الشارع المغاربي-كوثر زنطور: خرجت المديرة السابقة للديوان الرئاسي نادية عكاشة عن واجب التحفظ بسرعة لم يكن يتوقعها حتى اكبر خصوم رئيس الجمهورية قيس سعيد الذين نجحوا في استقطاب بعض ممن كانوا في محيط الرئيس وخاصة ممن كانوا في مسؤوليات وباتوا بعد خروجهم منها من معارضيه. عادت عكاشة الى الواجهة بتدوينة نشرتها يوم امس الاثنين على صفحتها الخاصة بموقع « فايسبوك» موجهة رأسا لغريمها وزير الداخلية توفيق شرف الدين احد اهم مهندسي عملية اخراجها من القصر والتدوينة هي طبعا بمثابة اعلان « حرب» على الرئيس وعلى الفاعلين الجدد في منظومة ما بعد 25 جويلية.
غابت نادية عكاشة عن الانظار منذ استقالتها يوم 24 جانفي 2022 من منصبها كوزيرة مديرة للديوان الرئاسي باستثناء تدوينات تكاد تحسب على اصابع اليد الواحدة نشرت تباعا في مناسبات عيد المراة وعيد الشهداء وذكرى عيد قوات الامن الداخلي وذكرى وفاة الزعيم الحبيب بورقيبة تنضاف اليها مداخلة يتيمة على اذاعة «موزاييك» في برنامج « جاوب حمزة» عادت فيها على القضية المرفوعة عليها من قبل المستشارة السابقة لرئيس البرلمان السابق محمد الناصر وزميلتها بكلية الحقوق منى كريم. كانت التدوينات بمثابة اشارة بعودة قريبة للساحة وتفنيد لاحالتها على التقاعد المبكر من النشاط السياسي وكانت ايضا بداية «خرق اتفاق» سابق مع الرئيس واعداد العدة لمواجهة من وراء البحار مع من افتكوا منها الموقع المتقدم في رئاسة الجمهورية وفي فريق صانعي القرار الوطني.
اتفاق المغادرة
شكلت تدوينة نادية عكاشة الحدث يوم امس بما تضمنت من اتهامات خطيرة تمس جوهريا من مكانة رئيس الجمهورية الذي ينتقده خصومه باحتكار كل السلطات في ما بات لا يعدو حسب كاتبة الـ10 اسطر الفايسبوكية أن يكون مجرد ديكور في قصر رئاسة سُرقت منه لحظة 25 جويلية من قبل من اسمتهم عكاشة بـ» من لا شرف ولا دين ولا وطنية له ومن قبل زمرة من الفاشلين الذين لا يفقهون شيئا غير احتراف الابتذال والتشويه والتضليل» . واضافة للاتهامات تضمنت التدوينة تقييما سلبيا للمسار بعد « عملية الاستيلاء»، تقييم لم يقف عنده الكثيرون باعتبار ان الذاتي غلب على الموضوعي في تدوينة تلخصت عند المتابعين للشأن العام في انها اقرار بتسريبات سابقة حول خفايا مغادرة عكاشة مؤسسة الرئاسة وتأكيد لما تم تداوله من تفاصيل حول حرب شقوق ضربت فريق الرئيس.
وللتذكير كتبت عكاشة يوم امس « 25 جويلية 2021 لحظة حاسمة في تاريخ تونس، لحظة عملت أن تكون قطعا تاما مع العفن السياسي الذي سبقها والفساد الذي نخر مؤسسات الدولة والتهاون بحقوق التونسيات والتونسيين وحتى بأرواحهم. 25 جويلية لحظة حاسمة وقرار تاريخي ومسار وطني كان من المفروض أن يقوم على منهجية واضحة وعلى تمش ديمقراطي جامع وعلى أسس ثابتة لبناء دولة القانون التي تحترم فيها الحريات والمؤسسات ولكن للأسف تم الاستيلاء على هذه اللحظة وعلى هذا المسار من قبل من لا شرف ولا دين ولا وطنية له ومن قبل زمرة من الفاشلين الذين لا يفقهون شيئا غير احتراف الابتذال والتشويه والتضليل. اين تونس اليوم من أزمة سياسية خانقة اصبحت تمثل خطرا داهما وجاثما لم تشهد له مثيلا في تاريخها الحديث؟ اين تونس اليوم من الازمة الاقتصادية والمالية ومن تعثّر ايجاد برنامج اصلاح اقتصادي جدي وواضح ومبني على معطيات صحيحة يمكّننا من مناقشة اتفاق مع صندوق النقد الدولي ؟ لماذا لا تكون للاصلاح منهجية علمية وناجعة ؟ في الحقيقة ان عرف السبب بطل العجب».
