الشارع المغاربي – يوسف الصديق على خطى المعتزلة : نعم للحوار والجدل لا للترهيب والتكفير ...بقلم لطفي النجار

يوسف الصديق على خطى المعتزلة : نعم للحوار والجدل لا للترهيب والتكفير …بقلم لطفي النجار

31 يناير، 2018

الشارع المغاربي-بقلم لطفي نجار خلق القرآن، اللّوح المحفوظ، الكتاب والمصحف، الأصول الأرامية والبابلية للنصّ المؤسّس، مراجعة سياسة وإيديولوجية صناعة المصحف، إخراج «المصحف العثماني » من نطاق اللاهوت إلى أفق العقل والبحث التاريخي…هل نحن بصدد منعرج حضاري أو لنقل فتح لأبواب موصدة أغلقت منذ قرون تجرّأ على نفض طبقات الغبار عنها الفيلسوف التونسي يوسف الصديق حتى صارت في عداد «القضايا الحُرم » التي لا يجرأ سلطان العقل حتى على الاقتراب من حدودها.

عندما يتحدث يوسف الصديق عن أنّ «كلمات الله ليست ألفاظا » وأنّ «ما بين أيدينا ليس القرآن بل هو الكتاب وهو مصحف عثمان » بصفته «عمل سياسي بشري » وعن ضرورات «العودة للمنابع الآرامية للقرآن » وأنّ «كلام الله في اللّوح المحفوظ »، فإنّه يعيد إلى ساحة الجدل المعرفي قضايا غيّبها الخطاب الديني الفقهي الرسمي، ويعيد إلى الذاكرة في الآن ذاته ذلك الصراع المرير بين أهل العقل وأهل النقل الذي صبغ بالدم والقتل والذبح والتنكيل بكلّ من تجرّأ من أهل الرأي والفكر على اختراق الحدود التي رسمها الفقهاء وحرّاس الإيمان على امتداد تاريخنا الإسلامي.
ما قاله الصديق قد ذكره السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن » من أنّ جبريل إنّما نزل بالمعاني وتم التعبير عنها بلغة العرب وهذا بظاهر النص القرآني: » نزل به الروح الأمين على قلبك » )قرآن كريم(. وما بين أيدينا اليوم هو » كتاب اسمه المصحف العثماني وليس الخطاب القرآني الجدالي والسجالي » ثابت في التاريخ إذ كانت آيات من القرآن مسطورة على الرقاع والجلود وأخرى محفوظة في ذاكرة بعض الصحابة.

إنّ المصحف الذي نتعاطى معه اليوم مخالف في حجم سوره وآياته مع القرآن الشفوي التاريخي الذي كانت فيه سورة الأحزاب تضاهي سورة البقرة ( السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن »)، وهو مصحف قد جمعه عثمان من بين سبعة وقع إحراقها وكانت سببا من أسباب تمرّد الأمصار وأبناء الصحابة عليه بل كانت سببا مباشرا في قتله، حتى أنّ محمد ابن أبي بكر الصديق (أحد قاتليه) قد اتهمه بتغيير القرآن حسب ما ذكره الطبري في تاريخه. هذا علاوة على أنّ العديد من آيات القرآن لم يجدوا لها أثرا، فعبد الله ابن عمر يقول في “الإتقان” ” لا يقول أحدكم قد جمعت القرآن كلّه، قال وما يدريك كلّه، قال لقد سقط منه قرآن كثير.. .”
لم نقرأ متون التاريخ بعد ومازالت على بعض القلوب أقفال، وما طرحه الصديق من ضرورات ما أسماه بـ “مراجعة سياسة وإيديولوجية صناعة المصحف ” قد تعرض لها النظّام مفكر المعتزلة وغيره من المؤرخين والكتّاب كابن المقفّع والجاحظ والسيوطي والعسقلاني والطبري الذين لاقى أغلبهم صنوفا من التعذيب وصل حدّ القتل والإعدام.
في ترهيب العقل
إنّ التدبّر اليوم في مسائل من قبيل تاريخانية النص المؤسّس والنّظر إلى قضيّة خلق القرآن كفتحة تجرّأ عليها المعتزلة سرعان ما أجهضت قتلا وتشريدا  نكّل الخليفة (المتوكّل وقتل في ثلاثة أيّام الألاف من أتباع مدرسة المعتزلة) كانت في ساعتها غلبة للنزعة العقلية التي اعتمدها أصحاب هذه المدرسة ( الزمخشري والجاحظ والقاضي عبد الجبّار صاحب كتاب «شرح الأصول الخمسة »( الذين رأوا بتنزيه الذات الإلهية ضد كل صور التجسيم والتشبيه ) أهل النقل وخاصة الحنابلة ، وبالعدل وبالمنزلة بين المنزلتين. ترهيب العقل وقتل الخصوم كان السلاح المرفوع ضد كل الحركات الثورية والعقلية في تاريخ الإسلام التي تجرّأت على إعمال العقل وانتصرت للرأي كسبيل للاجتهاد وتفكيك منظومات أرثوذكسية فقهية كانت معطّلا لنهوض الأمّة بل سببا مباشرا لانحطاطها.

ولنا أن نذكر إضافة للمعتزلة، إخوان الصفا والقرامطة والحركة البابكية التي يذكرها المؤرخ أبو منصور البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق والفرقة الناجية منها » مؤكدا أنّها قد لاقت انتشارا كبيرا عند المهمّشين والفقراء ليس لأسباب دينية أو سياسية بل لأسباب اجتماعية وفكرية نظرا لدفاعها عن قيم التسامح و احترام المخالف.
تُعدّ القضايا التي دفع بها يوسف الصدّيق لمعة «ثورية » جديدة تضاء اليوم على أرض تونس بعد إضاءات أشعلت على امتداد تاريخنا الإسلامي سرعان ما أطفأت بعنف شديد، نتمنّى أن يكون مصيرها هذه المرّة الحوار والحجّة والجدل الهادىء بعيدا عن الترهيب والتكفير والإخراج من الملّة والرمي بالزندقة الذي لم يضف لنا سوى انحطاطا على انحطاط بدأت معالمه تتشكّل منذ نهاية القرن الرابع الهجري عندما تمكّن الحنابلة وأهل الحديث من الاستفراد والفوز بالوكالة الحصرية للخطاب باسم الله وتأسيس نصوص بشرية أصبحت مع الزمن هي لبّ الدين وجوهر القول الإلهي.

إنّ وأد العقل وهزيمة أهل الرأي كانت مطيّة للقمع والقتل والتنكيل ولنا في تاريخنا أمثالا لا تعد :قتل الطبري، ضرب الحلاج بالسياط ثم قطعت يداه ورجلاه وضربت عنقه وأحرقت جثّته، حبس المعري، سفك دم ابن حيان، نفي ابن المنمّر، حُرقت كتب الغزالي وابن رشد والاصفهاني، كفّر الفارابي والرازي وابن سينا والكندي، وقطعت أطراف ابن المقفّع ثم شويت أمامه ليأكل منها….لم يأت انحطاطنا وعنفنا «الثاوي » في تاريخنا من فراغ بل جاء من طغيان التقليد وسيادة الانغلاق وإلجام العقول…فالأمم تأفل وتسقط حين يحجب الرأي ويحارب العقل والفكر.

عن أسبوعية الشارع المغاربي العدد 109 صادر بتاريخ 30 جانفي 2018.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING