الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: رغم التكذيب الرسمي المتواصل من طرف الخبراء وكبار المختصين في الاقتصاد والمالية بمبرّر ومن دونه، صدقت في النهاية تقديرات هؤلاء الذين يؤكدون منذ سنوات ان انحلال منظومة المالية العمومية سيؤدي الى صدمة اقتصادية واجتماعية عنيفة وهو ما بيّنته بوضوح دراسة أصدرها حديثا المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية تكشف أن عدم مواكبة البلاد تطورات الاقتصاد العالمي وفهم تحولاته سيما مع بروز الجائحة سيجعل من تونس بلدا «خارج التاريخ»، ان لم يكن الامر حاصلا فعليا منذ مدة.
مذكرة وزارة الاقتصاد والمالية ودعم الاستثمار حول متابعة ميزانية الدولة والمنشورة مؤخرا أبرزت الضعف الفادح للتمويل الصافي الخارجي في الربع الأول من العام الحالي، مسألة لها عدة دلالات أهمها ان التعويل على موارد خارجية لهذا العام لتمويل الانفاق على الانتدابات «الحزبية» وصرف زيادات سخية للأجور خلسة تارة وتحت الضغط والابتزاز تارة أخرى، أصبح امرا مفضوحا بصفة حولت السياسات العامة للاقتراض الى سياسات فلكلورية وعقيمة مبنية على المراوغة والحيل التي لا ولن تنطلي مستقبلا سواء على الهيئات المالية الدولية او على الدول «الشقيقة» التي تطلب منها السلط التونسية تحمل فشلها وخيبتها.
التداين الخارجي: نهاية الرحلة
أكدت معطيات وزارة المالية في تقريرها حول متابعة تنفيذ ميزانية الدولة للعام الحالي ان حجم الاقتراضات الخارجية طيلة الربع الأول من 2021 يناهز 889.5 مليون دينار وأن تسديد الديون خلال نفس الفترة بلغ 689.7 مليون دينار مما يعني ان قيمة التمويل الصافي الخارجي تساوي 199.8 مليون دينار وهو مبلغ جد محدود مقارنة بألاف المليارات التي كانت تصرف لتونس في فترات لا تتجاوز الشهر او الشهرين في عدة وضعيات وذلك بشكل خاص طيلة السنوات الأولى التي عقبت 2011.
وباعتبار هذا المنحى، فان حاصل التداين الخارجي لا يمكن ان يتجاوز في أحسن الحالات 1.7 مليار دينار مع موفي العام الجاري مقابل «اهداف» ترنو الى تعبئة موارد خارجية بقيمة 13 مليار دينار.
وفي هذا الاطار، وباحتساب التعهد الأخير للاتحاد الأوروبي بصرف قرض بقيمة300 مليون دينار لإنقاذ المالية العمومية التونسية المترنحة وفي صورة صرف صندوق النقد الدولي قسط او قسطين من القرض المطلوب 4)مليارات دولار) قبل نهاية العام وفي صورة أيضا «تدخل» قطر لإسعاف الاقتصاد التونسي المنهار بعد «شفاعة» من رئيس البرلمان للحصول على قرض «مُيسّر» بمليار دولار، فإن قيمة الحاصل الصافي للتمويل الخارجي لا يمكن ان تتجاوز اجمالا ما يعادل 4او 5 مليارات دينار بينما يقدّر حجم تسديد الدين الخارجي العمومي مع نهاية العام الحالي بنحو6.5 مليارات دينار.
ولعل ما يؤكد بشكل واضح ان رحلة التداين توشك على الانتهاء ان لم تكن قد انتهت ما تبين أرقام البنك المركزي التي تشير الى بلوغ خدمة الدين الخارجي خلال الأشهر الأربع الأولى من السنة الراهنة زهاء 2.9 مليار دينار وهو ما يفوق بكثير مداخيل القطاع الخارجي وهي اساسا مداخيل السياحة (0.4 مليار دينار (وتحويلات الجالية التونسية المقيمة بالخارج (1.8 مليار دينار (. كما تقدر نسبة عبء الدين الخارجي بحوالي 2.5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي (1.4 بالمائة من الناتج في 2010) وتعادل بالعملة الأجنبية نحو 870 مليون دولار او ( 1038 مليون اورو (.
