الشارع المغاربي-عواطف البلدي: عُرف المثلث التونسي اللبناني المصري بريادته الثقافية (فكرا وأدبا وفنّا وشعرا…) خلال القرن التاسع عشر. ريادةٌ وثّقها أكثر من كاتب ومفكر على غرار ألبرت حوراني في كتابه “الفكر العربي في عصر النهضة 1798 و1939”. ولكن البعض يرى اليوم أن تلك الريادة أفلتت من بين أصابع صنّاع ذلك المثلث وأن الثقل الثقافي بصدد الانتقال الى بلدان الخليج العربي، إنجازاتً ومهرجانات وهيئات وجامعات وجوائز ونشر وترجمات وأسماء متوّجة.
“الشارع المغاربي” فتح الملف مع ثلة من مثقفي الخليج العربي للحديث عن بعض مشاريع الثقافة بالمنطقة وطرح سؤال “هل تكفي الإمكانات المالية لصناعة مجدٍ ثقافي بالخليج العربي؟” فكان التقرير التالي .
يقول طه حسين في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”: “والخير اذًا أن ندبّر للشعب ما يحتاج اليه من المال ليتعلم وما يحتاج اليه من المال ليصحّ ويستمتع بالحياة التي تليق بالإنسان. والخير ان ندبّر كل هذا المال وان اضطرّنا ذلك الى أن نشق على أنفسنا إن كنا من اوساط الناس أو أن ننزّل عن فضل من ثروتنا ان كنا من اصحاب الثراء”. مقتطف من كتاب هو عبارة عن اقتراحات وتوصيات تضيء مستقبل الثقافة لكل من يطبّقها، دوّنها عميد الادب وضمّنها عصارة جهده ورؤيته لمستقبل الثقافة المصرية ومن ورائها العربية (عبر ادراجه بالمقررات الدراسية في المعاهد والجامعات ومنها التونسية).. ولم يكن طه حسين يعلم آنذاك أن الكتاب سيحظى باهتمام بلدان الخليج التي قرأت فطبّقت عبر ضخ الاموال إضافة الى استقطاب أهم رموز الثقافة والفكر العربي من المصريين والسوريين واللبنانيين والتونسيين الرائدين اليوم في المشهد الثقافي الخليجي أدبا وشعرا وفكرا وتدريسا.. ولا ننسى أيضا دور الإعلاميين العرب في المؤسسات الإعلامية الخليجية الثقافية. كل هذه العوامل والكفاءات والامكانات المالية من شأنها أن تساعد على لفت الانتباه وتحويل الأنظار الى الثقافة الخليجية والى صنّاعها وربّما الى رؤية حكّامها (إن وجدت).. ولكن هل تكفي الإمكانات المالية لصناعة مجدٍ ثقافي بالخليج العربي؟
شكّل غياب أيقونات جديدة وأسماء وازنة على غرار طه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والبشير خريّف وأبو القاسم الشابي وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وغيرهم ضعفا بالمشهد الثقافي في بلدان ما يسمى بمراكز الثقافة التقليدية باستثناء بعض الاقلام. واذا كان طه حسين قد كتب مستقبل الثقافة في مصر فإن بلدان الخليج صراحة تكتبه اليوم من زوايا اخرى وبرؤى جديدة ربما قد يكون للامكانات المالية دور فاعل في ذلك ولكن ايضا قد يعود ذلك الى رؤى وتطلعات اهل المنطقة ورموزها الفكرية والثقافية . فاجتمعت ارادة حكامهم مع وضوح رؤاهم مع الامكانات حتى صارت هذه الدول تراهن على الثقافة في زمن لم تعد مصر ولا لبنان ولا تونس تراهن عليها. فإذا تحدثنا مثلا عن تونس بلغة الجوائز نلاحظ أن التونسيين الذين يحصلون على جوائز دولية (شكري المبخوت) مثلا هم في نهاية المطاف ثمرة الخيارات البورقيبية ودولة الاستقلال التي توقف عطاؤها منذ ثمانينات القرن الماضي.
أشار أستاذ الدراسات اليهودية والأديان المقارنة فوزي البدوي إلى أن السعوديين باتوا يلتهمون كل ما ينشر في العالم العربي من كتب حول الدين والفلسفة، ويقرؤون باللغات الأجنبية، لافتا الى انه اكتشف من خلال زيارته المملكة سنة 2011 أنه أمام جيل جديد نشأ من رحم جيل قديم…”.
وتابع البدوي “جيل جديد شاهد على عمق التحولات التي أحدثتها هذه الثورة الرقمية العالمية وما تركت في نفوس الشباب”. ولفت الى ان نفس الجيل هو الذي التقاه بعد أكثر من عشر سنوات في معرض الرياض للكتاب 2023 وأنه كان شاهدا على تغيّر كبير أصاب المملكة، وبأن نفس الجيل يؤسس اليوم المشهد الإعلامي والفكري.
وأضاف البدوي في مقال نشره بأحد المواقع العربية “نشأ من بعده جيل جديد يقطف ثمار ما كنتُ شاهداً عليه خلال الأسبوع الذي قضيته، وجلست إلى التلفزيون السعودي يسألني في مسائل الدين والتعليم وفي قضايا ما كنت أحسب أن أسال عنها يوماً في بلاد الحرمين وأمام جمهور عريض تصل إليه القنوات التلفزية من دون أن أشعر بالحرج أو الضيق أو الضغط”.
