الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: تمثل السياسة المالية الراهنة في تونس نموذجا لمراكمة الفشل، من ناحية وحالة خاصة لـ “التخطيط” دون رؤية للمستقبل من ناحية اخرى. وتعكس ميزانية 2022 بوضوح هذه الوضعية سيما ان اقرارها تم في سياق اتسم بالشعبوية، ولكن اساسا بتناقض الخطاب وازدواجيته.
في هذا الاطار، نشر بداية الاسبوع الفارط المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية دراسة بعنوان “ميزانية 2022 رهينة صندوق النقد الدولي: حول اسباب تخوف الراي العام التونسي من اللجوء مجددا للصندوق”.
وأبرزت الدراسة التي جرت صياغتها في عدة محاور، انه انطلاقا من الأوضاع المزرية والمنهارة في البلاد طيلة العشرية الاخيرة، وقع اعتبار القرارات الاستثنائية التي أعلن عنها يوم 25 جويلية 2021 جريئة وشجاعة وحتمية ومثلت حدثا هاما وفرصة من شأنها ان تفتح المجال لاتخاذ اجراءات تصحيحية للانحرافات السابقة.
ومن هذا المنطلق، حظيت القرارات الاستثنائية بتأييد شعبي كبير خاصة أنها ارتكزت على خطاب شعبوي ساهم في تحقيق التفاف شعبي واضح حولها. ذلك أن الخطاب الشعبوي هو خطاب سياسي يقوم على نقد النظام القائم وكل من يمثله. كما أنه يتوجه بالأساس للطبقات الشعبية التي يعتبرها ضحية النظام القائم ويعدها بالخلاص من الخصاصة والاحتياج والفقر والحرمان والاستغلال عبر الإطاحة من المنظومة الحاكمة والتخلص منها ومن قواها واختياراتها وممارساتها الفاسدة. لكن إثر الإعلان عن ميزانية 2022 أصبح هذا الخطاب يمر، وفق دراسة المنتدى، بأزمة حادة نظرا للتناقض الصارخ بين الشعبوية السائدة والسياسات التقشفية اللاشعبية الواردة في الميزانية الحالية. هذا التناقض بين السياسي والاقتصادي أصبح يمثل العنصر المشترك بين مختلف المراحل التي مرت بها البلاد منذ الانطلاق الرسمي لمرحلة الانتقال الليبرالي إثر اعتماد برنامج الإصلاح الهيكلي سنة 1986.
وعالجت الدراسة، بشكل عام، قضايا اقتصادية ومالية شائكة حيث ابرزت في المحور الأول العمق المهيكل لازمات المالية العمومية المتكررة والتي قامت على التمسك بمنوال تنمية أصبح يمثل المصدر الأساسي لكل الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية منذ بداية القرن الحالي. وتناولت بالدرس والتحليل في المحور الثاني محتوى ميزانية الدولة لسنة 2022 الذي يؤكد عل استمرار هيمنة اللوبيات والمافيات و”الكناطرية” من خلال دعم اللجوء الى المزيد من التداين الخارجي على حساب تعبئة عادلة لموارد الجباية. وتطرق المحور الثالث من الدراسة للأسباب الرئيسية التي تجعل الرأي العام التونسي يتخوف من اللجوء مجددا الى صندوق النقد الدولي طمعا في تجاوز الأزمة المالية والاقتصادية الحالية وفتح أفاق تنموية واعدة رغم فشل تجربة برنامج الاصلاح الهيكلي.
التداين لتكريس هيمنة اللوبيات والمتهربين ضريبيا
إلى جانب غياب المرجعية الاقتصادية الإطارية والتشبث بنفس الإطار والمنوال التنموي واعتماد فرضيات غير واقعية ونفس الإجراءات والسياسات التقليدية الحريصة فقط عل الحد من العجز وتحقيق التوازن بين الموارد والنفقات، بينت الدراسة أن ميزانية 2022 كرست من الناحية الاجتماعية والسياسية هيمنة المافيات واللوبيات و”الكناطرية” التي تمكنت من دفع السلط القائمة الى الاستمرار في اللجوء الى التداين العمومي وخاصة من الخارج الذي سيقود حتما الى الرضوخ الى إملاءات وشروط صندوق النقد الدولي المهددة لسيادة القرار الوطني ولكل تمش إرادي في المجال التنموي.