تونس في فخّ المقرضين
منذ 2011، تواجه تونس حاجة مستمّرة لتوفير سيولة إضافية من العملة الأجنبية لتعويض الهبوط الهائل للصادرات والاستثمارات الخارجية المباشرة. وكانت المديونية المكثّفة هي السّبيل الذي اتبعته مختلف الحكومات لسهولته رغم ان هذا الاختيار كان في غاية الخطورة. ومن هنا التجأت تونس غالبا إلى مانحي القروض الرسميين والخواص لتوفير حاجاتها من العملة.
ووقعت تونس بشكل مستمر ومتواصل في سياق ما يسمى بـ «برامج» صندوق النقد الدولي في 2013 القرض الاحتياطي، وفي 2016 برنامج مرفق الصندوق الموسع وفي 2019 برنامج أداة التمويل السريع. أما البرنامج الرابع فهو قيد التفاوض الآن.
وتأمل الحكومة الحالية في الحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار وهو مبلغ قياسي لاعتقادها أن مجرّد وجود تونس تحت وطأة برامج صندوق النقد الدولي هو ضمان لدائنيها الآخرين باعتبارها مذعنة لسياسة الصندوق وبأنها تعطي الأولوية لخدمة الدين ولتعويم العملة الوطنية ولفتح الحدود أمام رؤوس الأموال والسلع.
في هذا السياق بالذات، يلعب صندوق النقد الدولي دورا حاسما ك «مُقرض الملاذ الأخير» باعتبار أنه يوفّر السيولة عندما تنضب وعندما يرفض جميع المُقرضين الآخرين توفير ذلك. هذه السيولة يمكن أن تمرّ بيسر عبر تونس لتنتهي في جيوب بقية المانحين مما يدفع الدولة إلى الاقتراض أكثر. في الوقت الذي تتفاوض تونس في ماي 2021 حول قرض جديد من صندوق النقد الدولي، من الضروري التأكيد على أن جزءا من هذا القرض سيعود إلى نفس الصندوق باعتبار أن تونس يجب أن تسدّد له 185 مليون وحدة من حقوق السحب الخاصة المعروفة أي ما يقارب 268 مليون دولار(740 مليون دينار (، فيما ستذهب البقية إلى دائنين آخرين.
كما تجدر الإشارة إلى أن المدّ والجزر في قيمة صرف الدينار هما السبب الرئيسي وراء تراجع -أو تحسّن- مؤشر الدين بالنسبة للناتج الداخلي الخام.
في 2019، انخفض مؤشر الدين على الناتج الداخلي الخام إلى 72% «بسبب ارتفاع قيمة الدينار وانخفاض عجز الميزان التجاري والخارجي» وفق ما أعلن صندوق النقد الدولي في أفريل 2020. وهذه هي المرة الأولى التي ينخفض فيها المؤشر منذ 2011.
ومع ذلك، فإن انخفاض قيمة الدينار فرض ضغوطا جديدة على الحسابات الوطنية مثلما يذكر قسم الأسواق النامية بوكالة «جي بي مورغان» في تقريرها المنشور في جويلية 2020 والذي يبرز أنّ الدين الخارجي التونسي ارتفع بمقدار الثلثين بين 2014 و2019 نتيجة لانخفاض قيمة العملة الوطنية وانه من المنتظر أن يشهد ذروته في 2021 وفي 2024 ليبلغ 18,6 مليار دولار بين 2020 و2025.
وترجع الوضعية في الواقع الى تعويم العملة نتيجة لشرط وَضَعَهُ صندوق النقد الدولي وهو مذكور في برنامج مرفق الصندوق الموسع في 2015. وكان الهدف من هذا الشرط في الظاهر تعزيز الصادرات وكبح التوريد ولكن الغرض منه فعليا استفادة «المستثمرين / المضاربين» الأجانب من فوارق تحويل العملة. نتيجة لذلك، كان من المفترض نظريّا أن يقوم النشاط الاقتصادي بدفع نسبة النمو إلى أعلى. وكان الاحتمال قائما منذ البداية بأن يصاحبه ضرر جانبي مهمّ وهو التضخّم. وللأسف حدث ما كان متوقّعا وفي الحسبان وهو ما يفسّر التدهور الحتمي للقدرة الشرائية للتونسيين.
