الشارع المغاربي: منذ ايام نشر احد « اصدقاء» رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي اعلاما وُجه اليه من تطبيقة «تلغرام ماسنجر» بخصوص التحاق الغنوشي بمستخدمي هذه التطبيقة الخاصة بالارساليات والمكالمات الهاتفية التي تتم عبر تقنية التشفير الخاصة بالمحادثات السرية وتعتمد «مفتاح التأكيد» لمنع اعتراض واختراق الرسائل. الرجل الذي جاء منشوره في شكل مزحة حول مسار ما بعد 25 جويلية جعلت الغنوشي احدى أقوى الشخصيات السياسية النافذة في تونس بعد 2011 يهجر «واتساب» لحماية مكالماته، لم يكن يعلم ان منشوره استعمل بشكل واسع للتدليل على دخول النهضة وشيخها مرحلة ما يشبه «السرية» والبحث عن واجهة تختفي وراءها لتلعب دور المعارضة من وراء الستار وهي تترقب بتوجس ما عسى ان يفعل رئيس الجمهورية قيس سعيد في الايام القادمة.
تكشف الاحداث المنتظرة خلال ما تبقى من شهر نوفمبر من مسيرات وتحركات واحتجاجات ان البلاد على ابواب ترحيل الازمة السياسية الى الشارع في محاولة لحسمها عبر الضغط الميداني المكثف. وهو سيناريو كانت راهنت عليه النهضة منذ يوم اعلان رئيس الجمهورية قيس سعيد عن تفعيل الفصل 80 الذي دشن مرحلة «التدابير الاستثنائية» المسماة عند الحركة بالانقلاب وفشلت في «صده» عبر الشارع نتيجة عدم تجاوب قواعدها مع دعوة رئيسها راشد الغنوشي للنزول والاعتصام امام مقر البرلمان.
الملاحظ اليوم هو غياب ما تبقى من قيادات الصف الاول للنهضة من واجهة دعاة «حراك الشارع» الذي سينطلق بمسيرة ستنتظم يوم 14 نوفمبر بدعوة من «المبادرة الديمقراطية» او حراك «مواطنون ضد الانقلاب». وتقول مصادر قريبة منها لـ«الشارع المغاربي» انها تتحرك بتنسيق مع قيادة النهضة التي ظلت وفية ككل الازمات لسياسة «الانحناء للعاصفة» والتعويل على «الغواصات» للعب دور «الكومبارس» في معركتها على السلطة مع رئيس الجمهورية.
من وراء الستار
لا يكاد رئيس الجمهورية قيس سعيد يُفوت الفرصة دون ان يُلمح بشكل واضح الى «دور خفي» تلعبه النهضة لتأزيم الوضع . هذه الاتهامات «القارة» في خطابات الرئيس بخصوص النهضة ومسؤوليتها في تحريك خيوط اللعبة في اتجاه التأزيم والتعفين شمل الخارج عبر «لوبيات الضغط» والداخل عبر من اسماهم ذات خطاب بـ»الازلام» المتواجدين في مفاصل الدولة وفي «قصور العدالة» و»مؤامرات النهضة» لارباك المسار شملت وفق تلميحات سعيد القطاع الخاص عبر التدخل وفرض زيادات في الاسعار مثلا.
وخلال لقائه يوم امس الاثنين 8 نوفمبر 2021 برئيسة الحكومة نجلاء بودن ووزير الداخلية توفيق شرف الدين المح قيس سعيد الى قرب «المحاسبة» التي ستنطلق بعد اصلاح القضاء بتشريك «القضاة الشرفاء» وذلك في سياق حديثه عن ملفين : الاول يتعلق بأزمة النفايات في ولاية صفاقس والثاني في رده على اتهامه بالوقوف وراء منع انعقاد الندوة الصحفية لمبادرة حراك «مواطنون ضد الانقلاب».
التلميح بقرب دخول مرحلة المحاسبة وربط ذلك بإصلاح القضاء جاء مع تحركات مرتقبة سيعرفها الشارع : الاولى في تطاوين بعودة اعتصام الكامور يوم 20 نوفمبر الجاري والثانية المسيرة امام مقر البرلمان يوم 14 نوفمبر الجاري وتعميم ازمة النفايات التي قال سعيد انها ستعمم وستضرب قريبا ولاية تونس. الرابط بين هذه التحركات المرتقبة هي النهضة في الكامور اين لقيادات منها ارتباطات بعدد من اعضاء التنسيقية التي تهدد بغلق المنافذ امام المؤسسات البترولية المنتصبة بالمنطقة. أما مسيرة 14 نوفمبر فعمليات الحشد لها انطلقت منذ مدة عبر صفحات محسوبة على النهضة. ثالثا واخرا ازمة النفايات المرتقبة في ولاية تونس اين تخضع اهم بلدياتها لاشراف النهضة من خلال النائبة السابقة عنها بالمجلس التأسيسي سعاد عبد الرحيم.
بالنسبة للبعض قد يكون ما طُرح انفا من باب التهويل وحتى الاتهامات الزائفة في حق حزب يعيش ازمة داخلية حادة وفقد منذ انطلاق مسار 25 جويلية اهم عنصر كان يمكنه من فرض استقرار داخلي نسبي ويتمثل في الامساك بمقاليد الحكم . لكن مهما كانت درجات المسؤولية او حقيقة ما يُلمح اليه قيس سعيد من اتهامات غير مباشرة للنهضة بما يسميه تعفين الوضع وخلق الازمات ، فان انخراط النهضة في استراتيجية «المعارضة والضغط من وراء الستار» هي تكتيكها الجديد لإعادة التموقع ومحاولة استرداد انفاسها وهي في طور ازمة تهدد وجودها.