وختم البدوي: “حين تعرف حجم ما يتم في الجامعة الافتراضية السعودية من جهد خرافي حقيقة في إدخال الشباب الجامعي إلى حضارة القرن القادم من جهة تقنيات التأليف والكتابة والتقصي الببليوغرافي والنشر في أرقى المراجع العلمية بأفضل المواصفات العالمية، تعلم أنك أمام دولة من العيب أن يصفها من لا يعرف أنها مجرد خزان من النفط والمال، بل قبل هذا وبعده تقف على تسييرها عقول أدركت أن العالم يتحول وأنها تسارع إلى أن تحجز لها وللثقافة العربية ولغتها مكاناً مرموقاً وحين تقارن بين هذا كله وحال بعض بلاد العرب التي كانت في الستينات قدوة لهذا العالم العربي، والتي تزخر جامعاتها بالعقول التي ساهمت وتساهم في نماء الدول العربية وبعض الأوروبية تدرك أن كل المخزونات الاستراتيجية يمكن تعويضها إلا المخزون الاستراتيجي من العقول والأدمغة التي إذا ما دفعها إلى الهجرة والتهجير فإنها لن تعوض أبداً”.
إذن أحدثت بلدان الخليج العربي، المعروفة أيضًا بدول الخليج العربية، وفق البدوي تقدمًا كبيرًا في مجالات مختلفة، ساهمت في تطور الثقافة بالمنطقة على المستوى العالمي. وفي ما يلي نظرة مسترسلة عن بعض الإنجازات الثقافية في هذه البلدان على ألسنة بعض مثقفيها:
المملكة العربية السعودية:
الشاعر جاسم الصحيح : نحاول أن نعبُرَ بالمجتمع السعودي إلى العالم دون أن ينسلخ عن هويته
التغيرات الثقافية التي تشهدها المملكة العربية السعودية هذا اليوم هائلة جدا، وهي تترجم الاستراتيجية الثقافية الجديدة التي اعتمدتها وزارة الثقافة بناءً على رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله ورعاه.
هناك مبادرات أو مشاريع عديدة أطلقتها الوزارة كي تحقق استراتيجيتها، فتحولت المملكة إلى خلية ثقافية تعمل على امتداد العام، وفي كل المناطق والمحافظات.
قامت الوزارة بعمل جمعيات لكل قطاع ثقافي حتى بلغ عدد هذه الجمعيات التي اعلنتها تقريبا (ستة عشر) جمعية مهنية في عدد كبير من القطاعات الثقافية غير الربحية، من ضمنها جمعية الأدب التي تمثّل مظلة للأدب والأدباء في السعودية، مثل اتحادات الأدباء في بعض الدول العربية. كما فتحت الوزارة المجال للحصول على تصاريح لإطلاق جمعيات ثقافية على الصعيد الاجتماعي.
ومن مبادرات وزارة الثقافة مبادرة الشريك الأدبي التي من خلالها نقلت الأدب إلى أكثر من خمسين مقهى في أنحاء المملكة، ورصدت جوائز ضخمة لهذه المقاهي. وهكذا أصبح الأدب والثقافة يذهبان إلى الناس في أماكن استراحتهم، بدلا من ذهاب الناس إلى المؤسسات الثقافية النمطية في المملكة مثل الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون.
كما أن الوزارة عملت على مشروع (معارض الكتب المتنقلة) في كل أنحاء المملكة، بدلا من أن يكون هناك معرض كتاب واحد في العاصمة الرياض. لذلك، أصبحتْ معارضُ الكتب الدولية تنعقد على امتداد العام في المملكة، فمن الرياض في المنطقة الوسطى، الى المدينة المنورة في المنطقة الغربية، إلى الدمام في المنطقة الشرقية.
لقد تغيرت نظرة الوزارة إلى الثقافة عن النظرة التقليدية التي تختزل الأنشطة الثقافية في أمسية شعرية أو قصصية أو روائية، أو مجرد ندوة نقدية مقتصرة على النخبة المثقفة. وإنما ذهبت إلى شعبنة الثقافة.. (نسبةً إلى الشعبي)، والانفتاح على كل المنجزات الحضارية المعاصرة على صعيد الثقافة، واشتغلتْ على الوعي الثقافي العالمي، وحاولت أن تعبُرَ بالمجتمع السعودي إلى العالم عبر كل الأشكال الجمالية في كل الفنون، كالأزياء والمطبخ السعودي في أكلاته الشعبية، والموسيقى والغناء الشعبي.. وغير ذلك من فنون، دون أن ينسلخ المجتمع عن هويته التراثية الأصيلة.
