الشارع المغاربي – هل نحن شعبٌ متسامح؟ تفاعل مع نص للأستاذ خالد الكريشي/بقلم: البحري العرفاوي

هل نحن شعبٌ متسامح؟ تفاعل مع نص للأستاذ خالد الكريشي/بقلم: البحري العرفاوي

قسم الأخبار

19 يونيو، 2024

الشارع المغاربي: اولا : في معنى التسامح

التسامح، على وزن التفاعل، وهي صيغة تفيد مشاركة، حين يتبادل طرفان فعلا معينا مثل قولنا “التحابب” و”التعاون” و”التعاضد”، وهي صيغة تقتضي تبادل طرفين أو أكثر نفس الفعل، بوعي وإرادة حرة.

وفي موضوع الحال، “التسامح” يعني تبادل أطراف قيمة السماحة وتعني اللطافة في تقبل فعل الآخرين تجاهنا وخاصة ما فيه أذى وظلم. فقد تمر العلاقات بين أفراد وجماعات الى مراحل من التوتر والخصام فتخرج إدارة الخلاف عن حدود العقل والمحاورة ليحل محلهما الإيذاء المتبادل حيث يتجاوز كلاهما أو أحدهما معايير العدل والأخلاق ليمارس الفحش والجهل والتعدي.

ولما كانت الخصومات كما الحروب تنتهي دائما إلى تسويات سواء بصفة تلقائية بين المتخاصمين او بوساطة طرف خارجي، فإن تلك التسويات لا يمكن أن تستمر ما لم يصاحبها “تسامح” بين اولئك المتخاصمين.

والتسامح يحتاج قوة نفسية لتجاوز الحقد والكراهية والرغبة في الثأر، إذ هو ليس مجرد موقف عقلي أو حكم قضائي أو خضوع مغلوب لغالب. إنه حالة نفسية يرتقي فيها المتخاصمون من حالة الحقد الى حالة الصفاء والسماحة والصفح، دون عودة نفسية أو ذهنية إلى أجواء الخصام وتفاصيل العداوة حتى لا تُستثار الأنفس من جديد مثل نافخ في جمرات ذاوية بقاع رماد.

ثانيا: التسامح اقتدار

إن الصفات الجيدة لا تُكتسب إلا بالقدرة على نقيضها، فلا يكون عفو إلا عند قدرة على العقوبة، ولا يكون تعفف إلا عند توفر المغانم، ولا يكون تواضع الا مع توفر عوامل التكبّر. أما الضعفاء والمهزومون والمُعدَمون فلا يصدق فيهم وصف بالتواضع والعفو والتعفف.

وهنا، وللإجابة عن سؤالنا عمّا ان كنّا شعبا “متسامحا” علينا أن ننظر في إن كنا في وضعية “سليمة” أي إن كنا بعيدين عن أجواء الإكراه والمغلوبية والحيف والاستضعاف.

ولعلنا لا نحتاج الاستعانة بعلماء النفس الاجتماعي لفهم “حالة” التونسيين، ولنلاحظ بمجرد تعاملاتنا اليومية أن الشعب التونسي في غالبيته يستبطن حالة “انقهار” يصطحبها الأفراد من التنشئة الأولى سواء في الأسرة أو في الكتاتيب أو في المدرسة أو في الشارع. فالنفس المقهورة لا يمكن أن تكون سوية إنما تظل تبحث عن توازنها من خلال رد الفعل ضد من هو أضعف منها. فالطفل المقهور يرد الفعل في أخيه الأصغر أو في ابن الجار. والمربي يقهر تلاميذه والعامل المقهور في الشغل يرد الفعل في بيته. والفقير يرى الغني سارقا لنصيبه في الثروة. وهكذا تتناسل عُقد الانتقام في اللاوعي الجمعي فإذا بالكل ينتقم من الكل دون قدرة على تحديد نقطة انطلاق الأزمة النفسية.

ثالثا: الذات المقهورة والحرية المهدورة

من المؤكد أن قادح سؤال الأستاذ خالد الكريشي عما إن كنا شعبا متسامحا، هي الأجواء السياسة التي سادت البلاد بعد 2011، حيثُ تفجّرت في التونسيين “خزّانات” انقهارهم فإذا هم يركضون في ساحة “وغى” كل يحاول ردّ الاعتبار لذاته المقهورة. ولا يعني الجميعَ مشتركٌ وطني أو حضاري إنما صار لكل فرد أو جماعة “هدف” يضيق بالآخرين حتى توزع بعض ملايين من البشر على أكثر من مائتي حزب وكأن مصادر المعرفة ومراجع النظريات صارت بعدد الأفراد المشتغلين بالسياسة فخاض كل الناس في كل المواضيع ولا أحد يراعي لأحدٍ تخصصا أو سَبْقًا أو جدارةً ذاتية ليكون “رمزا” نضاليا أو “حكيما” مُوَجّهًا. فقد استوت الرؤوس وفسدت النفوس وصار الجميع يطلب “مجدًا” ذاتيا لا يُنازعه فيه أحد.

تلك الغرائزية أضرت بكيمياء الوحدة الوطنية وأضعفت القيم إلى حد كبير فأسأنا فهم الحرية بما هي مسؤولية وجدارة، فلسنا نكتسب من الحرية إلا بقدر جدارتنا أي بقدر ما نتوفر عليه من المعارف ومن الالتزام الأخلاقي تجاه الآخرين حتى لا تكون الحرية مدخلا للفوضى ولإيذاء غيرنا. لقد تصرفنا في أجواء الحرية كمن عثر على كنز صُدفة فلم يعرف كيف يستثمر فيه فإذا به يُبدّدُه في العبث وإشباع النزوات. لقد غرق أغلب التونسيين في “إشباع” غرائزيتهم فإذا هم يختلفون في كل شيء ولا يتفقون حتى على معنى الاختلاف، وصارت السياسة نوعا آخر من “الحرب” تُبادُ فيه القيم والروابط المجتمعية بل وحتى هيبة المعرفة ووقار الثقافة ومهابة العلم ورفعة العلماء. صار كل شيء في مرمى القصف العشوائي حتى تطاول الفارغون على العارفين والعاجزون على المكافحين.

رابعا: ما العمل؟

إن معالجة الازمات النفسية والأخلاقية لا تتطلب إجراءات عقابية ولا إلى مراكز بحث أو فريق من علماء النفس الاجتماعي. فالمجتمعات “المتدهورة” تحتاج “رموزا” تكون علاماتٍ في طريق استعادة المعنى تماما مثلما فعل أنبياء وفلاسفة ومصلحون حين كانوا “أُسوةً” عمليةً في مجتمعاتهم، يُقدّمون نماذج في “الإنسان السويّ” ويكونون دليلا تطبيقيا على أن القيم يُمكن أن تكون واقعا في حياة الناس ومعاملاتهم وعلاقاتهم.

إن المسؤولية لا يتحملها “المجتمع السياسي” وحده وإنما نتحملها جميعا حين نتفق على عناوين كبرى نشتغل عليها، مدارُها الإنسانُ في شموخه وكبريائه، والوطنُ في سيادته وجاذبيته، والمستقبلُ في لطف نداءاتِه لبناتنا وأبنائنا القادمات والقادمين والعالقين في رحم الغيب.

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جوان 2024


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING