الشارع المغاربي – وداعا آخر الرجال المحترمين: بين العقربي ورادس... رحلة زمن طويلة

وداعا آخر الرجال المحترمين: بين العقربي ورادس… رحلة زمن طويلة

قسم الأخبار

28 أغسطس، 2020

الشارع المغاربي-العربي الوسلاتي: شّيعت تونس بكلّ أطيافها وألوانها ومكوّناتها يوم السبت الماضي اللاعب الدولي السابق وساحر كلّ الأجيال حمّادي العقربي الى مثواه الأخير في جنازة شعبية مهيبة عكست المكانة المميّزة والرفيعة التي كان يحظى بها أسطورة كرة القدم التونسية في قلوب كلّ التونسيين بمختلف انتماءاتهم.
رحل حمّادي العقربي وسيبقى اسمه مثلما كان عالقا بالأذهان ومحفورا في الذاكرة الرياضية ليس لأنّه كان لاعبا استثنائيا فذّا فحسب وإنما لأنّه ارتقى الى أعلى درجات الانسان هناك حيث لا مكان للنقائص ولسلاطة اللسان…
آخر الرجال المحترمين…
للأسف الشديد لم نكن محظوظين كثيرا قياسا بمن سبقونا وعاشوا كلّ فصول ملحمة الأرجنتين لأننا لم نكن من ذلك الجيل الذي عاش على وقع فنيات وسحر العقربي.. فكل ما سمعنا عنه ورأينا منه كان مجرّد لقطات عابرة وحركات خالدة في الذاكرة وحكايات أسطورية قطعت كلّ المسافات وعبرت كلّ الأزمنة للاعب استثنائي لم تعرف له الملاعب مثيلا… كان فريدا الى درجة لا توصف وكان معشوق الخصوم والمنافسين وقبلة المتيمين بسحر الساحرة المستديرة…
كان لاعبا خارج دائرة التصنيفات والتسميات وكان فوق النقد والمقارنات وفي مكان شاهق جدّا لم يسبقه اليه أي رياضيّ لا قبله ولا بعده… حمّادي العقربي كان “فلتة جيله” وسيّد قومه وهذا لا يختلف عليه اثنان وكان ومازال معبود الجماهير لأنّه أسر القلوب والعقول والعيون بفنيّاته ومهاراته وخاصة بأخلاقه العالية وبتواضعه الكبير الذي جعله محبوب الجماهير ومضرب الأمثال سواء لمن عاشروه أو كذلك لكلّ الذين سمعوا عنه ولم يزاملوه… العقربي هو آخر الرجال المحترمين في هذا الزمن اللعين وخروج الناس الى الشارع بتلك الأعداد الكبيرة والغفيرة لتوديعه في يوم مشهود أحسن وأفضل اعتراف لما كان يحظى به الرجل من حبّ واحترام ومكانة خاصة في قلوب الناس… كلّ الناس دون استثناء…
ساحر من نوع خاص…
لأنّ حمّادي العقربي كان استثنائيا في كلّ شيء فقد أحبّ الناس سحره ودخلوا أفواجا أفواجا في جنّة ملاعبه… فصار ساحرهم الذي يُفتنون به ومثلهم الأعلى الذي يقتدون به… كان ساحر كلّ الأجيال لأنّه نجح كذلك في تجميع الناس من حوله حتى بعد اعتزاله كرة القدم وحتى يوم مماته… أحسن ما في فقيد الكرة التونسية حمادي العقربي هو الجانب الانساني الطاغي على تكوينه وعلى شخصيته… حياؤه الشديد وخجله المفرط وتواضعه الذي رفعه الى عنان السماء جعلت منه أسطورة تونسية خالدة ستظلّ دائما على قيد الحياة…
العقربي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس عندما كان لاعبا في النادي الصفاقسي وفي المنتخب الوطني فضّل بعد “تعليق الصبّاطّ” اعتزال الأضواء واختار أن يعزل نفسه في مربّع صغير مع محبّيه الأقرب بعيدا عن ضجيج الكرة وعن فرقعة البلاتوات… رفض الدخول في لعبة المزايدات وفي تصفية الحسابات وحتى في تقديم شهادات “الحسن والسيّء” رغم أنه مؤهل أكثر من غيره لإعطاء رأيه في كلّ شيء يتعلّق بالكرة سواء لاعبين أو مدرّبين أو حتى مسؤولين لأنه كان ببساطة ساحرهم الذي يجيد فنونهم ويحيي مناسكهم وطقوسهم… لم يكن العقربي حسب من رافقه من أًصدقاء دربه يتعمّد الهروب أو الاحتجاب لا خوفا ولا طمعا ولكنه كان يميل الى الانطواء والعزلة لأنّ نفسه الطاهرة تلعن الشمس الحارقة وتلفظ النجومية الساطعة… هو اختار أن يكون هكذا نقيّ السريرة وعاشقا للعتمة وللسكينة بعد أن غطّى نوره الجميع…
اعتراف متأخّر…
