الشارع المغاربي: يوم غرة ماي 2018 ، أكد رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي ، والرجل يعرف ماذا يقول، احتمال قيادة ” جنرال مجنون” انقلابا في تونس مضيفا بحماس بدا غريبا وربما فاضحا لمخاوف تشق حزبه ، أن الجنرال المجنون سيُواجه من قبل الحكم المحلي وأن التونسيين لن يكونوا أقل حرصا على ديمقراطيتهم من الاتراك .. وكلام الغنوشي المباح لم يُخرج من سياقه ولم يُعقّب عليه أو يتراجع عنه ” الشيخ” ، بعدها بشهر تقريبا تضمن مقال للصحفي الفرنسي نيكولا بو تفاصيل عما أسماه بمخطط انقلاب كان سينفذه الجنرال لطفي ابراهم ، ثم شهدت وزارة الداخلية سلسلة تعيينات وإقالات رافقتها حرب ملفات تضمنت تهم تدبير انقلاب مرة تُوجّه ليوسف الشاهد وأخرى لإبراهم وأخيرا للنهضة ..
عرفت وزارة الداخلية خلال أيام معدودات إثر قرار اقالة لطفي ابراهم إصدار أكثر من 110 تعيينات ، مما تسبب في اتساع رقعة التساؤلات حول خلفيات تعيينات وإقالات يُتداول أنها شملت كل المقربين من ابراهم ، بل ووصفت بأنها “عملية تصفية” واسعة وغير مسبوقة تشبه بشكل ما ما حدث بتركيا إبان إفشال مخطط انقلاب كان سيطيح بحكم أردوغان.
ومع تزامن هذه التعيينات والإقالات مع حدثين بارزين عاشت على وقعهما البلاد يتعلق الأول بإقالة وزير الداخلية ، والثاني هو قطعا مقال نيكولا بو الذي زعم فيه انه تم إحباط مخطط كان سينفذه لطفي ابراهم بدعم سعودي اماراتي ، وفي ظل غياب سياسة اتصالية لوزارة الداخلية تبسط بمنطلقها حقيقة ما يحدث صلبها ، تعدّدت الروايات حول قائد الانقلاب المزعوم والأطراف التي تتحرك لافتكاك السلطة .
الاقامة الجبرية
يتهم مقربون من الوزير المقال لطفي ابراهم حركة النهضة بالوقوف وراء قرار اعفائه من منصبه ، اعفاء تم ،وفق روايتهم ، في اطار صفقة عقدت بين الغنوشي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد تواصل بمقتضاها الحركة دعم ومساندة ” يوسف” مقابل ” استئصال” الوزير الذي لم تقبله النهضة يوما وفُرض تعيينه عليها فرضا .
الرواية تقول أيضا إن الشاهد قرر الإقالة دون موافقة صريحة من رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ، وان رئيس الحكومة اكتفى بمجرد ” إعلام ” الرئيس لا غير بنيته إعفاء الوزير ابراهم خلال لقاء جمعهما صباح يوم الأربعاء واعقبه باتصال هاتفي بالرئيس قائد السبسي من مكتبه بالقصبة أخبره فيه بإصداره قرارا يقضي بإقالة لطفي ابراهم وتعويضه بغازي الجريبي بالنيابة.
ويستند المقربون من ابراهم في اتهامهم النهضة والشاهد بعقد صفقة ، الى تصريحات سابقة لراشد الغنوشي نبه فيها من ” الجنرال المجنون” ، لافتين الى ان التنبيه كان موجها للطفي ابراهم ،“الجنرال غير المضمون” والماسك في نفس الوقت بأهم حقيبة سيادية تُمثل قلب الحكم في تونس ، وان مرد تصعيد النهضة زيارة الوزير المقال الى السعودية ولقاءه هناك بالعاهل السعودي وبولي العهد والحظوة التي اُستقبل بها في المملكة والتي تجسدت في تسخير طائرة خاصة لرحلة العودة به لتونس.
