بقلم الحسين الخرّوبي
الشارع المغاربي : تحتضن دار الثقافة فريد غازي بحومة السوق جربة، يوم الأحد 11 مارس 2018 بداية من الساعة الرابعة بعد الزوال، أربعينيّة فقيد الصحافة الجهوية لطفي الجريري مدير ومؤسّس جريدة “الجزيرة”.
وكان الفقيد لطفي الجريري قد غادرنا يوم 31 جانفي 2018 بعد إصابته بجلطة دماغية أدخلته في غيبوبة لازم على إثرها المستشفى الجامعي الحبيب بورقيبة بصفاقس منذ 25 ديسمبر 2017.
ولد الفقيد يوم 30 جويلية 1954 في حومة السوق بجربة، وهو ابن المناضل بلحسن الجريري ووالدته زكية المريمي. وكان الفقيد الابن الخامس من عائلة مكوّنة من 6 أبناء وهم: آمنة وفتحية والجيلاني وفوزي وحبيبة والدة المحامي والقيادي في الجبهة الشعبية النائب أحمد الصديق. وقد خلّف الفقيد ابنين، هما وهيبة التي تشتغل في مركز تصنيع مواد التجميل وحليم وهو صحفي من خريجي معهد الصحافة وعلوم الإخبار، وقد سمّاه بحليم لعشقه للفنّان عبد الحليم حافظ.
وممّا قد لا يعرفه الكثيرون أنّ والد الفقيد بلحسن الجريري الذي كان مناضلا زمن الاحتلال الفرنسي، وقد اعتقل وسجن إثر أحداث 7 أفريل 1938 بجربة للمطالبة بدستور تونسي. واعتقل مرّة ثانية أواخر عام 1939 بسبب حراكه النضالي في الجزيرة ضد المستعمر. وقد سجن بسجن 9 أفريل بتونس العاصمة وبسجني الحراش ولمباز في الجزائر العاصمة. كما كان والده الراحل ممثلا في الفرقة المسرحية التابعة لجمعية الترقّي الجربي خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
زاول الفقيد لطفي الجريري تعليمه بكُتّاب سيدي إبراهيم الجمني لدى المؤدّب أحمد الونيسي، ثمّ دخل المدرسة الابتدائية بشارع الحبيب بورقيبة في حومة السوق بجربة. وبعد نجاحه في مناظرة الدخول للتعليم الثانوي التحق بالمدرسة الثانوية بحومة السوق ثم بمعهدها الثانوي، حيث واصل دراسته إلى غاية السنة السادسة آداب، لكن رغم حدّة ذكائه وقوّة ذاكرته وشغفه بالمطالعة كان متمرّدا ومشاكسا وعاش مراهقة صعبة. وحدث أن أعلمت أستاذة العربية والده بعدم رضائها عن سلوكه في القسم، فما كان منه إلاّ أن ضربه من شدّة الغضب، وفق ما رواه الفقيد. وشكّل ذلك منعرجا في حياته فقد كره الدراسة وأبى مواصلتها وانقطع عنها مبكّرًا.
اشتغل الفقيد بعد انقطاعه عن الدراسة بصيدلية بوزقندة بحومة السوق لمدة ثلاث سنوات، ثمّ التحق للعمل ببلدية جربة الكبرى. وفي هذه الأثناء عمل الفقيد على تحسين امتلاكه للغتين العربية والفرنسية، فقد كان كثير المطالعة والقراءة، بل وكان يحفظ القواميس حتّى أصبح يجيد الكتابة والتحدّث بطلاقة بهاتين اللغتين. ومن ثمّة راسل الفقيد مجلة “شمس الجنوب” لصاحبها علي البقلوطي. كما كان مراسلا لجريدة “الأسبوع السياحي” الناطقة بالفرنسية لصاحبها التيجاني الحداد وكذلك مراسلا لأسبوعية “الرياضة” الناطقة بالفرنسية أيضا.
ومن فرط عشقه للعمل الصحفي، أصرّ الفقيد على إصدار جريدة جهوية، فتمكّن سنة 1980 من الحصول على تأشيرة إصدار جريدة جهوية سمّاها “الجزيرة”، أصدر أوّل عدد منها يوم 12 جوان 1980 دون أن تكون لديه موارد مالية كافية. وقد طبعت “الجزيرة” في البداية بمطبعة الاتحاد العام التونسي للشغل بتسهيلات من المسؤول عن المطبعة. وواصلت جريدة “الجزيرة” الصدور إلى غاية آخر مرحلة من حياة الفقيد، رغم الصعوبات الماديّة الجمّة بسبب انقطاع دعم الدولة للصحافة الجهوية وندرة الإعلانات بعد الثورة. فلم يبق حاليا من ضمن 11 صحيفة ومجلة جهوية كانت تصدر سابقا سوى ثلاث دوريات هي: جريدة “الجزيرة” بجربة ومجلة “شمس الجنوب” بسيدي بوزيد و”غزالة الجنوب” الناطقة بالفرنسية بصفاقس.