كانت جنازة حمّادي العقربي تليق بمكانته وبسمعته وبمحبته وبرفعة ودماثة أخلاقه وكانت اعترافا ضمنيا بما قدّم “الساحر الملاك” من تضحيات لهذا الوطن اسهاما في رفع رايته الوطنية في أكبر المحافل الرياضية الدولية… كان الثواب على قدر الحساب وكان الاعتراف في مستوى المسيرة الحافلة والذكرى الناصعة التي خلّفها في النفوس وفي الذاكرة… ولكن رغم كلّ ما سبق يجوز القول إنّ الاعتراف جاء كعادته متأخّرا بعض الشيء… فالفقيد كان يستحق عناية أكثر ولفتة أكبر في حياته قبل مماته… كان يستحق أنّ يرى جحافل المحبين تلاحق خطواته وهو مفتوح العينين وليس محمولا على الكتفين… كان يمكن أن تسهم بعض الزيارات الرسمية في الرفع من معنوياته وفي التخفيف من معاناته من المرض اللعين الذي تملّك به… كان يمكن لبعض العشرات وليس الآلاف ممّن حضروا موكب دفنه في ملعب الطيّب المهيري وخارجه أن يبعثوا فيه نسمات الحياة قبل الانتقال الى جنّة الممات…كان يمكن لبعض الكلمات أن تزيح عن قلبه النقّي الطاهر بعض الوخزات وأن تحيي ذكراه طويلا وهو على قيد الحياة…
صحيح أن إرادة الله تسبق دائما إرادة كلّ البشر ولكن كان يجب الأخذ بالأسباب والمسببات لأنّ اليقين بالله يسبق أحيانا سيف القدر فقط لو تعاملت الدولة في أعلى مستوياتها مع ملفّ العقربي الطبّي والانساني بأكثر جدّية ومسؤولية دون الاقتصار على بعض الزيارات الشكلية والصور الفوتوغرافية التي لا تنفخ أكسجين الحياة ولا تمنع روائح الممات… كان يمكن فقط بقليل من الوعي والإرادة الحقيقية توفير عناية طبيّة أكبر للفقيد الذي ظلّ يصارع المرض بمفرده وكان بالإمكان تسفيره للعلاج بالخارج… كان ذلك يسيرا جدّا لو توفّرت الرغبة والإرادة الحقيقية لحماية هذه الشخصية الوطنية… وكان ذلك أيسر بكثير من تفجير “لغم” التسمية الجديدة لملعب رادس الذي ألقاه رئيس حكومة تصريف الأعمال الياس الفخفاخ وهو يحزم حقائب الفشل والرحيل…
فتنة رادس…
في كلمة التأبين التي ألقاها، أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال الياس الفخفاخ عن إطلاق اسم المرحوم حمّادي العقربي على ملعب رادس… اعلان خلّف الكثير من الجدل وغطّى على جانب كبير من أخبار الجنازة المهيبة… الاجماع على حبّ العقربي لا يرقى اليه الشكّ ولكن الشكّ تسرّب الى النفوس بمجرّد الدخول في مربّع الجدل… هل يجوز أخلاقيا وقبل كلّ تقييم ثانوي تسمية ملعب رادس باسم حمّادي العقربي أم لا؟ الجدل له ما يبرّره ليس لأنّ العقربي لا يستحق هذا التكريم أو لأنّ ملعب رادس أكبر من اسم ساحر الأجيال ولكن لأنّ ظروف الاعلان عن التسمية الجديدة كانت مريبة جدّا وتفوح منها رائحة التوظيف الشعبوي والجهوي المقيت…
البعض لم يتحرّج من الكشف عن رفضهم المعلن لتغيير تسمية الملعب ومثلما قلنا ليس تقزيما لذكرى العقربي ولكن بسبب سوابق الفخفاخ ونكساته السياسية. الذين رأوا أنّ الأمر لا يستقيم لهم حججهم وتبريراتهم فهم لا يثقون في نوايا الفخفاخ ويعتبرون أنّ حسّه الجهوي هو الذي قاده للسير في هذا النهج بما أنه أًصيل صفاقس مسقط رأس العقربي وحتى لا يتحرّج البعض أكثر من وضع العصا في العجلة قالوا إنّ رموز العاصمة على غرار “بلها” و”الزقو” أولى بهذا التكريم لعدّة اعتبارات أهمّها العامل الجغرافي… ورغم أنّ هذا الطرح مغلوط ولا يستقيم لأنّ العقربي كان محبوب كلّ التونسيين فإنّ رقعة جبهة المعارضة اتسعت أكثر حتى تلوّث الجدل بعد تعداد أسماء أبطال ملحمة الأرجنتين والذين يستحقون كذلك تكريما مماثلا حتى لو كانوا على قيد الحياة “أطال الله في أنفاسهم”…
لم ينجح الفخفاخ على امتداد فترة حكمه سوى في ترك أسوأ الانطباعات. فالرجل لم تكفه شبهات تضارب المصالح وسياساته المعلنة في تصفية الحسابات فخلّف وراءه فتنة أخرى كنّا في غنى عنها… وحتى لا تحجب هذه اللعنة نسائم الحبّ التي رافقت العقربي وهو يترجّل الى مثواه الأخير لا حرج في فتح القوس بصوت عال للتأكيد على أحقيّته بهذا التكريم سواء ناله أم لا… حمادي العقربي يستحق أكثر من ملعب رادس لأنّ جمهوره يسكن كلّ القلوب وكلّ الملاعب… ولكن للأسف الزمن تغيّر… والملعب صار رمزا للهويّة وبين العقربي ورادس مسافة ورحلة زمن كبيرة تختزل كلّ التغييرات التي حصلت في كرتنا والتي جعلتنا نعود سنوات كثيرة الى الخلف…
 
نُشر بالنسخة الالكترونية من أسبوعية الشارع المغاربي الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 أوت 2020


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING