الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: يوماً بعد يوم، وخصوصا في الظرف الراهن تسعى المنظومة المالية والبنكية إلى مراجعة نماذج أعمالها حرصا على الاستجابة – في حدود الأطر التنظيمية النافذة -لتقديم خدمات نواتج تواكب احتياجات الحرفاء وتطلعاتهم وذلك في ظل عدة تحديات برزت للعيان، بشكل جدي في المدة الأخيرة تتمحور بالأساس حول إشكالات الإدماج المالي عبر منظومات تمويل ملائمة أهمها التمويل الصغير كبديل استراتيجي له ميزات كبرى على مستوى جودة الخدمة المالية وكلفتها.
ورغم التأثير الحاد لجائحة فيروس كورونا المستجد، فقد بينت المنظومة المالية عالميا ومحليا قدرتها بنسب متفاوتة على التأقلم إلى حد ما مع معطيات الركود الاقتصادي الذي يعصف بالنشاط الاقتصادي عبر مراجعات نجحت مبدئيا في وضعها حيز التنفيذ لفائدة الفئات الاجتماعية الهشة والمؤسسات الصغرى والمتوسطة من خلال إسداء خدمات وتطبيقات تعزيزاً لروابطها معهم سيما في العالم الافتراضي. ولكن أطر التمويل الصغير والمسارات المتعلقة بها سيما في مجال رقمنة الخدمات المالية التقليدية، رغم إيجابياتها الكثيرة، لا تزال أقل شأناً من تدارك التحولات التي يواجهها النظام البنكي والمالي.
التمويل الصغير منطلق لتغيير المسار التمويلي
في سياق البحث عن نماذج اقتصادية بديلة عن النماذج التقليدية للتنمية، حاولت دول ومنظمات دولية اعتماد تجارب فريدة غير تقليدية منها التمويل الصغير كأحد السبل الناجحة في مجال الاندماج او الشمول المالي والاقتصادي لأطياف واسعة من المجتمعات. وقد تعددت التجارب في هذا الميدان وازدهرت هذه الآلية للتمويل البديل منذ أربعة عقود على أقل تقدير. كما اتسع نطاق التمويل الصغير إلى الخدمات المالية والاجتماعية لصالح المستبعدين من النظام البنكي التقليدي والفئات من ذوي الدخل المنخفض بتمويل مشاريعهم عبر منحهم قروضا صغيرة للاندماج في الحياة الاقتصادية وتحسين ظروفهم المعيشية والاجتماعية.
وأبدت تونس أيضًا اهتمامًا بهذا النهج في التنمية. وظهرت العديد من المؤسسات، التي تعمل في مجال تمويل المشاريع الصغيرة التي يقبل عليها أشخاص من ذوي الدخل المنخفض.
وتقدم المؤسسات المختصة في التمويل الصغير قروضاً صغيرة مخصصة لباعثي المشاريع لبدء أعمال تجارية أو صناعية أو حرفيّة صغيرة والذين ليست لديهم بالضرورة إمكانات كافية ويحتاجون إلى المساعدة لإطلاق مشاريعهم.
وارتفع المبلغ المستحق للقروض الصغيرة الممنوحة من قبل مؤسسات التمويل الأصغر وجمعيات التمويل الصغير من 809.4 مليون دينار في موفى شهر ديسمبر 2017 الى 1305.2 مليون دينار نهاية 2019 وبالتالي سجلت معدل نمو سنوي نسبته 27%.
في جانب اخر، ارتفع مبلغ القروض الصغيرة التي تمنحها مؤسسات التمويل الصغير من جوان 2018 الى جوان 2019 بنسبة 29.5% مقابل 8.9% فقط لجمعيات التمويل الصغير وتمثل حوالي 79.6% من إجمالي القروض الممنوحة مقابل 76.7% في 2018.
وقد سجل مبلغ القروض الصغرى معدل نمو قدره 13.3% من 2639 مليون دينار إلى 2990 مليون دينار بين شهر جوان 2018 وجوان 2019. وبلغ معدل مبالغ القروض الصغيرة المخصصة للأنشطة المدرة للدخل وتحسين الحياة 3153 مليون دينار و1863 مليون دينار على التوالي في 30 نهاية جوان 2019.
في ذات السياق، تبرز المعطيات المالية لقطاع التمويل الصغير ارتفاع الإيرادات الصافية من 98.2 الى 196.7 مليون دينار للفترة 2017-2019 وذلك الى جانب ازدياد الأرباح من 4.8 الى 37.8 مليون دينار مما يعادل نسبة نمو سنوي في المعدل بـ 688%.