الروائي فهد العتيق: حركة ثقافية أدبية سعودية حديثة تتجاوز النخب الثقافية التقليدية الى جميع فئات المجتمع
أظن أننا في العالم العربي وخلال السنوات العشر الأخيرة شهدنا تحولات اجتماعية وثقافية وأدبية كبيرة حركت المياه الثقافية الراكدة . التحولات الثقافية في بلدي المملكة العربية السعودية واضحة وملفتة خلال السنوات الخمس الأخيرة. لو نظرنا لها بشكل عام اجتماعيا وثقافيا لوجدنا أنها مرتبطة ببعضها وأنها مؤثرة جذريا في حركة المجتمع عامة . بمعنى حركة انفتاح اجتماعي ثقافي صاحبها حركة أدبية وفنية للمجتمع عامة وليس للنخبة فقط . وقد لاحظت هذا من خلال الحركة الجديدة لأغلب دور النشر بعد أن صارت هي الشريك الأدبي لوزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة برئاسة الدكتور محمد حسن علوان وهو الكاتب والروائي المعروف. ولم يعد عملها الأدبي في طبع كتب القصة والقصيدة والرواية والنقد، لكنه تجاوز ذلك الى تفعيل نشاطها في عملية الترجمة وإقامة ندوات وأمسيات ثقافية أدبية حول أهم الكتب التي تصدرها دور النشر وهذا رفع مستوى الاهتمام الاجتماعي بالحركة الثقافية الأدبية . لاحظنا هذا في معرض الرياض الدولي للكتاب 2022 الذي كان حضوره في الغالب من الجيل الشاب ومن الأسر والعائلات وليس النخب المثقفة فقط مثلما كان يحدث في السابق. هذا بالاضافة الى العديد من البرامج الجادة التي نفذتها هيئة الأدب والنشر والترجمة مثل برنامج معتزلات الكتابة وشارك فيه عدد كبير من كتاب وكاتبات السعودية والوطن العربي وتقام هذه المعتزلات في المناطق الريفية السعودية المتميزة. وقد رافق هذه التحولات الثقافية ازدهار كبير في حركة النشر عند دور نشر سعودية مهمة مثل “أثر وميلاد” و”تشكيل” و”كلمات ورشم” و”مدارك وجداول” وغيرها التي تواصل اصدار كتبها المتميزة في القصة والقصيدة والرواية والدراسات النقدية . وبلوغ أعمال سعودية الى القائمات القصيرة في أهم الجوائز الأدبية العربية وكان آخرها وصول رواية الكاتبة فاطمة عبدالحميد الى القائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية 2023 .
هذه تحولات تاريخية مفرحة وممتعة وتحرض على الكتابة وأظن أن الأدب يحتاج إلى وقت لاستيعاب هذه الانفتاح الاجتماعي والتحولات الاجتماعية الثقافية التاريخية المهمة والمؤثرة بشكل إيجابي في حياتنا السعودية اليومية.
الكاتبة رباب إسماعيل : المملكة تتجه نحو اقتصاد المعرفة حيث الانفتاح الثقافي على العالم
تشهد المملكة العربية السعودية اليوم طفرة ثقافية هائلة، هذهِ الطفرة هي على مُستوى الجهود والتنظيم والبرامج، أما الثقافة المرتكزة على تاريخ حضاري من التراث والعادات والتقاليد والعمل الإبداعي، فهي موجودة دائمًا. جغرافية المملكة الممتدة على مساحة أرض الجزيرة العربية، أكسبتها تنوّعًا في الثقافات. كما أن تاريخ هذهِ الجزيرة الضارب بجذوره في القِدَم أكسبها عمقًا حضاريًا يمتد لعصور ما قبل الميلاد.
الذي يحدث اليوم أنه أُنشئت في العام 2018 وزارة خاصة بالثقافة تحت رعاية سمو الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان، وذلك في إطار برنامج التحول الذي تعيشه المملكة ضمن رؤية 2030، حيث تبذل الوزارة مجهودًا متميزًا للعناية بكل الكنوز الثقافية، المادية والمعنوية. من أجل ذلك استحدثت الوزارة عددا من الهيئات تمثّلت في هيئة الأدب والنشر والترجمة، الأزياء، الأفلام، التراث، فنون العمارة والتصميم، الفنون البصرية، المتاحف، المسرح والفنون الأدائية، المكتبات، الموسيقى، وهيئة فنون الطهي.
كما أن هناك عددًا من المبادرات الثقافية المتنوعة، مثل مبادرة أرامكو بإنشاء مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي “إثراء” إذ تتجه المملكة اليوم نحو اقتصاد المعرفة، حيث الانفتاح الثقافي على العالم وتعزيز الهوية الوطنية. لذلك فإن الحراك الثقافي الذي تشهده المملكة، يمتد ليتفاعل مع كل القوى الثقافية العربية، بل ويمتد للعالم، مثل برنامج “أقرأ” الذي انطلق في العام 2013، وتطور مع الوقت، خاصة مع هذا التوجه الثقافي للمملكة. ولا يفوتنا أن نذكر أن هذا العام 2023 هو ” عام الشعر العربي “.
يُذكر أن الاشتغال الثقافي كان حاضرًا منذُ عقود في المملكة سواء كان من قِبل الأفراد والجهات الأهلية أو المبادرات الرسمية وإن كانت متفاوتة من وقت لآخر.
الامارات العربية المتحدة:
د. جمال مقابلة – أكاديمي بجامعة الإمارات العربية المتحدة: نهضة الإمارات قامت على استقطاب الكفاءات العربية والعالمية في مجالات العلم والفكر والثقافة
بنظرة متأملة لقراء المشهد العام في الإمارات العربيّة، يمكن رسم الخطوط العامّة للثقافة في هذه الدولة الاتّحادية (1971) المكوّنة من (أبو ظبي، الشارقة، دبي، عجمان، الفجيرة، أم القيوين، ورأس الخيمة) المتنافسة في ما بينها، والمتكاملة بوعي، لترسم مشهدًا منسجمًا، يعبر عن حالة متوهّجة، من التغيير؛ لخلق مستقبل مزدهر في البناء الثقافي والمدني والحضاري.
فقد قامت نهضة الإمارات على استقطاب الكفاءات العربية والعالمية في مجالات العلم والفكر والثقافة من خلال المؤسسات التعليمية والإعلامية والهيئات والوزارات التي رعت حركة تنمية مستدامة، فكان أن أنشئت جامعة الإمارات (1976). وما زالت تعتني بإنشاء الجامعات حتى وصلت أعدادها إلى العشرات، فباتت تنافس مثيلاتها على المستويات العربيّة والإقليميّة والعالميّة.
تحظى الحركة الأدبية في الإمارات برعاية من أعلى المستويات؛ فيرعى الشيخ الدكتور سلطان القاسمي مثلًا الحركة العلمية والثقافية في الشارقة، حاكمًا عالمًا وأديبًا ومسرحيًّا، أسس لمعرض كتاب الشارقة حتّى غدا ينافس أشهر ثلاثة معارض في العالم، وأسّس لحركة فاعلة من النشر والتأليف بالحث على الجوائز في شتى مجالات الآداب والفنون، كما أردف ذلك برعاية مهرجان الشارقة للشعر العربي، ودعا إلى فتح أفق بيت الشعر فيها، ليجعل منه راعي عددا كبيرا من بيوت الشعر على امتداد الوطن العربي.
تضطلع مؤسسة سلطان بن علي العويس في دبي بمهمّة تكريم المبدعين بجائزتها القيمة لعدة فروع في الثقافة والفكر والفن والأدب؛ لترسخ تقاليد الجوائز في الإمارات، وتجعل منها الرائدة في هذا الباب، فنهضة هذه الإمارة جعلت من مدينة دبي أيقونة للعالم، ممّا أدى إلى احتضانها إكسبو 2020 والمضاء في المشاريع الثقافية والسياحية الكبرى مثل القرية العالمية ومتحف دبي ومتحف المستقبل.
وفي أبو ظبي تأسس المجمع الثقافي بمشاريعه الواعدة سنة 1981 فاحتضن مشروع “كلمة” الكبير للترجمة والتأليف، وعنه انبثق مؤخرا مركز أبو ظبي للغة العربية، وانطلق معرض كتاب أبو ظبي بتظاهراته الثقافية الكبرى، واحتفالاته بتوزيع الجوائز وتكريم المبدعين العرب بالجائزة العالميّة للرواية العربيّة “البوكر”، وجائزة الشيخ زايد للكتاب بفروعها العديدة والمتنامية، وكذلك جائزة ابن بطوطة الصادرة عن مركز ارتياد الآفاق بجهود الشاعر محمد السويدي، وتكلّلت رعاية الفنون بإنشاء متحف لوفر أبو ظبي ليضارع أحد أهم معارض الفنون في العالم.
رعت الإمارات بهذه الأنشطة الفعالة المبدعين والمفكرين العرب، وقدمت عددا من الأسماء الإماراتية اللامعة في مجال الشعر مثل أحمد راشد ثاني وحبيب الصايغ وإبراهيم محمد إبراهيم وعادل خزام وشيخة المطيري. وإذا كانت الرواية قد بدأت براشد النعيمي، فقد ارتفع شأنها مع الروائي علي أبو الريش وحصلت ميسون صقر القاسمي على جائزة الشيخ زايد للكتاب، ولمعت أسماء كاتبات مثل ظبية خميس ومريم الساعدي وتكلل أمر ريم الكمالي بالوصول إلى القائمة القصيرة في البوكر.
الشاعر والأكاديمي الاماراتي د. طلال سعيد الجُنيْبي : الامارات تمنح الاقامة الذهبية لأهل الفكر والثقافة حتى تكون وجهة ثقافية
المتابع للشأن الثقافي في دولة الامارات يكتشف نقاطا يمكن الانطلاق منها للنظر في ما يمكن ان تمثل الحال الثقافية في دولة الامارات دولة.
الامارات العربية المتحدة تشهد مناخا ثقافيا غير مسبوق يشتمل على انشطة ومسارات متنوعة. وهذا الواقع الثقافي الذي يرتكز على رؤية مفادها ان ما تمثله الامارات من ثقل اقتصادي في منطقة الخليج العربي والشرق الاوسط حيث انها تمثل نقطة التقاء من حيث انها وجهة من اهم الوجهات الاقتصادية والسياحية في العقد الاخيرة فإنها تريد كذلك ان تكون لها على الصعيد الثقافي مكانة لا تقل بأية حال من الاحوال عن تلك المكانة الاقتصادية والتجارية التي حصدتها خلال العقود القليلة الماضية. وانطلاقا من هذه الرؤية التي تم التصريح بها فإن قرار منح الاقامة الذهبية وتسهيل اعمال وانشطة الكثير من الرموز الفكرية والثقافية دخل حيز التنفيذ فتم منح الجنسية الاماراتية لبعض الرموز الثقافية والفنية الكبرى. وتم اعطاء الاقامة الذهبية لشريحة كبرى من أهل الفكر والثقافة والابداع انطلاقا من رغبة في ان تكون دولة الامارات وجهة ثقافية وان تحتوي بيئتها الداخلية على اهل الفكر الذين ينشرون بطبيعة الحال نتاجهم في محيط يتشرّب هذه الرؤى المختلفة والمتباينة التي تكون مرتكزا لتنوع ثقافي وفكر خلاق يرمي الى جعل الثقافة صناعة.
