلال قرون وهذه الانجازات ليست ولن تكون اطلاقا نتيجة سطو على ثروات الآخرين بل نتيجة الاعتماد على الاستثمار في البحث العلمي والتقني».
حكمة «توتو» أم «استراتيجيا الجيدو»؟
لكن أية استراتيجية تنوي واشنطن اعتمادها لمواجهة التحدّي الصيني؟
حدّد بحث صادر عن مؤسسة «راند» للجيش الامريكي بعنوان «القدرة على الارغام : مواجهة الاعداء بلا حرب» 3 أدوات قالت إنها ذات جدوى عالية للضغط على العدوّ أو المنافس دون اللجوء الى هجومات عسكرية وهي : العقوبات المالية ودعم المعارضة السياسية اللاّعنيفة واستعمال الهجمات الالكترونية.
وحسب البحث فإن الولايات المتحدة «قادرة على ارغام كل دول العالم باستثناء الصين» مؤكدا انه «سيكون من الصعب والخطر ارغامها نظرا لأنها تشكل أقوى تحدّ لخيارات امريكا وقدراتها» وانها «باتت تلعب دورا رئيسيا في الاقتصاد العالمي والتجارة العالمية بالاضافة لامتلاكها قدرات خاصة بها للارغام توازي قدرات امريكا خاصة في المجال التكنولوجي الى جانب انها أكبر دائن لأمريكا».
خبراء اقتصاديون ومستشارون في الاستراتيجيا الدولية اقترحوا على الادارة الامريكية العمل بحكمة ديزموند توتو، كبير اساقفة جنوب افريقيا سابقا والحائز على جائزة نوبل للسلام والقائلة بأنه «لا توجد سوى طريقة واحدة لالتهام فيل… قضمة واحدة في كل مرّة». ومعنى ذلك أنه على واشنطن التعامل بتدرّج مع الصعود الاقتصادي والتكنولوجي الصيني مع تحذير من أن محاولة التهام الفيل بقضمة واحدة ستؤدي الى اختناق امريكا قبل الانتهاء من التهام خرطومه! أما الخبيران في الاقتصاد السياسي ايثان كابشتان وجاكوب شابيرو فقد نصحا واشنطن على اعمدة صحيفة «فورين بوليسي» باعتماد «استراتيجية الجيدو» عبر «استخدام المهارة لهزم الحجم». وتعود جذور هذه الاستراتيجية الى مصطلح «اقتصادات الجيدو» الذي صاغه الاقتصاديان جوديث غيلمان وستيفن سالوب لتحديد استراتيجية التعامل عند اطلاق شركة في قطاع يهيمن عليه منافس من الحجم الكبير.
وتعتمد هذه الاستراتيجية على توظيف قوة المنافس الكبير الحجم ضده، لكن ملاحظين دوليين يؤكدون ان أمريكا ستجد صعوبة في مجاراة الصين وأنها مهما فعلت لن تجد التمويلات اللازمة امام المدّ المالي الهائل الذي تتحرك بفضله أذرع الصين في جميع الميادين.
وسواء اعتمدت واشنطن استراتيجية «كيف تأكل فيلا؟» أو تكتيك الجيدو فإن الثابت أن حرب تشكيل المستقبل اندلعت بينها وبين الصين.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 ديسمبر 2020