بخُفّي حنين
عديدة هي الاسئلة التي تطرح في خصوص «الحالة التونسية» والمديونية ولكن أهمها يتمثل في سبب مواصلة اعتبار مقرضي تونس دينها الى اليوم وطيلة السنوات الماضية دينا «مستداما» بمعنى أنه قابل للاسقاط وذلك بشكل علني على الاقل. ولعل المعضلة الكبرى تبرز في عدم اعلان الجهات والدول المقرضة ضرورة تحمل المسؤولية والاعتراف بفخّ الديون الذي سقطت فيه البلاد ومجابهته، اذ ان كلّ ما يهم السياسيين والسلط هو الحفاظ على تدفق الأموال والسيولة على مركب يغرق تدريجيا ولكن بصفة حتمية حيث يتجنّب الجميع إشهار التوقّف عن السّداد لكي لا يُنعتوا بالفشل والخيبة والعودة بخفي حنين بعد كل زيارة الى دولة او جهة مقرضة.
ولعل المثير للسخرية أيضا هو أن توقيع قروض جديدة يكون دوما مدعاة للاحتفال من طرف عدد من ابواق الدعاية على أنه دليل على ثقة ودعم المجتمع الدولي في اقتصاد تونس. وصار المدح والتصفيق لكلّ دين اضافي وكأنه دليل على أن صورة البلاد في الخارج جيّدة وعلى أنها تجتاز بنجاح اختبارات «النجاح الاقتصادي». وبعد ذلك تعتبر المؤسسات المالية الدولية والمقرضون الرسميون أن إبقاء «حنفية» القروض مفتوحة هو وسيلة لدعم هذا الانتقال المزعوم.
كما انه ومن المفارقات – على الأقل في الظرف الراهن – أن المؤسسات المالية الدولية ما زالت تقيّم الدين التونسي على انه «قابل للتحمل»ولكنها بدأت منذ مدة في اشتراط الامر بقدرة البلاد على الاستمرار في سداد ديونها حتى لو كانت تقترض أكثر للقيام بذلك.
ولمساعدة تونس على «النمو» و»خلق الثروة» اللذين سينتهي بهما الأمر في خدمة الدين، يُعدّ الجميع وصفات جاهزة للاستعمال تتكون من الخوصصة ورفع الدعم وتسريح الموظفين وبالتالي الغاء دور الدولة بأي شكل من الاشكال، في سياق شعار مختل هو «غاية سداد الديون تبرر الوسيلة».
يذكر في هذا الصدد انه خلال ثمانينات القرن الماضي، وقبل اندلاع أزمة الدين في أمريكا اللاتينية بقليل، اعتبر «والتر ريستون» المدير السابق لـ «سيتي بنك» أن «الدول لا تفلس» ليكون هذا التأكيد في الواقع تعريفا لـ»القدرة على استخلاص الدين» من وجهة نظر مهيمنة باعتبار ان الدولة القادرة بشكل مستدام على الإيفاء بالتزاماتها هي الدولة التي لديها ما تبيع لخلق الثروة وسداد الدين.
ومن المؤسف ان هذه «المقاربة» المفزعة صارت تنطبق على تونس أيضا اذ عندما يعتبر الدائنون أن الدين التونسي «مستداما». فهم يقصدون فعليا أنه «قابل للخلاص» مما يعني ضمنيا أن الدولة لازالت تملك شيئا تبيعه أو تؤجّره لمدّة طويلة تصل إلى عشرات السنين: طريق سريعة، مطار، أراض أو يد عاملة تباع بأبخس الاثمان. وبمجرّد بيع كلّ شيء، لن تكون هذه الدولة موجودة بعد ذلك ليجري توصيفها حينئذ بالوصف المرعب «الدولة الفاشلة» او «الدولة المنحلة».
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 1 جوان 2021