الشارع المغاربي: لا نغالي في شيء إذا قلنا إن تونس تسير اليوم بلا عقل. والمقصود هنا هو بالطبع الدولة وتحديدا رأسها باعتباره الحاكم الفردي المطلق، المستَوْلي على كلّ السّلطات/الوظائف، وصاحب كل الأوامر والقرارات دون أن يسائله أو يحاسبه أحد. والعقل يعني، في معناه البسيطّ التّفكّر والتدبّر المبني على تحليل الأشياء والظّواهر وفهم العلاقات التي تربط بينها وتحديد ما هو أساسي فيها وما هو ثانوي، ما ينبغي حسمه أو حلّه مباشرة وما يمكن تأجيله لزمن لاحق. وهذا الأمر البسيط الذي تنطبق عليه صفة “العقلاني” للتّمييز بينه وبين ما هو غير عقلاني، أي لا منطق فيه عند مقارعته بمقتضيات الواقع، مفْتَقد اليوم في تونس. وهو ما حدا بنا إلى القول إنّ بلادنا تسير اليوم بلا عقل أي أنّ رأسها المنفرد بسلطة القرار بلا عقل يفكّر ويتدبّر. وبطبيعة الحال فإنّ غياب العقل يعني في نظرنا سيادة اللاعقلانية وهي من أهمّ سمات الشعبويّة اليمينيّة، المتطرّفة، الفاشستية. واللاعقلانية تعني فيما تعني “الجنون” بدلالته السلبية، الخطيرة. وهو غير “الجنون” في دلالته الإيجابيّة.
بين “جنون” العبقريّة و”جنون” الردّة
إنّ “الجنون” في مدلوله الفلسفي، له أحيانا دلالة إيجابية، فهو يعني، في هذه الحالة، تجاوز المستوى الذهني السّائد في لحظة من لحظات تطوّر هذا المجتمع أو ذاك من المجتمعات البشرية، ممّا يخلق الانطباع، لدى جمهور النّاس الذين ترسّخت في أذهانهم أفكار وعادات وتقاليد قديمة إلى درجة أنّهم حسبوها أزليّة، مطلقة، أنّ هذا التجاوز الخارج عن المعتاد، يمثّل “جنونا” وبالتّالي فإنّ صاحبه “مجنون“. وهذا “الجنون” بالذات هو “جنون العبقريّة” الذي يميّز العباقرة، من علماء وفلاسفة وشعراء وأنبياء الذين عرفتهم البشرية والذين كان جميعهم يُتّهم في البداية بالـ“جنون” لأنّهم طلائع عصرهم، لأنّ لهم القدرة على الاستشراف وعلى فهم مقتضيات التطوّر الجديدة وعلى الإبداع بما لا يقدر عليه غيرهم من أبناء/بنات عصرهم “العاديّين“، الواقعين تحت هيمنة الفكر السّائد، وهو ما جعل أفكار أولئك العباقرة ومنجزاتهم محرّكا للتقدّم، فأنصفهم التاريخ ومنحهم مرتبة الخلود. وهؤلاء العباقرة، خلافا للصنف الآخر من المجانين، تجمعهم صفة محمودة وهي من ناحية السّير ضدّ التيار لقناعتهم بصحّة ما جاؤوا به وتحمّل المتاعب بما في ذلك التضحية بحياتهم إن اقتضى الأمر، ومن ناحية ثانية التواضع واحترام ذكاء الآخرين والإيمان بأنّهم قادرون على الخلق والإبداع كلّما توفّرت لهم ظروف ذلك.
لكنّنا نحن هنا بصدد الحديث عن “الجنون” بمعناه السّلبي. وهذا الجنون كما أسلفنا هو الذي يقود الدولة والمجتمع في بلادنا اليوم. ومن خصائص هذا الجنون الذي عرفته وتعرفه مجتمعات أخرى غير مجتمعنا، الاحتكام الكامل لنزعة غارقة في النرجسيّة، مغامريّة، انفعالية، متشنّجة، متعالية، “ميسيانيّة” أو “مهدويّة” (المهدي المنتظر)، طُهوريّة، تدّعي تحقيق المعجزات، عنيفة، عدوانية، تآمرية، لا تعير أهمية لمعطيات الواقع ولا لاتجاهات تطوّره بل تنظر إليه بشكل متكلّس، تنتقي منه ما تريد، وتتجاهل خاصة ما يدينها من معطياته ووقائعه، سابحة في “العلوّ الشاهق“، تبسيطيّة، تتهرّب من مواجهة تعقيدات الواقع، غير مسؤولة، تدعي في العلم معرفة حتى وإن غابت عنها جلّ الأشياء، لا تقبل التناقض أو الخلاف ولا ترى فيه إلّا تآمرا فتضرب بعصاها كل منتقد أو معارض لا يؤمن بـ“رسالة المنقذ المتألّه“، تسبح في الماضي لطمس عجز أساسي/جوهري عن معالجة قضايا الحاضر والمستقبل، استعراضية، استفزازية، نفعيّة، لا يهمّها أن تقول اليوم عكس ما قالته بالأمس، انتقائيّة، محافظة، تعادي التقدّم، والتطّور لأنّه يعني التغيير، بل لأنّه قائم على النسبية وعلى حقيقة أن كل شيء انتقالي، إلى زوال ، ليأخذ مكانه الجديد، لا حجّة لها، كلّما أعوزتها الحجّة، وهي تعوزها دائما، غير التّخوين والإقصاء والتّقسيم والتّهييج وإثارة الغرائز البدائيّة، بما فيها الغرائز الوحشيّة، العنصريّة، المترسّبة في النفوس، بما يوسّع المساحة بين طرائق التفكير وإمكانات الفعل. وهذه العناصر كلّها رغم أنّها تبدو متناقضة ومتنافرة فإنها تمثّل في الواقع عناصر لأيديولوجية واحدة، يربط بينها خيط واحد وهو الدّيماغوجيا، أي استعمال كلّ الطّرق والأساليب للتأثير في قطاعات من “الجمهور“، القطاعات التي تجعلها ظروفها في لحظة من اللحظات التي يغيب فيها الحلّ العقلاني، الواقعي، الثوري، التقدّمي، لا عقلانيّة، تقبل، بسهولة، خطابا ديماغوجيا، “ميسانيا“، “مهدويّا“، كاذبا.
جنون السّياسة…
يدّعي “الحاكم بأمره“، “المتأله” أنّه جاء لـ“الإنقاذ“و“تصحيح مسار الثورة” بينما هو يقبض “روح الثورة” ليكون ذروة الثورة المضادة التي بدأت مع من سبقوه وحالت الجماهير دون تحقيق أهدافهم… ينقلب الرّجل ويدّعي أنه حقّق “معجزة“، بل يخطّط لانقلاب، منذ أن حلّ بالقصر، وينفّذه في اللحظة المناسبة معتمدا على الأجهزة الصلبة، ويروّج أنه قرّر الأمر بمفرده بينه وبين نفسه بعد أن لاحظ الخراب بأحد المستشفيات بالجنوب الغربي، مع العلم أن ذلك المستشفى خارب حتى اليوم،ولم يتغيّر فيه شيء، يكتب دستورا ويسنّ قوانين ويصدر أوامر بنفسه ولنفسه ويرسي الحكم الفردي المطلق الذي يكون فيه هو المشرّع الأول والمنفّذ والقاضي والمؤسّس و“المرشد الرّوحي” ويدّعي أنّ هذا الحكم يمثّل “الديمقراطيّة الحقيقيّة“، “المباشرة“، التي “أبدعها” لا لتونس فحسب وإنّما للبشريّة جمعاء…يتكلّم باسم إرادة الشعب” وهو لا يستشيره في شيء ولا يُعلمه بشيء ولا يولي مقاطعة 95 بالمائة منه لاستشارته و70 في المائة لاستفتائه و90 بالمائة لانتخاب برلمانه الصوري، منزوع الصلاحيّات، ويزعم أنّه يمثّل “إرادة الشّعب” ويعرف ما يريده الشعب حتى دون استشارته… وهذا السلوك مع الشعب هو نفسه الذي يسلكه مع مؤيّديه من انتهازيين وطمّاعين ومتسلّقين وآكلين على كل الموائد إضافة إلى المغلّطين من أصحاب النّوايا الطيّبة، دعاة عدم الحكم على الرجل قبل الوقوف على ما سيفعله (لعلّ وعسى…)، لا يستشيرهم في شيء ويكذّبهم إذا ادّعى أحدهم أنه استشاره ولا يطلب منهم إلا التأييد الذليل، غير المشروط، لأنه لا حاجة له بـ“نصائحهم“. ينشر الخوف والرّعب في النّفوس ويدّعي أنه ينشر الطمأنينة، يقمع حرية التعبير ويصدر مرسوما غير مسبوق (المرسوم 54) لتكميم الأفواه ويعيد إلى واجهة الإعلام العمومي رموز الدعاية “النوفمبرية” ويُقصي منه الأصوات الحرّة، المستقلّة، وهو يزعم أنّ “الأولويّة لحريّة التّفكير وليس لحريّة التّعبير” كما لو أنّ من يفكّر ليس في حاجة إلى التّعبير أوّلا وأخيرا عن أفكاره… يعادي حريّة التنظم بدعوى أنّ “الأحزاب انتهى زمنها“… ويُرهب الحقوقيّين والقضاة وغيرهم محذّرا من أن كل من يبرّئ ضحاياه “المتآمرين على أمن الدولة” هو “شريكهم في الجريمة…”. يتهجّم على اتّحاد الشغل ويعتبر دفاعه عن منظوريه المقهورين، المجوّعين، المدمّرين بضعف الأجور وغلاء الأسعار ومشقّة ظروف العمل، عملا إجراميا ضد الدولة…وبالمقابل فهو لا يفوّت فرصة لامتداح اتّحاد الأعراف ومجمع البنوك وشركات التأمين وطمأنتهم على مصالحهم…
يُكْثِرُ من الحديث عن الحقوق ويرفض المساواة بين النساء والرجال، بدعوى أن “العدل” أولى وأهمّ من “المساواة” كما لو أنّ العدل ممكن خارج المساواة…يعلن العداء لـ“حركة النهضة” وهو لا يختلف عنها أيديولوجيا إن لم يكن أكثر تطرّفا منها وأقرب إلى حزب التحرير وأنصار “المرشد الأعلى…”…يُقسّم التونسيين إلى “خونة“، وهم الأغلبية” وإلى “وطنيّين“، وهم“الأقلّيّة المصطفاة“… “شعب “الحاكم بأمره” المختار“… ويزايد عليه وزيرا داخليته السابق والحالي، فيصرّح الأول “كلّهم خونة سيّدي الرّئيس” قاصدا الإعلاميين والنّقابيين وأحزاب المعارضة ورجال الأعمال وغيرهم، ويصرّح الثاني “كلّهم، دون استثناء، لا أخلاق لهم“، قاصدا معارضي الانقلاب…في كلّ مرّة يُعْطِي “الحاكم بأمره” الإشارة الأولى فيتبعه “سقط متاع الحشود الفاشستيّة” صارخين، “مُهَسْتَرين“: “إلى الأمام…أضرب يا رئيس…نحن معاك…”… فيعلّقون في أعمدة الكهرباء “القائمة الأولى للخونة“…ويدوسون بأرجلهم دستور 2014 أمام المسرح البلدي وهو مايزال وقتها، رسميّا، دستور البلاد المعمّد بدماء الشهداء بقطع النظر عن هَنَاتِه ونقائصه، ويشنّون، في الشبكة الاجتماعية خاصة، حملات التّشهير والسب والشتم والتحريض الممنهجة والمكلفة مادّيا بكلّ تأكيد والتي تبلغ مستوى أخلاقيا منحطّا غير مسبوق ومستوى سياسيّا خطيرا لا تضاهيه سوى حملات التّكفير التي كانت تُشنّ زمن حكم النهضة الأوّل (2011-2013) سواء من أتباع هذه الحركة أو من أتباع تنظيم “أنصار الشريعة” السّلفي المتطرّف… وهو إذْ لا يقبل بـ“الأجسام الوسيطة” التي تُعَدُّ من أسس الديمقراطية ويعمل على إلغائها بدعوى أنْ “لا فائدة منها للشعب“، فإنّه يكثر من الحديث عن الدولة… وبما أنّ الرّجل استولى على كل “وظائفها” فقد أصبح هو الدولة…فمن يعارضه ويعمل على إزاحته فهو “يتآمر على أمن الدولة“… وكثرة الحديث هذا عن الدولة سالبة الحقوق الفردية والجماعية يثير في الذاكرة بعض “كلام” ورد في كتاب “مذهب الفاشية” (1930) لصاحبه الإيطالي، سيّئ الصّيت، “بينتو موسيليني“، الذي تحتفظ رئيسة الحكومة الإيطالية الحالية، “الغيورة جدّا” هذه الأيّام، على تونس “الشعبويّة“، بصورته في مكتبها “تيمّنا بـبركاته“. قال موسيليني: “نرفض ما في الديمقراطية من افتراء سخيف يقول بالمساواة السياسية… إنّ المفهوم الفاشي للدولة(…) مناهض للفردانية فكل شيء يوجد ضمن الدولة ولا يوجد أي نشاط خارجها فلا المجموعات (أحزاب، جمعيات، نقابات، طبقات…) ولا الأفراد يمكن لهم الوجود خارج الدّولة…”
جنون الاقتصاد والاجتماع…
يُمْعن في تدمير الاقتصاد وفي تفكيك منظومات الإنتاج… والبلاد تعيش أزمة ماليّة حادّة…تغْرق في المديونيّة وفي التبعية التجارية…تتهاوى عُمْلَتُهَا الوطنيّة… يضرب الجفاف معظم المناطق ويشحّ الماء الصّالح للشراب…يرتفع التضخّم ليتجاوز الرقمين…تلتهب الأسعار…تُفْتقد عدة مواد أساسية…يعمّ الخراب في قطاعات الصحة والتعليم والنّقل…يتفاقم تعفّن المحيط…تصبح بعض المناطق مزابل…ترتفع البطالة لتتجاوز المليون شخصا على الأقل…ويضرب الفقر أكثر من ثلث السكّان…وتزداد جحافل الفارّين من “نعيم” الشعبوية ليلتهم المتوسّط الآلاف منهم قبل أن “يبلغوا هدفهم المنشود“… لقد تضاعف عدد الفارّين من “نعيم” الشعبوية خلال انفراد الرّجل بالحكم “عشر مرات مقارنة بسنة 2021″ حسب المرصد الاجتماعي للمنتدى الاجتماعي التونسي…هذا دون الحديث عن تفاقم ظاهرة الإدمان والعنف والجريمة…كل هذا يجري و“الحاكم بأمره” يَعِدُ “الناس” بآلاف المليارات التي ستتأتّى من صلح جزائي لم يتقدم خطوة واحدة منذ ستة أشهر وشركات أهلية تنتظر التمويل من عائدات هذا الصلح الجزائي واسترداد الأموال المنهوبة (استنّي يا دجاجة لِلّي يجيك القمح من باجة)… إلى جانب الترويج، في الصفحات المساندة، إلى أنّ عدّة مناطق من تونس “تسبح فوق بحيرات من البترول والغاز” (اللّي يستنّى خير م اللّي يمنّى…) هذا عدا “مناجم الذهب” المزعومة التي تنتظر الاكتشاف والاستغلال…