مزايا التمويل الصغير وإشكالات إنجاح مساره
يكاد الخبراء يجمعون على أنّ التمويل الصغير مخصص بشكل أساسي للأشخاص المستبعدين من النظام البنكي التقليدي، فهو يتيح للأشخاص الذين يعانون من أوضاع مالية صعبة الخروج من الحلقة المفرغة حيث يمنعهم نقص الأموال من العثور على مورد رزق أو بدء أعمال الصغيرة.
وبهذا المعنى، تتمثل إحدى المزايا الرئيسية للقروض الصغيرة في تمويل مشاريع الأشخاص الذين لن يتمكنوا من الحصول على التمويل اللازم من المؤسسات التقليدية.
إلاّ أنّ التمويل الصغير لا يخلو من بعض القيود وربما العيوب. ومن بين المآخذ التي يراها البعض، ارتفاع سعر الفائدة المطبق على المقترضين. إذ نظرًا إلى أنّ هذه القروض مخصصة للأشخاص المستبعدين من النظام البنكي التقليدي، فإن المُقرض يعوض عن ارتفاع مخاطر عدم السداد بزيادة كلفة القرض. وبالتالي، فإنّ إساءة استخدام التمويل الصغير يمكن أن تؤدي إلى زيادة مديونية الأشخاص الذين هم بالفعل في وضع محفوف بالمخاطر. أمّا المأخذ الثاني على التمويل الصغير فهو اقتصاره على مبالغ صغيرة ممّا يفرض أحيانا على المقترضين الذين يواجهون صعوبات مزيد الاقتراض لسدّ عجز ما أو ضخّ مبالغ إضافية في مشاريعهم.
17 بالمائة فقط من التونسيين يستعملون الخدمات المالية..
أبرز المنتدى السنوي الأول للاتصالات وتكنولوجیا المعلومات الذي نظمه اتحاد المصارف العربية في نسخته الأولى بتونس في مارس الفارط تحت عنوان «دور الاتصالات والحلول المالية الرقمية في تعزيز الشمول المالي» أن تكريس الاندماج المالي والشمول المالي شرط أساسي لدعم جهود التنمية. وتم التأكيد، في هذا الصدد، على ضرورة الإسراع بتكريس مقتضيات الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للاندماج المالي، لتمكين المستبعدين من القطاع المصرفي والمالي من الوصول إلى الخدمات المالية والانتفاع بمزاياها، والتي يمتد تنفيذها من 2018 إلى 2022.
ويبرز استبيان جرى في 2018 أن 9 % فقط من التونسيين الذين تبلغ أعمارهم 18 سنة فما فوق حرفاء نشطون أي يسجلون شهريا ما لا يقل عن 3 معاملات لدى المؤسسات المالية الرسمية وأن 17% من التونسيين يستعملون الخدمات المالية. وبذلك يفرض الشمول المالي نفسه كهدف ومحور اهتمام أساسي لوجود علاقة وثيقة بينه وبين الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي.
وتعتمد استراتيجية تطوير النفاذ للقطاع المالي التي تم وضعها بالتعاون مع وزارة المالية 6 محاور أساسية اهمها التمويل الرقمي والتأمين الصغير والتثقيف المالي والاقتصاد الاجتماعي والتضامني وإعادة تمويل مؤسسات التمويل الصغير والتقييم الاجتماعي والاقتصادي.
في جانب اخر، يعتبر التطور التكنولوجي الحاصل عاملا محوريا مكن من ثورة اتصالات وتطوير جد مهم للتقنيات المالية والمصرفية ما يدعم تحقيق الشمول المالي أو الاندماج المالي للمناطق النائية وللطبقات الهشة من خلال توفير خدمات مصرفية تتماشى مع احتياجاتهم بغرض محاربة الفقر والبطالة.
يذكر كذلك أن السلط التونسية ما انفكت تؤكد على اهمية التخلص من التداول نقدا حيث تعكف منذ مدة وزارة تكنولوجيا الاتصال والاقتصاد الرقمي على تكريس ثقافة استعمال الوسائل والقنوات الرقمية والعمل على الاندماج المالي سعيا للتقليص من التداول نقدا، واقترحت في ذات السياق إحداث برنامج وطني للتثقيف لتغيير سلوك المواطنين عبر مرافقتهم نحو مزيد الاندماج المالي.