الشارع المغاربي : مشهد رشق الحجارة والبيض وما تضمّنه من اعتداءات وحصار لاجتماع سياسي حزبي لعبير موسي وأنصارها بسيدي بوزيد من طرف مجموعة من الأفراد يدقّ ناقوس خطر عودة العنف السياسي إلى الفضاء العام كشكل من الترهيب للخصم السياسي عبر إلحاق الأذى به، ومن ثمّة إلحاق الضرر الكبير بالديمقراطية وتحويل المرور “الصعب” إليها، إلى طريق محفوف بمخاطر العنف والفوضى.
العنف خطر على الديمقراطية، وعلامة تشوّه بنيوي في كلّ تجربة تدّعي انتقالا سلسا ومدنيا نحو دولة القانون والحلم الديمقراطي. وأشدّ أنواع العنف فتكا وتهديدا لكلّ ديمقراطية وليدة هو العنف السياسي الذي تكون أهدافه أو دوافعه ومراميه سياسية، ويتمظهر مثلما عرّفه بول ويلكنسون عبر “استخدام القوّة أو التهديد باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالآخرين لتحقيق أهداف سياسية”، ويشمل كافّة أعمال الشغب والأذى والتدمير.
هذا في مستوى التأطير النظري المطلوب، أمّا في واقعة سيدي بوزيد فإنّ تبرير العنف كما رأيناه وقرأناه على بعض الصفحات والمواقع الالكترونية و محاولة شرعنته عبر إلباسه ثوب “الثورية الطهورية” مردود على أصحابه بسبب تهافت الحجّة من جهة، وبسبب تطابق “التعريف النظري” للعنف السياسي كمفهوم مع الوقائع مثلما حدثت، أي مع “أهداف ودوافع” المعتدين الذين “استخدموا العنف” (رشق بالحجارة) و”هدّدوا باستخدامه” ( محاصرة الاجتماع وتهديد المغادرين بعد فضّ الحصار بالعنف) وذلك من أجل تحقيق هدف سياسي هو الانتصار على الخصم والحسم معه في الشارع قبل الوصول إلى صندوق الاقتراع.
العنف السياسي…الشبح والكابوس
يمكن القول أوّلا انّ العنف السياسي ليس خصّيصة للانتقال التونسي من الطغيان الفرادني إلى الديمقراطية بل يكاد يكون ظاهرة شبه ملازمة لكلّ عبور مجتمعي من حالة الانغلاق والاستبداد إلى حالة الانفتاح الديمقراطي. نعلم أنّ المخاض صعب وأنّ الطريق صعب لبلوغ التعايش المدني السّلمي بين مكوّنات المجتمع “المتنافرة” فكريا وسياسيا وإيديولوجيا، كما نعلم في الآن ذاته أنّ أسلم السبل إلى تحقيق المطلب الديمقراطي هو محاصرة مربّعات العنف السياسي الذي يبقى في النهاية ظاهرة تاريخية يمكن اقتلاعها أو على الأقل السيطرة عليها وطردها من دائرة السياسة والعمل العام.
العنف السياسي في تونس بعد انتفاضة 14 جانفي شبح ملازم ولصيق للفعل السياسي أو يكاد وكابوس سيبخّر أحلامنا الوردية الأولى لو تواصل واستمرّ معه التبرير الأرعن له كما قرأنا لبعض “عتاة الثورة” و”أتقيائها الأطهار”. لقد رأينا من مظاهر وتجلّيات العنف السياسي صنوفا توزّعت بالقسطاس على مجمل الأحزاب المدنية والديمقراطية وعلى المؤمنين بالتعايش المدني والحوار كأسلوب أوحد في التعاطي مع الخصم السياسي مهما كانت أهواؤه وميولاته السياسية أو الفكرية إذ هوجم الاتحاد العام التونسي للشغل في 4 ديسمبر 2012 بالعصي والسيوف من قبل رابطات حماية الثورة واعتدي على مقرّه المركزي وعلى مناضليه، كما اعتدي على اجتماعات حزبية في غار الدماء بجندوبة ( الحزب الجمهوري) وعلى ميّة الجريبي في رادس وفي القيروان، وعلى اجتماع شعبي لحركة نداء تونس بنزل بجزيرة جربة في 22 ديسمبر 2012 في “غزوة” شهيرة والقائمة طويلة ولا تحصى من سيل الاعتداءات والعنف الذي طال فاعلين سياسيين ومقرّات أحزاب واجتماعات، وتهديدات بالقتل والتكفير والتخوين امتدّت إلى المفكرين والمثقّفين والكتّاب والشعراء. ألم يهدّد الراحل أولاد أحمد بالقتل على المنابر ويخطّ على جدران بيت المفكّر محمّد الطالبي عبارات “داعشية” تكفيرية. ألم تحطّم اللّوحات التشكيلية والتجهيزات في حادثة “العبدلية” في جوان 2012 وانتهت حينها بأعمال شغب بحي التضامن والمرسى وحلق الوادي إلى حدّ الإعلان عن حظر التجوال في 8 ولايات رفع في 18 جوان من نفس السنة.