ومن هذا المنطلق رأينا التنوع الثقافي في اقامة المهرجانات الادبية المختلفة في شتى مشارب الثقافة والفكر والادب من شعر ورواية وقصة ومسرح حتى راينا اكثر الجوائز الكبرى والمسابقات كمهرجان الشعر العربي ومهرجان مسرح الشارقة ومسابقة امير الشعراء وشاعر المليون وجائزة الشيخ زايد للكتاب على سبيل الذكر لا الحصر وكل هذه المهرجانات والجوائز الثقافية والفكرية ترمي الى ترسيخ دور دولة الامارات كوجهة الثقافية يمكن ان تكون في المستقبل احد اهم المراتع التي يمكن ان يجد فيها اهل الثقافة والفكر مرادهم.
رؤية مقتضبة تشير الى توجه نحو الثقافة تتوقع دولة الامارات ان تحقق من خلالها مكاسبا ثقافية وفكرية تجعلها في مصاف الدول التي يشار اليها بالبنان في مجال الثقافة. في نهاية المطاف قد لا يتم تحقيق الهدف بصورة كاملة ولكن يكفي شرف المحاولة ووضع كل هذه الخطط من بوابة احترام وتقدير وتقييم الثقافة والمثقف وما يمثل كل ذلك من قيمة راسخة ادركها صاحب القرار فجعل منها هدفا يُرجى واستقطب من خلالها رموزها لكي تكون دولة الامارات وجهة ثقافية يشار اليها بالبنان.
سلطنة عمان:
الناقد والاكاديمي د. ابراهيم السعّافين : لو تأمّلنا في الحركة الثقافية والعلميّة في سلطنة عمان لوجدنا أنّ حاضرها يستدعي ماضيها
تشهد منطقة الخليج منذ عقود حراكًا ثقافيًّا وإبداعيّا وعلميًّا مؤثّرًا تجلّى بصور مختلفة في بعض أقطاره مثل المملكة العربيّة السعوديّة والكويت والبحرين ثم الإمارات وقطر في ظهور شعراء وروائيّين ومسرحيين ومجلات وصحف ووسائل إعلام وجامعات ومؤسسات وجوائز.
وهذا الأمر ينسحب كلّه على الحركة الثقافية والإبداعية في سلطنة عمان؛ فهي تشهد الآن نهضة واسعة من خلال جامعاتها ابتداء من الجامعة الأم جامعة السلطان قابوس إلى جامعاتها في الولايات الأخرى، ولجوائزها ولصحفها ومجلاتها مكانة متميّزة وعلى رأسها جائزة السّلطان قابوس مجلة “نزوى” التي يرأس تحريرها الشاعر البارز سيف الرّحبي. ويقوم النادي الثقافي العماني الذي يرأس مجلس إدارته الدكتور محمود السليمي بنشاط علميّ وثقافيّ واسع على مدى العام، ولمركز التعريب والترجمة والاهتمام باللغة العربية الذي يديره الدكتور عبد الله بن سيف الثّوبي دور مهم في هذا الصّدد.
ولو تأمّلنا الحركة الثقافية والعلميّة والإبداعيّة في سلطنة عمان لوجدنا أنّ حاضر هذه الحركة يستدعي ماضيها. فثمة رموز ثقافيّة وعلميّة وإبداعيّة نمتهم عمان من قديم الزّمان وتشهد السّلطنة هذه الأيّام بزوغ نجوم إبداعيّة ينالون التكريم والجوائز في شتّى الآداب والفنون في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح وسائر الفنون وما نيل عدد من العمانيين الجائزة العالميّة للرواية العربيّة على مدى سنوات إلا دليل على تقدم فن الرواية في عمّان وخصوبة الحياة الاجتماعية وغنى التراث الذي يمد المبدع بمادة خام لا تقدّر بثمن.
الكاتبة بدرية البدري : “جوخة الحارثي” أول “كاتب عربي” يحصل على جائزة البوكر العالمية تلاها “زهران القاسمي” في جائزة البوكر العربية
العالم كله يشهد اليوم تطورًا كبيرًا في كل المجالات، وأحدها وليس أوحدها الثقافة، والوعي المعلوماتي، ومما ساهم في ذلك الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الإلكترونية؛ فأصبح العالم أصغر من حجم كف الإنسان، يمكنه في ثانية معرفة آخر الأخبار، وفي لحظة يصل لأي كتاب لأي كاتب في العالم، وعمان بلد معروف بكُتّابه وعلمائه على مر التاريخ، ولا يمكن للمرء أن يتجاهل مؤسس علم العروض الخليل بن أحمد الفراهيدي (العماني)، والشاعر أبي مسلم البهلاني، وغيرهما. ولا ننكر أن البلد قد مر بفترة غياب عن الساحة الثقافية، والعلمية، ثم مع بداية عصر النهضة في عام 1970 بدأت عمان ترجع شيئا فشيئا لإرثها العلمي والثقافي، وبدأ الكُتّاب في الظهور، ومع الوقت أصبح هذا الظهور فارقًا؛ فكانت “جوخة الحارثي” أول “كاتب عربي” يحصل على جائزة البوكر العالمية، ثم تلاها “زهران القاسمي” في جائزة البوكر العربية، و”بشرى حلفان” في القائمة القصيرة ثم جائزة كتارا للرواية. وفي الشعر لدينا “عائشة السيفي” أول أميرة للشعراء، “وبدرية البدري” أول شاعرة تفوز بجائزة كتارا لشاعر الرسول، والكثير من الأسماء التي يصعب حصرها في مداخلة قصيرة، وإنما ذكرت هذه الأسماء لارتباطها بجوائز، وجميعنا يعرف ما للجوائز من دور في إظهار الكُتّاب، وانتشارهم بشكل أكثر.
الكاتب محمد الشحري : بعد فوز جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر كأول كاتب عربي بدأت الأنظار تتجه الى الادب العماني
نظرا لسيرورة الحياة وصيرورتها فإن الثقافة العمانية تشهد نقلة نوعية في الانتشار خاصة في الآداب والفنون.. فبعد فوز الكاتبة والروائية جوخة الحارثي بجائزة المان بوكر كأول كاتب عربي يفوز بالجائزة عن روايتها “سيدات القمر”. بدأت الأنظار تتجه إلى الأدب العماني وبعد ذلك فازت الكاتبة بشرى خلفان بجائزة كتارا للرواية. وبعدها الشاعرة بدرية البدري وعائشة السيفي في مسابقات شعرية كشاعر المليون وشاعر الرسول. ثم توج الكاتب زهران القاسمي بجائزة الرواية العربية البوكر عن روايته “تغريبة القافر”..
يعبر هذا التتويج عن تألق صعود الأدب العماني في زمن قياسي يقاس بحوالي 40 سنة. والذي تأخر عن الظهور لأسباب سياسية- عزلة عمان أيام السلطان سعيد بن تيمور- وأسباب ثقافية – لا توجد الا 3 مدارس تقليدية في عمان سنة 1970-. ترجع اسباب صعود الأدب العماني إلى مكونات الثقافة العمانية التي لا توجد في اي بلد عربي آخر. فمثلا توجد حوالي عشر لغات في عمان منها لغات سامية عربية جنوبية حديثة كالشحرية والمهرية والحرسوسية والهبيوتية. ولغات أفريقية كالسواحيلية وهندية كاللواتيا وفارسية كالبلوشية ولغات أخرى مزيج من الفارسية والعربية والبرتغالية كالكمزارية.
ساهمت مجلة “نزوى” العمانية في الثقافة العربية عبر نشر ثقافة حداثية والنشر لاهم الكتاب العرب والتعريف بالأدب والفن العمانيين. ومن ابرز رموز الثقافة العمانية نجد : سيف الرحبي وزاهر الغافري وخوخة الحارثي وزهران القاسمي وبشرى خلفان وعبد الله الحراصي وهدى حمد ومنى حبراس وأحمد الزبيدي وعلي المعمري وأحمد الفلاحي وسليمان المعمري ومحمود الرحبي ومحمد الشحري ويونس الاخزمي ويحيى سلام وحسن مير وبدور الريامي ويوسف الحاج وسماء عيسى والكاتب والسينمائي عبد الله حبيب وأسماء أخرى مهمة لا يتسع المجال لذكرها..
الكويت:
الكاتب خالد النصر الله : الكويت تشيّد الآن أكبر مسرح في الشرق الأوسط
تأسس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في جويلية 1973 متضمناً رؤية الدولة في تنمية الفكر ورعايته، ومن قبله تأسست مجلة “العربي” عام 1958، ومنذ ذلك لعب هذان الرافدان دوراً أساسياً في تشكيل واجهة الكويت الثقافية، وقد تنامى هذا الدور بشكل كبير وواضح مع مضي السنوات، لكن تأثيره تراجع ربما بعد عام 1990، وقد يكون سبب ذلك ظهور مؤسسات أخرى في دول مجاورة.
اللافت في الكويت حيوية القطاع الثقافي الخاص، المتمثل في المكتبات ودور النشر، وأندية القراءة وقاعات عرض الفنون الخاصة ومراكز تعليم وتدريب الموسيقى، وهنا لا نقصد المؤسسات الأكاديمية مثل المعهد العالي للفنون المسرحية، أو جمعيات النفع العام مثل رابطة الأدباء أو جمعية التشكيليين، وإنما جهات قائمة بجهود شخصية من حيث المبادرة والتمويل، وهي بطبيعة الحال تهدف إلى الربح وقادرة على الاستمرار وهذا يدل على اهتمام الأفراد وإقبالهم على هذا النوع من النشاط. من جانب آخر يُلاحظ تزايد دور النشر الكويتية وإنتاجها الغزير للكتب وحضورها في المعارض العربية كافة. وندلل على ذلك بمشاركة دار نوفا بلس ودار ديوان والإبداع الفكري في معرضي تونس والجزائر الأخيرين، ومشاركة دار الخان ودار تكوين في معرض المغرب، إضافة إلى معرض القاهرة وعمّان وبغداد وأشير إلى هذه المعارض بالذات لأن الناشر الخليجي لم يكن يصل إليها في العادة.
من الجانب الحكومي، أنشأت الكويت في عام 2015 دار أوبرا عصرية تحت اسم (مركز الشيخ جابر الأحمد الثقافي) يشمل عدة مسارح وقاعات عرض وحوار ومكتبة كبيرة. كذلك افتتحت المكتبة الوطنية الجديدة قبالة متحف الكويت الوطني الذي تُجرى عليه أعمال التوسعة والتجديد حالياً، ولمركز جابر نشاطه الموسمي الفعال والذي يعتبر وجهة أساسية للجمهور، من حفلات موسيقية ومسرحية وعروض ولقاءات نقاشية، كما يشمل مركزا لتعليم الموسيقى، وأقيمت فيه عدة حفلات أوبريت خلال السنوات الماضية، وإضافة إلى هذا نشير إلى “مركز عبد الله السالم الثقافي” والذي تأسس في عام 2018 ويضم ستة متاحف علمية كبيرة متنوعة حول، الفضاء وجسم الإنسان والنظم البيئية والتاريخ الطبيعي والعلوم والتكنولوجيا والعلوم العربية، وهي متاحف تفاعلية ترفيهية يشارك زوارها في المرافق والأجهزة والتجارب العلمية، وتضم 22 قاعة عرض وورشات للأطفال.