تم تداول هذه التدوينة على نطاق واسع، اولا وخاصة للموقع المتقدم الذي كانت تتقلده عكاشة في رئاسة الجمهورية طيلة سنتين كانت خلالهما اقرب المقربين من قيس سعيد وثانيا للدور الذي لعبته في هندسة « 25 جويلية» وثالثا لما تحمل مديرة الديوان المستقيلة من اسرار احداث غيرت المشهد السياسي رأسا على عقب منها خاصة خفايا ليلة تفعيل الفصل 80 من الدستور وما أعقبه من قرارات. استقالت «نادية» بعد 6 أشهر فقط من « اعلانات « 25 جويلية او دُفعت للمغادرة بعد ان تم تصفية كل من كانوا يحسبون عليها في مختلف مراكز النفوذ خاصة في الداخلية وممن ساهموا في ليلة السبت المشهودة .
بعيدا عن العودة الى خلفيات الاستقالة او الاقالة التي تم الخوض فيها بشكل مطرد في الابان، فإن تفاصيل ترتيبات ما بعدها هي الاهم. من ذلك ما يُتناقل حول الاسباب التي دفعت رئيس الجمهورية قيس سعيد للقبول بمغادرة عكاشة البلاد هي وافراد من عائلتها وسفرها مباشرة بعد خروجها من القصر الى فرنسا. انتُقد سعيد من اصدقائه قبل خصومه على « هذه الموافقة» التي وصفها البعض بـ» الخطأ « بالنظر الى الاسرار التي تحملها عكاشة او الصندوق الاسود للرئيس مثلما تُلقب وهو معطى كان يستوجب حسب ما « نُصح به» سعيد» تحييدها عبر تعيينها في منصب آخر مع ابعادها عن مواقع النفوذ او منعها من السفر وحتى محاسبتها استنادا الى التهم الخطيرة التي تداولتها الصفحات المحسوبة على الرئيس والتي تتقاطع وتتشابه مع التهم التي احيل من منطلقها العديدون على القضاء العسكري على غرار « التخابر والتعامل مع جهات اجنبية» ( يمكن العودة الى بعض الصفحات الفايسبوكية وما طرح فيها حول خفايا اقالة عكاشة) .
ادارة ملف مغادرة عكاشة كانت محل نقاشات تراوحت بين التساؤلات والانتقادات والتهكم والتسريبات ايضا التي تقول ان اتفاقا تم بين سعيّد ومديرة ديوانه السابقة كان يقضي بالمغادرة وبالابتعاد عن النشاط السياسي مع الالتزام بواجب التحفظ . خرقت عكاشة سريعا هذا الاتفاق وتقول شهادات انها كانت كثيفة اللقاءات والتحركات خلال فترة اقامتها بفرنسا. وهو حراك كاد ان يكلف سفير تونس بباريس منصبه وفق مصدر المعلومات الاول في تونس لـ» منظومة 25 جويلية» وهي الصفحات الفايسبوكية التي تلعب في نفس الوقت دور وكالة انباء رسمية واعلام بديل و» ذباب اصفر» ومحاكم تفتيش وايضا اذرعة بروباغندا لجزء من منظومة 25 جويلية من وزراء فاعلين.
ويبدو ان عكاشة التي غادرت فرنسا مؤخرا نحو الامارات العربية المتحدة على الارجح لم تستوعب بعد طريقة ابعادها من القصر رغم « السحل المعنوي» الذي تعرضت له خلال فترة عملها في الرئاسة. وهي فترة كانت فيها مديرة الديوان السابقة اقرب الى نائبة الرئيس وظله الذي لا يفارقه سواء في الداخل او بالخارج. تدوينة يوم امس هي «اعلان حرب» على شق بعينه يقوده وزير الداخلية توفيق شرف الدين الذي يجدد اليوم معركة شبيهة بتلك التي خاضها مع عكاشة وانتهت بانتصاره مع اختلاف في موازين القوى اذ ان الفاعلين اليوم هم من داخل «المشروع» ممن كانوا اكبر مساندين له وباتوا اليوم من اشد معارضيه ويتهمونه بنزعة جهوية وبتوسيع نفوذ العائلة وبـ» تمكين ازلام النهضة وائتلاف الكرامة من الحصة الاكبر في كعكة التعيينات».
