الشارع المغاربي : في حوار أدلى به لصحيفة «لاناسيونال» الأرجنتينية قال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي:«إنّ تونس لم يسبق لها أن كانت دولة علمانية…وأنّ الدستور التونسي منذ الاستقلال نصّ على أنّ تونس بلد مسلم لكن بشكل خجول»، مؤكّدا على ضرورة أن»تتكيّف» الحركة الإسلامية «مع الواقع» من خلال «الإسلام الديمقراطي»، ومشيرا في الوقت ذاته إلى أنّ»لكل بلد ظروفه».
«تخريجة» جديدة يرمي بها الغنوشي في «سوق» التداول الفكري، اختار لها هذه المرّة مصطلحا عجيبا غريبا :»الإسلام الخجول» نحته الرجل نحتا فيه تعسّف كبير على التاريخ وعلى المعرفة وعلى الفكر وليّ لعنق المصطلح، وخاصّة «تجارة فكرية» بالإسلام.
من التوتّر و الغضب إلى الخجل
على هامش أشغال مجلس شورى حركة النهضة في أكتوبر 2016 وفي تصريح مشابه في المضمون تقريبا للـ«تخريجة الأرجنتينية»، اعتبر الغنوشي «داعش» حينها «حالة متوتّرة وغاضبة» وهي صورة من صور «الإسلام الغاضب» الذي يخرج عن العقل والحكمة، ولا يمكن إلّا أن «نقول له أنت ظالم ومتطرّف ومخطىء» حسب الغنوشي طبعا.
ما هذا «الخبط العشوائي» وهذا العبث المتلحّف بالفكر يا إلهي؟ وصفة «إكلينيكية» تشخّص مزاجات الإسلام العظيم وتنزّله درك «الكائن الدنيوي» الضعيف والخاضع لباروماتر العواطف البشرية: «متوتّر» حينا، «غاضب» حينا آخر، «خجول» هذه المرّة، وربّما سيأتي عليه زمن ليصبح حسب الغنوشي « إسلاما ضاحكا مقهقها» أو « حزينا نادما» على ما فعل به «بعضهم» من الأفاعيل، وأنزلوه غصبا إلى ساحات «التكتكة» السياسية، وإكراهات «التكيّف مع الواقع».
يقول العرب «يخبط خبط عشواء»، والعشواء هي الناقة الضعيفة البصر، أو التي لا تبصر في اللّيل، فهي تطأ كلّ شيء. ويضرب المثل للمتهافت في الشيء والذي يركب رأسه ولا يهتم لعاقبته كما تروي المناجد والقواميس ومتون الأمثال العربية التراثية. تصريح الغنوشي الأخير للصحيفة الأرجنتينية وحديثه عن «إسلام خجول» يدين به التونسيون هو من جنس خبط العشواء التي «تطأ كلّ شيء» نتيجة «ضعف في البصر، أو «الراكب رأسه غير مهتم بعاقبة» هذه التجارة الفكرية بدين الله.هي مواصلة في نفس النهج «الفكري» الذي سار فيه الرجل، لمّا أسّس رفقة مجموعة من الإسلاميين حركة الاتجاه الإسلامي سنة 1981 لمناهضة الدولة الوطنية التي اعتبرت حينها قائمة على نظام علماني، وحين اعتبر الغنوشي نفسه أنّ الحركة تهدف أساسا إلى مقاومة القوى العلمانية بما فيها الدولة ونظامها الذي جرّد المجتمع التونسي من إسلامه وتديّنه.
اليوم وبعد أن تحقق بعض أهداف «التدافع» و»التمكين»، وفي ّ»بهلوانية فكرية» يكشف لنا الغنوشي فجأة «أنّ تونس لم يسبق لها أن كانت دولة علمانية»، وأنّ المجتمع التونسي لم يجرّد من إسلامه بل كان يعيش «إسلاما خجولا» ليس إلّا.
لا يمكن أن نوصّف هذه «التخريجات الغنوشية» وإلصاق النعوت «المرضية» والمزاجية بالإسلام إلّا بالتجارة الفكرية بالدين والتطويع المفضوح له بقصد التكيّف مع ضروارات الواقع وإكراهاته. وهو في الوقت نفسه لهو وعبث بمقدّسات النّاس الذين يسمح الغنّوشي لنفسه أن يوصّفهم حينا بالمجرّدين من دينهم، وحينا آخر بأنّ إسلامهم خجول، وأنّ دولتهم الوطنية المدنية هي علمانية في أسسها كما يفهم من الوثيقة العقائدية للحركة التي تعدّ إلى اليوم مرجعية الحركة، ثم تتحوّل بقدرة قادر الآن إلى دولة غير علمانية.
شطحات «فكرية»…
عند الحديث عن علم الأديان وتاريخها، لا يمكن للمثقّف أو للمفكّر أن يسمح لنفسه أن ينحت المصطلحات نحتا عشوائيا احتراما لشروط المعرفة العلمية الجادة كما هو الأمر في سائر صنوف المعارف والاختصاصات العلمية الأخرى، وإلّا تحوّلت المعرفة إلّا لغو وهذيان لا قيمة له في ميزان العلم. إذ لا وجود لدين «غاضب» مثلا أو «متوتّر» أو «خجول» بل الأمر يتعلّق بأشكال من التديّن البشري التي تراكمها المجتمعات عبر تاريخها. والقول بدين «خجول» مثلا هو نوع من Animisme أو الإحيائية التي تصبغ الموجودات والأفكار بصبغة بشرية روحية أو لنقل سذاجة وطفولة فكرية لا ترتقي إلى الحدّ الأدنى من النظر العلمي الرصين.
في سياقات تاريخ الأديان أو في علم الأديان المقارنة لا يمكن التطرّق إلّا إلى دين «متسامح» وسطي مثلا في علاقته برؤيته للإنسان وللكون كالإسلام مثلا، أو دين محبّة وحب كالمسيحية أو دين تشدّد تشريعي كاليهودية أو أديان مغرقة في الروحاني كما هو شأن بعض أديان آسيا كالبوذية والتاتاوية والكونفوشيوسية. هكذا توصّف الأديان عادة في مخابر البحث في العالم، والحديث عن خجل أو توتّر أو غضب موسوم به دين ما هو إلاّ هراء فكري و «لعب مفيد» بدين اللّه ومضاربة نافعة في سوق السياسة كما هو شأن الغنّوشي الذي مازال على ما يبدو على العهد مع «تكييف» الديني وفق الهوى السياسي ووفق اتجاهات الريح في الدّاخل وفي الإقليم…المهم والأهم بالنسبة له ممارسة رياضته المحبّبة إلى قلبه منذ عقود: القفز والرقص على حبال السياسة من أجل التمكين ولا شيء غير التمكين حتى وإن تحوّل الإسلام عنده إلى ديمقراطي علماني حداثي «لايت»..غير مهم مادامت «تجارته» رابحة إلى حين…