تشيّد الكويت الآن أكبر مسرح في الشرق الأوسط وسيقام في حديقة الشهيد التي تحتوي كذلك على بعض المرافق الفنية المفتوحة، والحديقة تعتبر شريطا أخضر طويلا يطوّق شارع السور الذي يحد العاصمة. أما بخصوص دور السينما والمسرح فالكويت تعتبر رائدة في المنطقة وهذا النشاط ممتد منذ خمسينات القرن الماضي حتى اللحظة.
الكويت معروفة في الجوانب الفنية والأدبية ولديها أسماؤها المبارزة في الدراما والغناء والتشكيل والأدب وحصل عدد كبير منهم على جوائز وحضور لافت في المسابقات أو المهرجانات العربية.
قطر:
د. أحمد عبد الملك أكاديمي وروائي: تغييرات ثقافية ضخمة تشهدها دولة قطر اليوم
درجت دولة قطر على متابعة المعاصرة، واعتبارها هدفاً مهماً في المجال الثقافي، دونما الإخلال بمعايير الأصالة، التي تُعتبر الأساس المتين في تطور الآداب والفنون. وبطبيعة الحال، لم تنفصل الثقافة في دولة قطر عن مثيلاتها في الدول العربية، والتي تُعتبر المعين الخصب لأية ثقافة ناشئة. ولقد حصر الدكتور محمد عبد الرحيم كافود، وزير التربية الأسبق، اتجاهات الثقافة في دولة قطر، كالتالي: النثر الفني، ورسائل الحكام والوعاظ، وهي مرحلة النثر الأولى. أما المرحلة الثانية فكانت بروز النثر الحديث: المقالة، القصة، المسرحية. كما تناول الشعر القطري الحديث، والشعر النبطي، وأشهر شعراء المرحلة الأولى والثانية. (كتاب الأدب القطري الحديث، الطبعة الثانية، 1982).
وفي رأينا أن الحراك الثقافي في دولة قطر، بدأ قبل الاستقلال بكثير، أي قبل 1971، حيث عني حكامُ قطر بطباعة الدواوين الشعرية في الهند، منذ الستينات. وساهم وجود وزارة الإعلام والثقافة، ومن بعدها المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث، ثم وزارة الثقافة، في دفع حركة النشر والتأليف، وتشجيع المواهب باقتناء ما يصدر عنهم من إنتاج ثقافي. وتركزت حركة التأليف في مرحلتي الثمانينات والتسعينات على طباعة وتداول كتب التراث والتاريخ، والقصة القصيرة، وفي منتصف التسعينيات من القرن الماضي بدأ التركيز على الرواية، والشعر الحديث، والمسرح.
أما عن أبرز رموز الثقافة هذه الأيام، في مجال الشعر؛ فيمكن ذكر: الشيخ مبارك بن سيف آل ثاني، وعبد الرحمن المناعي، ومحمد خليفة العطية، وعبد الرحيم الصديقي، وعلي ميرزا محمود، وسعاد الكواري، وفالح العجلان، ومحمد محسن النعيمي، وغيرهم. وأما رموز القصة القصيرة، فمنهم: أحمد عبد الملك، جمال فايز، هدى النعيمي، كلثم جبر، حسن رشيد، محسن الهاجري، نورة محمد فرج، شمّة الكواري، نورة آل سعد.. وغيرهم.
وبالنسبة لرموز الرواية، فنجد منهم: أحمد عبد الملك؛ صاحب 13 رواية، اثنتان منهما فازتا بجائزة كتارا للرواية العربية (2019 و 2022)، وشعاع خليفة وأختها دلال خليفة رائدتا الرواية في قطر منذ عام 1993، وعبد الرحيم الصديقي، وشمّة الكواري، وعبد العزيز المحمود، ومحمد علي عبد الله، وعيسى عبد الله، وعبد الله فخرو.. وغيرهم.
ويُلاحظ أن التركيز هذه الأيام بدا واضحاً على الإنتاج الروائي، وبشكل ملفت؛ ما جعل الشعر يتراجع مع هذه الموجة الجديدة، وساهم في ذلك وجود دور نشر قطرية، وأيضاً دور نشر خليجية اهتمت بالرواية بشكل واضح.