هذه الرواية تم تداولها بقوة في مواقع التواصل الاجتماعي من قبل صفحات يقال إنها تابعة لابراهم ،قبل ان يخرج هذا الاخير لأول مرّة في مسيرته للإعلام وينفي جملة وتفصيلا تهمة الانقلاب التي جاءت في مقال الفرنسي نيكولا بو ، معلنا انه سيقاضي الصحفي المذكور وأطرافا اخرى محليا ودوليا مقدما تفاصيل حول زيارته الى السعودية .
هذا الخروج الاعلامي تم تدارسه في اطار ضيّق وفق ما تحصل عليه “الشارع المغاربي” من معطيات تقول إن ابراهم قرر المواجهة وانه قد يتجه الى الاعلام مرة اخرى ان اقتضت الضرورة ، وإن تبين له ان ” مكائد الغرف المظلمة” ستتحول الى قضايا ” ملفقة بالتآمر على أمن الدولة والخيانة العظمى” وانه لن يكون كبش فداء ومطية لتحقيق طموحات افتكاك السلطة التي تحرك النهضة ومجموعة الشاهد.
اما الأخطر في ما يُتداول بالدوائر القريبة من الوزير السابق، فهي تأكيدات بأن اقالته مكنت من ابعاد أهم مساند لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ونجله “حافظ” ، وانه رفض توقيع قرار بإحالة المدير التنفيذي ورجل الاعمال كمال اللطيف على الاقامة الجبرية ، وان طبخة ابعاده رُتبت في اطار “الاعداد لما بعد الباجي” .
وكان ابراهم قد كشف في تصريح لاذاعة “موزاييك” انه رفض التوقيع على قرارات الإحالة على الاقامة الجبرية بسبب غياب الأطر القانونية والدستورية ، كاشفا انه تم الافراج عن 6 أو 7 ممن شملهم هذا الاجراء خلال عهد الهادي مجدوب بسبب خلو ملفاتهم من أية مؤيدات دامغة.
من غير الممكن طبعا تأكيد أو نفي هذه الرواية ، لكن ابراهم الذي عينه رئيس الجمهورية آمرا للحرس الوطني وكان أيضا وراء فرض تعيينه رغم ان تقاليد وزارة الداخلية تأبى تعيين أمني على رأسها ، يُقدّم كأقرب المقربين من الرئيس ومن نجله ايضا ومن رجل الاعمال المثير للجدل كمال اللطيف ، ويتداول انه يقول في جلساته إن رئيسه المباشر الوحيد هو الباجي قائد السبسي.
الجنرال المجنون
رغم خطورة تصريحات لطفي ابراهم ، خاصة تلك المتعلقة بقرارات الاحالة على الاقامة الجبرية التي ضربت في العمق حرب يوسف الشاهد على الفساد ونفت عنها الترتيب المُحكم بما يعني استراتيجية واضحة ضبطت استنادا الى الترسانة القانونية والدستورية والى أدلة قاطعة ، لم تحرك رئاسة الحكومة ساكنا ولم ترد على اتهامات ابراهم القاتلة طبعا ان كان لها الحد الادنى من المصداقية .
لكن غياب الرد الرسمي لا يعني غياب أي تحرك من الحكومة. وفي هذا الصدد تشير مصادر قريبة من القصبة الى أن الوثيقة التي تم تسريبها من وزارة الخارجية والتي جاءت بعد يومين من ظهور ابراهم الاعلامي وكشفت ان الوزير المقال هو من طلب من سفير السعودية لقاء نظيره السعودي ، كانت بتدبير من القصبة.
طبعا لا يهمّ مأتى التسريب ، الأهمّ على الاطلاق مضمون الوثيقة التي كشفت مغالطة خطيرة من ابراهم ووضعت زيارته الى السعودية التي جاءت بطلب منه وليس في اطار زيارة روتينة لتوقيع اتفاقات سابقة منها تكفل السعودية بتشييد مستشفى لقوات الامن الوطني ، محل تساؤلات جديدة وجدية .
