الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: بِقدر ما عبّرت أطياف اجتماعية عن اعتقادها بأن مرحلة ما بعد 25 جويلية يمكن أن تحمل بعض رياح التغيير في معيشتها اليومية وتخلصها، وفق تقديرها، من منظومة فاسدة جثمت عليها وفقرتها بالكامل، فان التغيير الفعلي يبقى بشكل مؤكد مرتبطا بتحقيق توازنات مالية واصلاحات اقتصادية عامة مما يتطلب رؤية سياسية قوامها اعادة الثقة للمتعاملين الماليين مع تونس والمستثمرين الاجانب في سياق تخطيط محكم ووضوح تام سيما على المستوى السياسي.
المعطيات الحالية لا توحي مبدئيا بوجود وعي وإدراك واضحين لتحقيق ما ترنو اليه الجماهير التي ما زالت الى حد الآن تحت وقع المراوحة بين «انتصار» ارادتها وتوقها لتحسين أوضاعها المتدهورة في ظل غموض كبير يكتنف قدرات الدولة على تعبئة موارد مالية ضخمة للإيفاء بالتزاماتها المختلفة، داخليا وخارجيا، من ناحية وتقييمها موقف الجهات المالية الدولية من مسارها المتذبذب، من ناحية اخرى.
إكراهات الاقتصاد وغموض المسار
ساعات معدودة بعد اعلان التدابير الرئاسية مساء يوم الأحد 25 جويلية،أصدرت وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية وهي أحد أبرز المراجع التقييمية في ميدان المال والأعمال في العالم صباح يوم الغد مٌذَكَّرَةً، اوضحت فيها أن تونس، التي تنجرف نحو أسوأ أزمة سياسية منذ احتجاجات الربيع العربي في 2011، تحتاج إلى إنقاذ احتياطيها من النقد الأجنبي والتوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي لتفادي خفض آخر لتصنيفها السيادي مشددة على أن الأمر قد يتسبب في نزول التصنيف من (ب سلبي) حاليا إلى(ج ج ج )، وهي المحطة الأخيرة قبل العجز عن السداد. كما بينت الوكالة أن المسألة تتوقف على عدة عوامل أهمها وضع المالية الخارجية وتطور مستوى الموجودات من العملة الأجنبية وتضائل احتمالات ابرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.
كما أكدت فيتش على أن الفشل في التوصل لاتفاق مع صندوق النقد، الذي من المرتقب أن تبلغ قيمته أربعة مليارات دولار أي 11 مليار دينار، سيعوّض بالاعتماد الشديد على البنوك المحلية لتقديم التمويل للخزينة إذ أنه من غير المرجح أن يكون بمقدور البلاد الاقتراض من أسواق السندات الدولية كما هو مخطط، وفقا للوكالة الدولية. وقدرت فيتش أن الدولة التونسية التي أصبحت الديمقراطية الوحيدة التي انبثقت عن احتجاجات الربيع العربي قبل عشر سنوات، تواجه خلاص ديون عمومية تمثل قيمتها حوالي 4 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا في المعدل وذلك طيلة العامين القادمين مشيرة الى أنه من المتوقع أن يبلغ العجز الجاري في المعدل كذلك نحو 8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال نفس الفترة علما أنه يجري إنفاق 17 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي على أجور العاملين بالقطاع العمومي في حين تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي أواخر الربع الأول من العام الحالي بحوالي مليار دولار (2.7 مليار دينار( إلى نحو 21.5 مليار دينار 8.9) مليارات دولار( .
وعَقّب متحدث باسم صندوق النقد على مُجريات الأوضاع في البلاد في نفس اليوم الذي أصدرت فيه فيتش مذكرتها مشيرا بصفة طغى عليها عدم الوضوح الى أن الصندوق يراقب عن كثب تطورات الوضع في تونس والى أنه مع ذلك مستعد لمواصلة تقديم الدعم.
غير ان مذكّرة أخرى نشرتها وكالة أخرى مرجعية هي موديز يوم 4 اوت الجاري زادت في تعقيد فهم الأوضاع اذ حذرت الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني من أن غياب محكمة دستورية في تونس وذلك في اشارة الى حالة الفوضى السياسية في البلاد سيساهم في تمديد الأزمة الراهنة مما قد يؤدي إلى تباطئ نسق تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، وبالتالي المفاوضات مع صندوق النقد الدولي مُرَكّزة، في ذات السياق،ردًا على تجميد رئيس الجمهورية أشغال مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه، على أن من شأن تفاقم الأزمة السياسية أن يزيد في إرباك المفاوضات مع الصندوق حول برنامج التمويل الجديد متعدد السنوات والتي توقفت بسبب الخلافات القائمة مع الحكومة. كما أوضحت أن الخلافات مع تونس تتعلق أساسًا بتقليص كتلة أجور الوظيفة العمومية وإعادة هيكلة منظومة الدعم، إضافة إلى دور المؤسسات في الاقتصاد.
واعتبرت موديز أنه من غير المرجح أن يوافق صندوق النقد الدولي على عقد برنامج جديد دون الموافقة على إرساء حزمة من الإصلاحات الشاملة في إطار «ميثاق اجتماعي» يجمع كل الأطراف الوطنية مفيدة بأن ذلك يمكن أن يزيد من مخاطرعجز الميزانية ويهدد استدامة الدين الخارجي.
تنظيم الفوضى
يبدو واضحا من جل التقييمات الصادرة بشكل خاص بعد 25 جويلية أن للمالية العمومية في تونس عنوانا واحدا هو «الفوضى» اذ شُلّت منذ هذا التاريخ كافة مصالح رئاسة الحكومة ووزارة المالية والهياكل الراجعة لهما بالنظر بحكم اقالة المسؤولين بها. ولتتدارك الفراغ التسييري المُربك فعليا لأعمال عدة مصالح حيوية تم يوم 2 اوت الحالي تكليف سهام البوغديري نمصية بتسيير وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار، خلفا للوزير المعفى علي الكعلي وهي الادارية التي قضت مسيرتها المهنية في وزارة المالية وتحديدا في الإدارة العامة للدراسات والتشريع الجبائي كفنية متخصصة في الشأن الضريبي بعيدا عن مواقع قرار ذات أهمية تذكر صلب دواليب الدولة.
وبات من الواضح انه والى الآن لا يوجد أي مفاوض يضمن استمرارية العمل مع الهيآت المالية الدائنة وجهات سياسية مؤثرة اقليميا ودوليا التي اصبحت تنظر، وفق العديد من المتابعين للشأن الوطني، بعين الريبة لما يجري في البلاد على مستوى انسداد افاق المالية العمومية وصياغة اي اصلاح هيكلي وجذري للاقتصاد التونسي.
وبشكل أعمق، تشير الأرقام الى أن الشأن المالي صار «يسير» بشكل يومي وفق مستوى رصيد خزينة الدولة شبه الخاوية (535 مليون دينار 160 مليون اورو( مع التعويل المكثف على الاقتراض الداخلي لسد مختلف حاجات الدولة بما في ذلك دفع اقساط الديون الخارجية وهو الذي قدر نهاية ماي بنحو 3857 مليون دينار دون احتساب قيمة قسطي القرض الأمريكي (2800 مليون دولار) والتي سددت كذلك بالاقتراض الداخلي وهي مبالغ قياسية ليفيد الخبراء ان اتباع نفس التمشي في هذا الصدد قد ينهي رصيد البلاد من العملة الاجنبية في ظرف وجيز بالنظر لأهمية الاستحقاقات المالية للخارج في المدى القصير بما يحيل تونس الى سيناريوهات معهودة في الشرق الاوسط وفي مناطق شبيهة في العالم.
غير أن الغريب في الأمر أن لا أحد عدا بعض الخبراء تطرق الى هذه التحديات وكَأَنَّ مبادرات تنظيم الجباية وفق منحى جديد بألقائها على كاهل بعض رجال الاعمال، يمكن ان تجعل السماء تُمطر ذهبا في تونس وتوفر 19 مليار دينار من الموارد لإدارة عجز الميزانية في غضون أربعة أشهر اي مع حلول أواخر السنة المالية الحالية دون صياغة قانون مالية يضمن البقاء للاقتصاد الوطني ويقيه من شرور ومخاطر التعثر والانحلال.
وعموما يبدو ان حالة الوعي الراهنة لم تطل كيفية ادارة المعاش في تونس بشكل منهجي وضمان بقاء الاف الشركات التي انهكتها الجائحة الصحية حيث انه لا يمكن لأي كان ادارة وضعيات الفوضى طالما لم يتم تنظيمها ولو بالحد الادنى. كما انه من المستحيل تنظيم وضعية سيما اذا كانت اقتصادية او اجتماعية دون الالمام ولو قليلا بخطط رقابتها واستشراف آفاقها ولكن مسار الأمور الحالي يحيل على الأرجح الى تصورات يُصِرُ اصحاب الحل والعقد على توظيفها وهي التي ترتكز على ترك الشعب سيدا في مجال تنظيم وادارة احتياجاته مع التركيز على القوى الشبابية كقوى «فاعلة» و»خلاقة» وهو ما لا يمكن لأي محاور مالي او استثماري للبلاد فهمه او قبوله…
صدر باسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 17 اوت 2021