البحرين:
الشاعر كريم رضي: تحولات المشهد الشعري في البحرين من الموهبة إلى المعرفة
ظل المشهد في البحرين مثلما هو في العالم العربي طويلا حبيس فكرة غلبة الموهبة على المعرفة أو غلبة العفوية على الصنعة وهي الفكرة التي كانت تنظر إلى الشعر على أنه مجرّد نتاج تدفق تداعيات القريحة والعفوية غير المخطط لها. غير أننا نعلم أن الحداثة ليست كذلك. وإذا كان لنا أن نستشهد بواحد من رواد الحداثة الشعرية العالميين المهمين جدا هو الشاعر الأمريكي البريطاني تي إس إيليوت صاحب القصيدة التي اعتبرت فرمان الحداثة الشعري وهي قصيدة “الأرض الخراب” في عام 1922 وقد انقضت مائة عام على ظهورها فسنجده يهديها إلى رفيق تجربته الشعرية الشاعر الأمريكي إزرا باوند بعبارة (إلى الصائغ الأمهر إزرا باوند). والحق إن الشعر الحديث في البحرين انتبه إلى هذه الإشكالية وسوف يذهب الشعراء إلى صناعة القصيدة عبر شبكة من التعالق النصي والتفاعل المعرفي مع نصوص شعرية تراثية ومع شخصيات في التراث العربي ما يجعل الشعر حقا صياغة وصناعة وليس مجرد تدفق عفوي للموهبة. وهذا ما وجدناه على الأقل في خمس تجارب سوف نسمي فقط عناوين اشتغالاتها مع شرح بسيط عنها حيث لا يسمح المجال المحدود باستعراض هذه التجارب بالتفصيل: على غرار تجربة قاسم حداد في كتابه “أخبار المجنون” وهو كتاب عن اختبار العشق لدى قيس بن الملوح برؤية معاصرة بعيدة عن ميلودراما قيس ودموع ليلى، وكتاب آخر هو “طرفة بن العبد” عن تجربة الغلام القتيل المعمدة بدماء الشعر والشاعر وكتاب ثالث هو “أيها الفحم يا سيدي” يتعالق فيه قاسم حداد مع تجربة الرسام فان جوخ فنانا وإنسانا.
وتجربة عبد الله زهير في مخطوط “الخيام” الجديد وفيه يتناول شخصية عمر الخيام منذ ولادته تحت حوافر خيل المغول وهي تجتاح نيسابور إلى تشكل تجربته الشعرية الفلسفية والعرفانية. أما الشاعر حسين السماهيجي فقد قال “ما لم يقل أبو طاهر القرمطي” وهو يعود بنا إلى ماضي البحرين الكبرى التي شكل فيها القرمطي أو الجنابي جزءا من تاريخ هذا الإقليم بحركة القرامطة الإشكالية سياسيا وعقديا. إضافة الى تجربة أحمد العجمي عبر كتابه “مرآة علي” حيث يقرأ علي ابن أبي طالب نصا وشخصا وهو كما نعلم الصانع الأهم للنص العربي بعد النص القرآني بسبب خطبه المشحونة بدلالات المعاصرة لمحنة الإنسان في مرحلتي صدر الإسلام ووسط الإسلام. ثم كتابه الآخر “ليلى وقيس على فايسبوك” وفيه يعيد أحمد العجمي انتاج قصة العاشقين الشهيرين لكن بأن يلقي بهما في شوارع القرن الحادي والعشرين الصاخبة لا في خيمة البداوة الوالهة العاشقة. وأخيرا تجربة يوسف حسن من خلال ديوانه “زهرة الغسق” حيث نرى تقاطعات يوسف حسن مع جلجامش وهوميروس وأبو البحر الخطي والمهلب ابن أبي صفرة وعوليس ودنيلوب وغيرهم من الشخصيات التي يستكتبها يوسف حسن لتكتب معه قصيدة معاصرة تعيش في راهن العصر وراهن الشعر. وهكذا سنعثر على آخر ما يقترح المشهد الشعري الحديث من اجتهاد معرفي يعيدنا إلى مقولة أهم رواد الحداثة الشعرية في البحرين وهو قاسم حداد وهو يقول في لقاءات بيت ياسين: “لم يعد الشعر بالنسبة لي مجرد خاطر أو تعبير عفوي عن الذات بل هو تجربة عبر البحث والمعرفة” (قاسم حداد- حوارات بيت ياسين 2020).
رغم كل هذه الانجازات …
في مقال نُشر بموقع “العربي الجديد” (مارس 2017) اعترف الكاتب السعودي بدر الإبراهيم بضخامة الحراك الثقافي الذي يعيش على وقعه الخليج العربي ملاحظا أن التفاخر بانتقال مركز الثقل الثقافي العربي، من مراكز الثقافة العربية التقليدية (دمشق وبغداد والقاهرة)، إلى العواصم الخليجية، ما هي الا “مزاعم في إطار صراعي، يرنو إلى إنهاء تفوقٍ تاريخي لتلك المراكز التقليدية، بدفعٍ من عقدة الهامشية، مقارنة بهذه المراكز”.
ويعترف ابن المملكة أيضا بأن “القدرات المالية وحدها لا تكفي لصناعة مجدٍ ثقافي، وبأن المساهمة الخليجية في إثراء المكتبة العربية ما زالت ضئيلة”.
ورغم اعتراف بعض النخب العربية اليوم وإجماعها على ما حققت بلدان الخليج العربي في مجالات الثقافة والفكر والتعليم والتكنولوجيا فإن الابراهيم يرى أن الثقافة الخليجية ما هي إلا “صناعة عربية تحققت أهدافها بأياد وعقول قادمة اغلبها من تلك المراكز التقليدية التي تشهد اليوم اضطرابات وحروبا أهلية وتراجعا اقتصاديا أصاب الحالة الثقافية بضرر كبير”. وأنه رغم الفعاليات والمهرجانات والمعارض العديدة لم يتجسّد الثقل الثقافي بعد في واقع دول الخليج حتى الآن، ولم يظهر مشروع عربي ثقافي بديل يقلب المنطقة برمّتها. ورغم كل ما قيل ويقال تبقى كل الأرقام والانجازات والجوائز والمؤسسات الثقافية والترفيهية المُحدثة أكبر مؤشر وخير دليل على انتعاش المشهد الثقافي بالمناطق الخليجية.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 20 جوان 2023