هذه المغالطة ضربت مصداقية ابراهم ، المتهم بدوره بطموحات سياسية تبقى خطيرة حتى وإن تمت زيارته الى السعودية في إطار أمني بحت وفي سياق التعاون في الحرب على الارهاب ، اذ تشير مصادر رفيعة المستوى الى ان ابراهم الذي وجد نفسه مزهوّا بتحقيقه سابقة في تونس بالظفر بمنصب الوزير دخل بسرعة في عالم ” كيف تتحول الى زعيم وطني ثم الى رئيس بشكل بديهي“؟
وانخرط ابراهم مسنودا بدعم جهوي وبعدد من ” الأدمينات” في رسم صورة رجل الدولة الذي قد يحوله الفراغ والنجاحات الامنية الى رئيس حتى قبل موفى 2019 ، وبات يُلقّب في صفحات فايسبوكية محسوبة عليه بـ“قلب الاسد” و“معا من اجل ترشيح ابراهم لانتخابات 2019 الرئاسية” ، وتزامن ذلك مع توتر علاقته برئيس الحكومة يوسف الشاهد.
وطيلة فترة اشرافه على الوزارة ، قُدّم ابراهم ايضا كخصم للنهضة و“قاهر الجرذان” ، في وقت لم تعرف فيه الوزارة اية قرارات اتخذها قد تعكس هذا التوجه بل يمكن القول ان العكس هو الذي حصل ، من ذلك تعيينه مصطفى بن عمر مدير عام الامن العمومي سابقا مستشارا بديوانه مكلفا بالتفاوض مع النقابات الامنية.
تعيين يعني الكثير ، فبن عمر المُحال على الدائرة الجنائية لقطب مكافحة الارهاب في علاقة بقضية اغتيال محمد ابراهم والمتهم بإخفاء وثيقة الاستخبارات الامريكية التي حذرت من امكانية استهداف الشهيد البراهمي ، من المحسوبين على النهضة والمقربين من النهضوي الامني الشهير فتحي البلدي ، وهو ايضا صاحب سابقة الحصول على ترقية بتوقيع من وزير الداخلية زمن الترويكا علي العريض حولته من مدير اقليم قرطاج الى مدير عام الامن العمومي بعد اسابيع قليلة من حادثة غزوة السفارة الامريكية .
ينضاف الى ذلك تعيينه صابر الخفيفي المدير السابق للسجون الذي أقيل ابان تعيين غازي الجريبي وزيرا للعدل ، في منصب مكلف بتسيير الادارة العامة للحدود بسلك الحرس رغم رفض الشاهد التعيين ، ولليوم تُسير هذه الادارة بالنيابة . ولمن لا يعرف مسار الخفيفي له ان يعود الى ما جدّ بالسجون خلال فترة الترويكا ، وما تمّ تداوله من وقوفه وراء اخراج سليم شيبوب من السجن وتمكينه من عقد لقاء على حافة الطريق في تجاوز خطير للقانون .
في الاخير من الممكن القول أن الحديث عن انقلاب خطط له ابراهم أو الشاهد أو النهضة مجانب للواقع ، وان التكالب الخطير على بسط النفوذ وأجندات رئاسية 2019 ادخلا البلاد في فوضى خطيرة ، مكنت لوبيات من التحكم في مفاصل الدولة والبحث عن رجالات لها هنا وهناك. فابراهم الذي يواجه اليوم تهما خطيرة كان وزيرا طموحا والشاهد الطموح بدوره رفض وجود من ينافسه الطموح ذاته، فيما دخلت النهضة على الخط وتمكنت من تعزيز موقعها في الحكم .
ونشير أيضا الى خطورة توظيف التعيينات والاقالات التي تمت في وزارة الداخلية ، وإلى خطورة صمت الوزير بالنيابة ، لاسيما أن جلّ هذه التعيينات جاء لسد الشغورات وان لا علاقة لها لا بالجنرال المجنون ولا بسيناريو تركي ، وتمّ الجزء الاكبر منها بقرارات من المديرين العامين ، فيما أُبعد كل من عيّنهم ابراهم في ديوانه وهم 7 يقال إن إعفاءهم من مهامهم لا يشكل ايّ مسّ من العمل الامني .