لقد بلغ العنف السياسي حينها، أي زمن حكم الترويكا ذروته مع تهديدات بعض قيادات النهضة بسحل المعارضين في الشوارع وترهيب المنتفضين والمعتصمين في باردو بالقول الصريح “إذا كنتم 50 ألف بوليس فنحن 100 ألف انتحاري”، وليصل في الأخير إلى مداه التراجيدي مع سحل لطفي نقض وقتله جهارا واغتيال بلعيد والبراهمي الذي كاد أن يعصف بالانتقال الديمقراطي ويرمي به في أتون الفوضى والاقتتال الداخلي.
اليوم يعود شبح العنف السياسي ليطلّ برأسه المخيف من سيدي بوزيد بعد أن تخيّلنا أننّا أزلنا أسبابه إثر محطة 2014 الانتخابية وانطلاق التعايش الفعلي بين كلّ الأطياف السياسية والإيديولوجية سواء كان يمينا قصوويا أو يسارا راديكاليا عبر “تميمة” التوافق السحرية. تخيّلنا أنّنا بصدد الدربة والتدرّب على روح الدستور ومعانيه، وما يرسي من حريات سياسية تقوّم السلوك الديمقراطي. للأسف استيقظنا على “الشبح” وهو بصدد التسلّل إلى فضائنا العام والعودة من خلال “شيطنة” الخصم السياسي، ومن ثمّة شرعنة “رجمه وقذفه بالحجارة كجولة أولى من العنف يمكن أن تنزلق إلى ما هو أشدّ وأخطر في قادم الأيّام والأسابيع، خاصّة لمّا يقترب الموعد الانتخابي ويشتد التنافس بين المتسابقين.
في فنون الغباء “الثورجي”
لا تكفي حسب تقديرنا بعض البيانات الحزبية المحبّرة التي أدانت الاعتداء على أنصار عبير موسي وحزبها خلال اجتماعهم في سيدي بوزيد، فالقضيّة تتجاوز مجرّد حادث اعتداء يكفي استنكاره والتنديد به في بيان حزبي مقتضب. كما لا تهمّ القضيّة أيضا مسألة شخصية رئيسة الحزب وآراءها المثيرة للجدل ومدى اتفاقنا أو اختلافنا مع ما تذهب إليه من قصووية وتطرّف وشعبوية في التعاطي مع الانتقال الديمقراطي ودستوره والجمهورية الثانية برمّتها. إنّ القضيّة (العنف السياسي العائد) في جوهرها وأساسها تهديد وتحدّ وخطر على الديمقراطية، ومسّ من الحريات السياسية وتشكيك في قدرتنا على التعايش الفعلي والحقيقي مع المختلف السياسي والفكري والإيديولوجي. لذلك وجب التنديد بالصوت العالي بهذا التمظهر المتجدّد من العنف السياسي والخروج على الملأ دون الاختفاء “المحسوب” خلف بيان صامت…القضيّة تستدعي تجنّدا مواطنيا وسياسيا وحزبيا يقف بالمرصاد لهكذا عنف مهما كان مأتاه ومهما كان المعتدى عليه حتى ولو كانت عبير موسي التي نعلم جميعا أنّها “تاكل غلّة الديمقراطية” و”تسب ملّتها”… الديمقرطية الحقيقية تسع الجميع أو لا تكون، شرطها الوحيد الإيمان بالحوار على قاعدة الاجتماع المدني دون لجوء إلى العنف كحلّ للخلاف والاختلاف.
هذا في الجانب الإيتيقي والمبدئي لمسألة العودة الخطرة لشبح العنف السياسي إلى ساحتنا، أمّا في زاوية التنافس السياسي بين الأحزاب فإنّ “الغباء الثورجي” بتنطّعه الأهوج أهدى إلى عبير موسي فرصة لعب دور الضحيّة الذي يمكن أن تستفيد منه لتزيدها قوّة وإصرارا وشعبية وتستفيد من تعاطف منتظر معها ومع حزبها، لتظهر في صورة “البطل” الذي يستدعي العنف للانتصار السياسي عليه بعد أن عجز الخصوم على تحقيق ذلك عبر إنجاز على الأرض ليراكموا الفشل والخيبات المتتالية.
مقرف إذن أن يبرّر العنف السياسي، وعجيب أن تكون الحجّة في ذلك من قبيل “ضرب مناوئي الثورة بالنعال” في زمن الاحتكام إلى الصندوق كفيصل وحيد بين الخصوم والمتنافسين، وغباء ما بعده غباء أن يصاب البعض بعمى الألوان فتختلط عليه الأمور ليجد نفسه في خندق واحد مع “جحافل الإقصاء والعنف والترهيب” المعلومين عند التونسيين… بالفعل صحيح أنّ “الغباء هو فعل الشيء مرّتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة” (انشتاين)…والنتائج إذا تمدّد العنف السياسي معلومة عندنا، فقد اكتوينا بها في المرّة الأولى سحلا واغتيالا وفشلا رسميا ذريعا !!
صدر بالعدد الأخير من “الشارع المغاربي”.