وحين يشتدّ عليه الضّغط يُلقي المسؤولية على “العشريّة السّوداء” وعلى “المتآمرين على أمن الدولة” و“المتاجرين بقوت الشعب…”. كل شيء، وخاصة الفشل الذريع في إدارة شؤون الوطن، له تبرير واحد هو “المؤامرة“. ولكنّ “الحاكم بأمره” لا يسأل نفسه ماذا فعل وهويحكم البلاد بمفرده منذ حوالي العامين وشارك حكاّم “العشرية السوداء” عاما ونصف من حكمهم…هل قدّم تصوّرا وبرنامجا للنهوض بالقطاعات الأساسية من فلاحة وصناعة ومن خدمات الخ… هل اتّخذ خطوة واحدة للتحكّم في المديونيّة وفي التّدقيق فيها أو للحدّ من عجز الميزان التجاري وإدماج القطاع الموازي في القطاع المنظّم وفي الحدّ بصورة فعليّة من غلاء أسعار المواد والخدمات الضرورية وفي إصلاح التّعليم والصحّة والنّقل والنّهوض بالثقافة وحماية البيئة ؟ هل اتّخذ إجراء واحدا لتشغيل المعطّلين عن العمل والتّخفيف من فقر الفقراء والحدّ من ظاهرة “الحرقة” المتفاقمة وهجرة الأدمغة المتزايدة؟ هل اتّخذ خطوة ملموسة واحدة لتنفيذ الإجراءات الخاصة بنقل العاملات والعمّال الفلاّحيين الذين ظلّوا عرضة للحوادث المروريّة القاتلة؟ ماذا فعل في مجال مقاومة الفساد والاحتكار والتّلاعب بالمال العام والثّراء الفاحش غير بعض الإعلانات التي تفتقد الجدّية وبعض الزّيارات الاستعراضيّة التي غالبا ما يتّضح أنّ ما جاء فيها لا يتطابق مع الواقع والوقائع ؟ وماذا فعل لوضع حدّ للعنف المسلّط على النساء؟ إن معظم المراسيم التي اتخذها لا تهمّ إلا تركيز حكمه الاستبدادي…
جنون الدبلوماسيّة
وبالإضافة إلى ذلك فقد حوّل الرجل تونس، بشكل غير مسبوق، إلى موضوع “حفل شواء” جهوي وإقليمي ودولي في عالم شديد الاضطراب ومُقْدم على صراعات كبرى وخطيرة العواقب من أجل إعادة اقتسام مناطق النفوذ، ومن بينها منطقتنا ويا ويل من لا يستعدّ لذلك… فسَح المجال للجميع، بسياساته وممارساته الخرقاء بل اللاعقلانيّة التي زادت بلادنا ضعفا وهشاشة، كي يتدخّلوا بشكل سافر ووقح في شؤونها، وهو يرفع زيفا لواء “السيادة الوطنيّة” دون أن يوفّر أيّ شرط من شروط هذه السيادة حتى تصبح فعليّة… يمضي قانون ماليّة أخرق، هو قانون مجبى (يذكّر بالصادق باي الذي حكم تونس مابين 1859 و1882 ووقّع عام 1881 على وثيقة استعمار تونس)، يُثْقِل كاهل السكّان والمؤسّسات بالضرائب، ويدمج إملاءات صندوق النقد الدولي التقشّفية الموجعة للشعب… تتسوّل حكومته القروض والهبات لدى العواصم الغربية لتمويل الميزانية واجتناب الإفلاس وتلك العواصم تشترط الخضوع لـ“توصياتها” أو بالأحرى إملاءاتها… يستعطف دول الخليج لإنقاذه وهي تتمنّع وتشترط القبول بتوجهاتها الرجعيّة… ومع ذلك فهو يتظاهر للعموم بأنّه “صامد” في وجه “الابتزاز الاستعماري“…يصرخ في حملته الانتخابيّة أنّ “التّطبيع مع الكيان الصهيوني خيانة عظمى“، وتحلّ في ولايته، بمطار جربة، أوّل طائرة أقلعت من مطار “تل أبيب“، وتتبادل “رئيسة حكومته” الابتسامة والتحيّة مع رئيس الكيان المحتلّ، ويقدّم ذلك على أنّه “مجاملة دبلوماسيّة“… يثير “عركة” مع المغرب فهمها المتتبعون للشأن العام على أنها اصطفاف وراء “الشقيقة الكبرى” التي تتابع أوضاعنا بدقّة صيانة لمصالحها الجيوستراتيجيّة… تمدّ سلطات طرابلس مواطنيه بالزيت النباتي والأرز وغيرهما من المواد المفقودة، في شكل “هبة” وتعلن، حسب بعض وسائل الإعلام، أنها ستقدّم إلى المعوزين من مواطنيه في المنطقة الحدودية “قفاف رمضان” وسترسل إليهم “صدقات” في شكل طرود بريدية، لعجزه عن إطعامهم فيثير معها “عركة” حول جرف قارّي بتّت فيه محكمة لاهاي لفائدة ليبيا منذ أربعين عاما… يحافظ على اتفاقيات غير متكافئة مع الدول الغربية تشترط بنودها “احترام الحريات وحقوق الإنسان” (اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي مثلا…) ويحتجّ عليها حين تنتقد تصرّفاته الاستبداديّة في “شكل نصح صديق لصديق” وفق رياء حكومات تلك الدول التي تخشى انهيار مصالحها أكثر من أيّ شيء آخر، متظاهرا بالدّفاع عن السّيادة الوطنيّة… التي لا يراها إلاّ في الانفراد بشعبه لتدمير مكتسباته الديمقراطية وتحويل وطنه إلى سجن كما حوّلها قبله بن علي … لكن حين تصدر بعض الكلمات “المَعْسُو–مَسْمُومَة” (من قبيل السمّ في الدّسم) تجاه تونس من وريثة موسيليني في إيطاليا، خوفا على حدودها لا حبّا في تونس، يروّج لها بـ“البنت” العريض:”إيطاليا تقف إلى جانب تونس…” ولا يقال إنّه تدخّل في شؤونها…
يتحدّث عن الأخوّة والإخاء بين بني البشر ويتهجّم بشكل عنصري على إخواننا/أخواتنا المهاجرين الأفارقة جنوب الصحراء الذين حلّوا ببلادنا هربا من القهر والجحيم الاجتماعي في بلدانهم طلبا لظروف عيش أفضل على الضفّة الأخرى من المتوسّط متّهما إيّاهم بأن لهم نوايا “استيطانية” بهدف “تغيير التركيبة الديمغرافية للبلاد وطمس الهوية العربية الإسلاميّة لشعبها“، واستحقّ بذلك دعم العنصري، اليميني المتطرّف، الشّعبوي “إيريك زمور” المرشّح للرئاسة الفرنسية السابقة. ولا ريب فقد تفاقمت الاعتداءات على هؤلاء البسطاء من كل الجهات وهو ما سرّع بمغادرتهم تونس فتفاقمت بذلك ظاهرة غرقهم في عرض المتوسّط نحو إيطاليا منذ تصريح 21 فيفري المنصرم… ومن جهة أخرى فقد أصبحت الجاليات التونسية في عدد من البلدان الإفريقية عرضة لردود أفعال عنيفة ما كانت لتحصل لولا ذلك التصريح العنصري الذي يخدم مصالح “الآخرين” الذين يريدون تحويل بلادنا إلى شرطيّ لحماية حدودهم من “الحرّاقة” مقابل حفنة من “اليوروات” …”الآخرون” الذين يعيش بينهم مئات الآلاف من مواطنينا/مواطناتنا الذين لم يفكّر “صاحب التّصريح” أن كلامه يعطي مبرّرا لما يتعرّضون له من ممارسات عنصريّة دون أن يلقوا في الغالب سندا من “دولتهم” بسبب الشغورات المتكاثرة في السّفارات والقنصليّات…