والجدير بالذكر أنه من الناحية المنهجية وخاصة لدى الدول الحريصة عل صفتها الاجتماعية والطامحة لترسيخ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، غالبا ما يقع استعمال الميزانية العمومية لتصحيح موازين القوى السائدة في اتجاه المزيد من التوازن والاعتدال، قصد منع تغول وهيمنة بعض الشرائح الاجتماعية على حساب شرائح أخرى، والذي من شأنه ان يخل بتماسك النسيج الاجتماعي ويقود الى توتر الأوضاع الاجتماعية والسياسية وتدهور مناخ الأعمال والآفاق التنموية. الا أن ما حصل مع ميزانية 2022 هو تكريس وتثبيت لموازين القوى السائدة عبر الامتناع عن اعتماد إجراءات استثنائية تمكن من توزيع عادل للأعباء قصد الخروج من أزمة المالية العمومية بنسيج اجتماعي أكثر توازنا وتماسكا لتوفير ظروف ومناخ أعمال محفزة أكثر عل تحقيق الانتعاش الاقتصادي.
وتم التركيز في هذا السياق على انه وفي ظل التشبث بالاختيارات النيوليبرالية وتغول الأطراف المهيمنة خارجيا وداخليا والرافضة لكل إجراءات استثنائية تمكن من تعبئة أقصى ما يمكن من موارد عمومية اضافية وتوزيع عادل للأعباء والحد من اللجوء الى التداين تم اعتماد سياسة تقشفية قائمة عل الضغط على النفقات العمومية عبر تجميد الزيادة في الأجور بالقطاع العمومي بين سنتي 2022/2024 الى جانب تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية والقطاع العمومي.
كما تتضمن هذه السياسة أيضا التراجع التدريج عن دعم المحروقات الى أن يبلغ سعرها الحقيقي نهاية سنة 2026 . كما تتضمن الترفيع في معاليم استغلال الكهرباء والغاز ووضع منظومة الكترونية تسمح بالتسجيل والتصرف في التحويلات المالية للفئات المعنية بتلقي تعويضا عن التخلي التدريجي عن دعم المواد الغذائية الأساسية بداية من سنة 2023.
كما تنص السياسة التقشفية الواردة في وثيقة برنامج الإصلاحات المقدمة لصندوق النقد الدولي على التخلي عن الديون العمومية المتخلدة بذمة المؤسسات العمومية ومراجعة سياسة الدولة في ما يخص مساهماتها في رؤوس أموال المؤسسات العمومية “غير الاستراتيجية” وصولا الى العمل عل التفويت فيها بداية من 2022. كل هذه الاختيارات الفاقدة لأي محتوى اقتصادي مستدام والمحدودة في امكانية تطبيقها وذات البعد التنموي الغائب تشكل اليوم مصدرا واقعيا لتخوف الرأي العام من السياسات المالية للسلط القائمة ومن مساعيها بأي كلفة للجوء مجددا الى اتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي.
يذكر ان عدة جهات محلية ودولية تنتقد باستمرار غياب الرؤية وضعف كفاءة مسؤولي السلط القائمة في مجال التخطيط الاقتصادي اذ أبرز في ديسمبر الفارط “بنك امريكا” في تقرير له حول وضع المالية العمومية بتونس ان الميزانية التكميلية لعام 2021 تسلط الضوء على أزمة التمويل المتفاقمة في غياب ميزانية جريئة لعام 2022.
وتوقع البنك تسجيل تونس فجوة في التمويل الخارجي تبلغ 1.9 مليار دولار أمريكي (4.3 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي) للثلاثي الرابع من عام 2021، مما يؤدي إلى تراكم المتأخرات في الدفع ونقص في بعض المواد وهو ما تعيش على وقعه البلاد اليوم بشكل وصل ذروة الحدة والتأزم. ورجح البنك أن يؤدي تسييل الفجوة إلى مضاعفة وتيرة تمويل البنك المركزي وتسريع خفض احتياطيات النقد الأجنبي.
وركز بنك امريكا تقييمه على غياب خارطة طريق سياسية وعلى ان اتجاهات الميزانية غير مستدامة باعتبار أن زيادة الضغوط المالية في غياب مسارات التمويل أو الإجماع على ميزانية جريئة لعام 2022، حتمية مما يؤدي إلى زيادة تراكم المتأخرات واللجوء إلى مزيد تدخل البنك المركزي مباشرة وانخفاض احتياطيات النقد الأجنبي، وزيادة مخاطر إعادة هيكلة الديون السيادية.
وقدر “بنك امريكا” أن شح التمويل الخارجي لعام 2022 قد يؤدي إلى عجز في تمويل الميزانية يبلغ 12 مليار دينار تونسي (4.3 مليار دولار أمريكي بما يمثل 9.7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي). وفي غياب مصادر بديلة للتمويل، من المرجح أن تؤدي فجوة التمويل هذه إلى مجموعة من المتأخرات ونقص الواردات وتراجع احتياطيات النقد الأجنبي. ومن غير المتوقع أن يكون البنك المركزي قادرًا على سد هذه الفجوة الكبيرة بشكل مناسب.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 مارس 2022