ويقول مصدر من النهضة لـ«الشارع المغاربي» ان رئيس الحركة راشد الغنوشي اسس منذ فترة هيئة مستشارين يلتقيهم بشكل دوري وتضم عددا من القيادات منهم سامي الطريفي وبلقاسم حسن وكمال الصيد ورضا ادريس واحمد قعلول ورياض الشعيبي مبرزا ان هذه الهيئة تحولت الى «هيكل ارتكاز» في بلورة سياسات الحركة» مقرا في سياق متصل بوجود « اشكال» وصفه بالجدي قال انه يتمثل في تواصل تصدر بعض القيادات المشهد القيادي ذاكرا بشكل خاص الثنائي نور الدين البحيري وعبد الكريم الهاروني.
ولا ينفي المصدر ان الغنوشي الذي قال انه يتواجد بشكل يومي في مقر الحركة وعلى اتصال بمختلف مكاتب الحزب على مستوى جهوي ومحلي يُدرك «صعوبة قيادة النهضة معارضة رئيس الجمهورية» مشيرا الى وجود مساع واتصالات حثيثة وتعهدات بتنازلات تشمل «قبعتي الرئاسة» في اشارة الى رئاسة النهضة والبرلمان في سبيل تأسيس «جبهة تضم القوى الوطنية» «تتفق على 3 اولويات كبرى اقتصادية وسياسية واجتماعية» بما يفضي وفق قوله الى اسقاط الانقلاب والحيلولة دون انهيار الدولة.
ويزعم المصدر ان للغنوشي «لقاءات متواصلة مع مختلف السفراء تماما مثلما كان الامر قبل 25 جويلية» وأن «الحركة فضلت عدم الاعلان عنها عبر مختلف منصاتها» مبينا ان «الغنوشي يريد اليوم المساهمة في عملية انقاذ شاملة» وانه «عبر لمختلف الاطراف الفاعلة أن الأهم بالنسبة اليه وللحركة هو الدفاع عن مسار الانتقال الديمقراطي وبانه ذكّر بتنازل النهضة عن الحكم طوعا في صائفة 2013 بعد انخراطها في حوار وطني بقيادة 4 منظمات وطنية.
فك العزلة
تراهن النهضة على نفس الاستراتيجية التي قادت رئيس الجمهورية قيس سعيد الى 25 جويلية وهي مراكمة الاخطاء وتوظيفها. سياسة ستمكنها خاصة من دحض سردية ان ما حصل هو في النهاية «تصحيح مسار». وفي هذا لا يكف سعيد عن تقديم الهدايا لخصومه عبر خسارة جل مسانديه بسبب تمسكه باحتكار مسار ما بعد 25 جويلية وتفويته فرصة تشكيل جبهة وطنية داعمة له كانت ستفضي ضرورة الى عزل النهضة سياسيا.
وبينت مبادرة «مواطنون ضد الانقلاب» فشلا جديدا للنهضة في اختراق الضفة المقابلة لمعارضيه قيس سعيد من الذين اصطفوا ضد مسار 25 جويلية وايضا ضد ما قبله ورفضوا الانخراط في اية مبادرة يتم فيها التنسيق مع النهضة سواء كانت في الواجهة او من وراء الستار على غرار حزب التيار وعدد من احزاب اليسار ومما يسمى بالعائلة التقديمة الوسطية.
وبالعودة الى مبادرة «مواطنون ضد الانقلاب»، تشير المعطيات المتوفرة الى ان نواتها الصلبة تضم الحبيب بوعجيلة وجوهر بن مبارك ومحمد الغيلوفي والصغير الشامخي ولمين بوعزيز وزهير اسماعيل. وتحولت وتوسعت دائرتها لتشمل عددا من قيادات من قلب تونس ومن وزراء في الترويكا وناشطين سابقين في حزب المؤتمر من اجل الجمهورية. ورغم محاولات النفي فان المبادرة واجهة «مواطنية سلمية» رافضة لـ”الانقلاب” وتختفي وراءها اجندة نهضوية تدفع لإعادة البرلمان بمهام محددة لمدة 6 اشهر والمرور بعدها لتنظيم انتخابات سابقة لأوانها بما يقطع الطريق امام المشروع السياسي لقيس سعيد .
والمعلوم ان النهضة وظفت بشكل كبير عدة «واجهات» على مدار العشرية الاخيرة لصناعة مقبولية لها خاصة في الخارج. اولا «واجهة التحالف بين الاسلاميين والعلمانيين» في فترة حكم الترويكا من خلال التحالف مع حزبي التكتل من اجل العمل والحريات والمؤتمر من اجل الجمهورية ثم «واجهة التوافق ومسار الاسلام الديمقراطي» عبر اقتسام الحكم مع نداء تونس ثم «واجهة التشبيب وتجديد القيادة» عبر التحالف مع يوسف الشاهد اثر الانقلاب على الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي واليوم البحث عن واجهة «مواطنية» لضرب ما يسميه سعيد بالمشروعية الشعبية لمسار 25 جويلية ولفك عزلتها بعد ان لفظتها كل الاحزاب تقريبا.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 9 نوفمبر 2021