مواجهة
ما يحصل في فريق قيس سعيد قد يكون صادما لكثيرين تحمسوا له وانتخبوه ثم ساندوه في مسار 25 جويلية باعتباره يمثل البديل الذي سيقطع مع ممارسات الماضي خاصة منها «عشرية الخراب». سقط سعيد في اعادة رسكلة العنوانين الكبرى لتلك العشرية بسبب معاونيه الذين اضروا به دون ان يستفيد منهم سواء ممن يسمى بـ» الوافدين» من خارج مشروعه الذين اعتبرهم «كفاءات من خارج السيستام» ومكنوا من مواقع اكبر منهم أو من معاضديه ورفاق دربه الذين غيرتهم السلطة والهبت طموحاتهم وانتهت بهم الى اعداء وخصوم في حروب شقوق انهكت الرئيس ولوثت صورته واحبطت انصاره الذين باتوا يهددون بالخروج عن صمتهم عبر الكشف عن انحرافات «المنظومة الجديدة» .
عكاشة القادمة اليوم في ثوب مقدمة الدروس اكتوت بنفس النار التي اكتوى بها خصوم الامس القريب. فمديرة الديوان التي كانت رقم 2 في الدولة غادرت البلاد بقائمة طويلة من الاعداء ممن يتهمونها بتوظيف اجهزة الدولة ضدهم وتسخير صفحات مأجورة لهتك اعراضهم وتشويههم وهي في نظر فاعلين بالدوائر المؤثرة والقريبة من الرئيس اول من «قاد عمليات التصفية داخل القصر وسمّم الاجواء» وتركت وراءها اخطاء لا تغتفر ليس اقلها قصة الطرد المسموم الشهيرة علاوة على وقوفها وراء تعيينات فاشلة قد يكون اهمها دعمها تعيين هشام المشيشي على راس الحكومة بتكتيك ادارة القصبة من قرطاج. العملية فشلت منذ المشاورات بارتماء المشيشي سريعا في احضان خصوم الرئيس (النهضة وقلب تونس) وهذا « الانقلاب» تتحمل مسؤوليته نادية عكاشة، حسب ما ينقل على لسان رجل القصبة السابق.
قد تكون التدوينة في الاخير فتحا لباب مفاوضات مع القصر بعد ان ضاقت السبل بالمديرة السابقة للديوان الرئاسي في تجربتها بالمهجر. والرئيس يعلم تماما مثلما يعلم المؤثرون اليوم في السلطة من المقربين منه ومن « مشروعه» انها تحمل في جرابها الكثير من الاسرار. كما قد تكون التدوينة بمثابة التهديد المبطّن مضمون الوصول وايضا رسالة من عكاشة التي يقول من التقاها إنها اشتكت من محاولات عرقلة مسار استقرارها في الخارج بما اضطرها للخروج وابداء استعدادها للمواجهة ان تطلّب الامر ذلك.
ومن تابع عملية السحل الفايسبوكي الذي تعرضت له يوم امس نادية عكاشة من صفحات قريبة من الرئيس يتساءل عن موقفه من هذه الممارسات التي باتت اخطر من عهد الذباب الازرق سيء الذكر. وان كان سعيد يتبرأ منها في لقاءات جمعته بعدد من الشخصيات نبهت وحذرته من تداعيات هذه الصفحات على مزيد تعفين الفضاء العام من جهة وعلى صورته من جهة اخرى فان له كل الصلاحيات باعتباره اليوم يمثل كل السلطات لايقافها عند حدها ومحاسبة من يقفون وراءها وان تجنب ذلك سابقا وفضّل نصرة مديرة ديوانه آنذاك نادية عكاشة عندما سرّبت محادثة بينها وبين احد المدونين تطالب فيها بتشويه صورة سفير وتقدم له معطيات لـتؤثث عملية تشويه دنيئة.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 27 أفريل 2022