جنون التّدمير والخراب
هذا هو جنون الشعبويّة اليمينيّة المتطرّفة في بلادنا. وهذا الجنون ليس جنونا فرديّا وإنما هو جنون غلاة الأقلية الرجعية الذين يعيشون فوق طاقة البلاد حين تحتدم أزمتهم ويضيقون ضرعا بالحريات التي تسمح للأغلبية الكادحة والمفقّرة بالتعبير عن آرائها ومواقفها وبتنظيم صفوفها في أحزاب ونقابات وجمعيات وفعاليات للدفاع عن مصالحها وتعمل على ممارسة سيادتها سواء عبر مؤسسات تمثيلية أو بشكل مباشر تعكس التنوّع داخل المجتمع، فتلجأ إلى أكثر أشكال الحكم قهرية. إن غلاة الرجعية من قيادات “الأجهزة الصلبة” وكبار السماسرة والاستغلاليين في الداخل والخارج هم المنتفعون من هذا الجنون بكل ما فيه من لخبطة ومن مخاطر وجودية على شعبنا ووطننا لأن العقلانية لم تعد تصلح لهم للدفاع عن مصالحهم بل لأن العقلانية إذا طُبّقت تقضي بأن يقبلوا بإزاحة أنفسهم ليدخلوا متحف التاريخ غير مأسوف عليهم. وهو ما يرفضونه وهم مستعدون لارتكاب أبشع الجرائم وبلوغ أعلى درجات الجنون للحفاظ على مراكزهم.
إن الشعبويّة اليمينيّة المتطرّفة في بلادنا هي اليوم، بجنونها ولا عقلانيتها، تمثّل ذروة الثورة المضادّة. وهي تعمل على تحقيق ما عجزت عن تحقيقه قوى الثورة المضادة التي سبقتها في الحكم منذ سقوط الدكتاتورية وهو الالتفاف نهائيا على الثورة… وهي إذ تفعل ذلك تسير بوطننا نحو الفاشستيّة والانهيار والانقسامات والتناحر والفقر والبؤس وانعدام الأمن كما تفتح الأبواب على مصراعيها للتدخلات الأجنبية… وهو ما يجعل كلفة هذا الجنون الشعبوي اليميني المتطرّف ثقيلة… وهو ما يدعو الشعب التونسي إلى التفكير مليّا في العواقب… إن الجنون النازي والفاشي، جنون غلاة الرأسماليين الاحتكاريين كانت تكلفته حربا كونية حصدت أرواح 60 مليونا من البشر… نقول هذا ونحن نأخذ بعين الاعتبار كل الفوارق في الزمان والمكان والقدرات الاقتصادية والعسكرية… نقول هذا لأخذ العبرة فقط… لقد انتابت قطاعات واسعة من الشعب الألماني والإيطالي والياباني وقتها حالة من اللاعقلانية وانساقت وراء ديماغوجية زعمائها الفاشيين وكانت الفاتورة باهظة… والفاتورة في تونس جراء الانسياق وراء الجنون الشعبوي ستكون باهظة أيضا أخذا بعين الاعتبار حالة البلاد المتأزمة… إن ما يردد من أنّه يكفي قيس سعيد فخرا كونه خلص البلاد من حركة النهضة هو مظهر من مظاهر جنون الشعبويّة…لأنه لا يكفي أن يتخلص الشعب من منظومة ما قبل 25 جويلية 2021، وهو أمر افتراضي وغير واقعي باعتبار أن أذرعة تلك المنظومة ما تزال قائمة وحركة النهضة نفسها لم تنته وإن ضعفت، وإنما من واجبه التفكير في ألا يكون مُعوّض منظومة حركة النهضة وحلفائها لا يختلف عنها إن لم يكن أكثر خطرا منها أخذا بعين الاعتبار أن حركة النهضة في حالة هبوط، والشعبوية التي تعوضها في حالة صعود وهي التي تمسك حاليا بمقاليد الحكم وتنفذ مشروعها الجنوني…