كوّن الفقيد نفسه بنفسه في مدرسة الحياة، وفيها تعلّم أبجديات العمل الصحفي وإدارة مؤسّسة صحفيّة، فهو كما يُقال بالإنجليزية “سالف مايد مان”. ومع ذلك أبى إلاّ أن يتلقّى المعارف الصحفية من منابعها. فشارك في 11 حلقة تكوين مستمر بالمركز الإفريقي لتدريب الصحافيين والاتصاليين على أيدي عدد من أساتذة معهد الصحافة وعلوم الإخبار. يُضاف إلى ذلك أنّه قام بدورات تدريبيّة في عدد من المدارس الدولية للصحافة في كلّ من بلجيكيا وفرنسا. ولم يُفوّت الفقيد على نفسه المشاركة في الملتقى الوطني حول دعم وتطوير الصحافة الجهوية المنعقد ببنزرت في جويلية 1984. كما شارك في ملتقيات عربية ودولية عديدة بكلّ من المغرب ومصر ولبنان والأردن وسوريا وتركيا وأمريكا نظمتها المنظمة الدولية للصحفيين والكتّاب المختصّين في السياحة.
ومن ثمّة نجح الفقيد لطفي الجريري في سعيه الدؤوب للحفاظ على استمراريّة صحيفته. أمّا اليوم فإنّ ما صنعه لم يعد ملكه بل بات من واجب أصدقائه ومتابعي صحيفة “الجزيرة” القيام بكلّ ما من شأنه أن يؤمّن ديمومتها، مع ضمان حقوق العائلة.
كان الفقيد بشوشا وذا علاقات وديّة مع كلّ الأجيال. وكان يذهب كلّ يوم ما بين المغرب والعشاء إلى مقهى بن دعماش بحومة السوق للعب الورق “بيلوت”. وهي الساعة الوحيدة من اليوم المثقل بأعباء الحياة التي يُتاح له خلالها الضحك من القلب بمعيّة الأصدقاء والأحباب حول طاولة يلعب فيها “طرحا” تتخلّله المعاكسات والطرائف.
سيرة الفقيد لم تكن عادية حتى بالمفهوم العصامي، فهو متمرّد على كلّ ما هو ثابتٌ ومسطّر، كما أنّه من طينة لا تقبل الرتابة والسكون. لم يواصل دراسته رغم حدّة ذكائه وقوّة ذاكرته وشغفه الكبير بالمطالعة. اختار لنفسه طريقا يُعبّر به عن ذاته ويمنحه حرية التحرّك والتفكير. وكان قلمه حرّا وجريئا كلسانه، فهو يحسن النقد دون تجريح، ويُجيد الوصف دون تملّق، كما يدفعك إلى تقبّله كما هو مهما كانت اختلافاتك معه.
بادر بتأسيس جريدة “الجزيرة” لإيمانه بأهميّة دور الصحافة الجهوية في توفير فضاء إعلامي يلتقي فيه وحوله أبناء جزيرة جربة خصوصا والجنوب عموما بصرف النظر عن انتشارهم الجغرافي. فقد اضطلعت جريدة “الجزيرة” بدور مهمّ في التعريف بتاريخ جربة وجغرافيتها وبيئتها وخصائصها وعلاقاتها بمحيطها. كما كانت على امتداد قرابة أربعين عاما منبرًا لمثقفي الجزيرة ومتنفّسا لهم للكتابة على أعمدتها بكلّ حريّة.
كان الفقيد يفخر بأنّ العديد من روّاد الصحافة الوطنية في نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين من أصيلي جزيرة جربة من أمثال الحسين المقدّم وسليمان الجادوي والبشير الفورتي والتيجاني بن سالم والبشير بن يحمد…
كما أسهم الفقيد في التأليف، إذ صدر له سنة 1992 دليل باللغة الفرنسية من منشورات “أدلّة قرطاكوم” خصّصه للتعريف بجزيرة جربة. وأسهم أيضا في كتابة مقدّمة ودراسة حول الوعي الجزيري في كتاب باللغة الفرنسية بعنوان “انتهاك لوتوفاج” صدر سنة 2017. وهو مجموعة من الدراسات حول تاريخ جزيرة جربة واقتصادها وبيئتها وطبيعة سكّانها وثقافتهم وتراثهم العريق. كما أصدر في سلسة “منشورات الجزيرة” كتابا عن والده بلحسن الجريري بعنوان: “شاهد على إسهامات جربة في الحركة الوطنية”. وكان للفقيد أيضا مشروع كتاب آخر بعنوان “أهل جربة الطيبين”، حيث كتب وعرّف على أعمدة جريدة “الجزيرة” وكذلك في صفحته بموقع “فايسبوك” برجالٍ ونساءٍ أفذاذٍ من أصيلي جربة تركوا آثارهم الكريمة في تاريخ الجزيرة الحديث، فكرّمهم وخلّدهم الصحفي الراحل لطفي الجريري بقلمه الحرّ.
لروح فقيدنا الرحمة…
—