إن العقلانيّة تقضي بأن يواجه العمّال والكادحون وعموم الشعب “الجنون” الشعبوي اليميني، المتطرّف، بصفوف موحّدة للتخلّص منه وهم مسلّحون ببرنامج مستقل ينهض بهم وبوطنهم ويَقِيهُم من العودة إلى الوراء سواء إلى ما قبل 25 جويلية 2021 أو لما قبل 14 جانفي 2011. إن هذا الطريق المستقل موجود وواضح المعالم ولا يتطلّب إلا أن يفتح هؤلاء أعينهم عليه ولا تغويهم الديماغوجية الشعبوية التي تناهض مصالحهم وتُلغي مطامحهم المشروعة في الشّغل والحرية والكرامة الوطنية…إن الشعبويّة بجنونها ولا عقلانيّتها هي الماسكة اليوم بالسلطة وهي الخطر الجاثم على صدر الشّعب وهي التي تدمّر حياته… ومن البديهي أنّ العقلانيّة تقتضي التركيز عليها، دون غضّ الطرف عن بقيّة الخصوم والأعداء… إن من لا يريد عودة منظومة ما قبل 25 جويلية 2021 أو منظومة ما قبل 14 جانفي 2014 مطالب بأن يعمل بشكل جدّي على قيادة مقاومة الانقلاب الشّعبوي المتطرّف على قاعدة برنامج وطني، ديمقراطي، شعبي، وعدم تركها لقوى اليمين… إن الاصطفاف وراء الانقلاب ونزعاته الاستبدادية والفاشستية بدعوى التصدي لحركة النهضة هو انتهازية محضة لا يفسرها سوى الخوف أو الطمع أو السقوط في مستنقع الاستبداد والفاشية… وتلك هي حقيقة أولئك الذين يصفّقون اليوم لقيس سعيد… ويبررون كل خطوة يخطوها في ضرب الحريات والمكاسب الديمقراطية ويجدون له الذرائع لمزيد تجويع الشعب وتفقيره ومفاقمة التبعية وفتح المجال واسعا للتدخلات الأجنبية…
التغيير الحقيقي والإنفاذ أو السقوط في الهاوية…
وفي الخلاصة…
إن ثقافة “الله يُنْصُرْ من صبَحْ” و“يرْحمَكْ يا راجل أمّي الاوّل“، و“احييني اليوم واقتلني غدوة“، لا تؤسّس للحضارة وإنما للخراب… لا تؤسس للتقدم والتطور وإنما للسباحة في “العلو الشاهق” إلى حين السقوط المدوّي، أو الدّوران في حلقة مفرغة إلى أن يحلّ “الدمار الشامل“… لقد كانت ثورة 2010-2011 نقلة أساسية في سلوك شعبنا، بيّنت إيمانه بأن الحياة تقتضي في لحظة من اللحظات العصف بالقائم المهترئ وبناء الجديد…ولكن، وبما أن الثورات صعبة وليست مجرّد “سباحة في العلوّ الشاهق“، فقد انتابت شعبنا منذ الإخفاقات الأولى حالة من الإحباط والتشاؤم مكّنت “شياطين” الماضي الدفين وأصحاب الخبرة في الثورة المضادة المدعومين إقليميا ودوليأ، من إخراج رؤوسهم من جديد وغرس مخالبهم في جسده المنهك… ولكن “ما يعجبك في الدهر كان طولو…”… إن النهوض آت لا ريب فيه…
“إذا الشّعب يوما أراد الحياة…” تونس في 29 مارس 2023