الشارع المغاربي – وليد أحمد الفرشيشي : يبدو أنّ “القصبة” لم تستفد بشيء من الحملة الاتصالية التي اعتمدتها لتعويمِ تصنيف بلادنا في القائمة السوداء للدول الأكثر عرضة لمخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، من طرفِ مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا “GAFI” ، ولا من الصفعات المتتالية التي وجهتها أهمّ مؤسسات التصنيف الدولي على غرار فيتش رايتنغ و بيثامب، ناهيك عن قضيّة البنك الفرنسي التونسي، هذا الملفّ الذي يمثّل تهديدا مباشرًا لا للتوازنات الماليّة للبلاد فقط وإنّما لسمعتها في الأسواق الدولية، ذلك أنّ كل المؤّشرات تشيرُ إلى أنّ ساكن القصبة والمسؤول الأوّل عن كلّ هذه الملفات، غيّر من أولوياتهِ بل واختزلها في أولويّة يتيمة هي إنقاذ رأسهِ الذي يطالبُ به كلاّ من الاتحاد العام التونسي للشغل وحركة نداء تونس.
ويوسف الشاهدِ اللاهثِ وراء استعادة شعبيّة افتراضيّة- يناقضها في واقعِ الأمر اتخاذ حكومتهِ أكثر القرارات «اللاشعبية » على غرار الترفيع في سعر الوقود في انتظار أن تشمل الزيادات بعض المنتجات الأساسية- لا يبدو أنّ في أجندته أيّ مكانٍ محجوز لملفاتٍ قد تنفجرُ في وجهِ حكومتهِ في أيّة لحظة، وعلى رأسها ملفّ تصنيف تونس في القائمة السوداء للدول الأكثر عرضة لمخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، والتي تشيرُ كلّ الدلائل، مدعومة بعدد من المصادر، إلى أنّ تونس قد لا تغادرها لا في المستقبل القريب أو المتوسّط البعيد.
تسريبات….أم أكاذيب… !
وبخصوص هذا الملفّ تحديدًا عمدت بعض المصادر المقرّبة من “القصبة”” إلى تسريب معلومة مفادها أنّ وفدًا من لجنة التحاليل الماليّة سيكونُ حاضرًا في اجتماعِ مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا “GAFI” ، بين يومي 25 و 29 من الشهر الجاري، وهي معلومة عارية من الصحّة تماما، ذلك أنّ الاجتماع المخصص لدراسة مدى التزام تونس بتطبيق تعهداتها، هو اجتماعٌ داخليّ لن يحضر فيه أيّ طرفٍ ممثلّ عن الجانبِ التونسي.
وكانت الزميلة “افريكان مانجار” قد أشارت إلى هذا، استنادًا إلى مصادرها، لافتة إلى أنّ الملف التونسي سيتضمّنُ التقدمّ الذي حققتهُ تونس تحديدًا في نقطة تأطير المهن ذات المخاطر، على غرار أسلاك المحاماة والخبراء المحاسبين وموظفي البنوك والمستشارين الجبائيين وغيرها. إلاّ أنّ أهمّ نقطتين طالبت بهما الـ “GAFI” لم يقع التعامل معهما بالجديّة المطلوبة بل لم تحققّ فيهما الحكومة أيّ تقدّم يذكر.
النقطة الأولى تتعلّق بمشروع قانون السجل الوطني للمؤسسات، المعروف بالسجل التجاري، المركون إلى الآن في أدراج مجلس نواب الشعب. فهذا الملفّ تحديدًا مدرج ضمن التوصيات التي تقدّمت بها مجموعة العمل المالي إلى تونس، خاصة أنّه يعتبرُ من أحد معايير الشفافيّة، ومع ذلك لم يحرّك نواب الشعب، تماما مثل الحكومة، ساكنًا رغم أنّه من النقاط الأساسية.
أمّا النقطة الثانية والأخطر فتتعلّق بمشروع القانون الأساسي المتعلّق بمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال الذي تتقاذفه «القصبة » ومجلس نواب الشعب ولجنة التحاليل الماليّة، بعد أن اختلف الثلاثي في «تعريف » مفاهيمه الرئيسية.
هذان الملفان الحارقان لا يبدو أنّ النواب ولا الحكومة ولا أجهزتها الماليّة على بيّنة من أنّ غياب الجدّية في التعامل معها لن تفضي سوى إلى تثبيت تونس في القائمة السوداء، هذه القائمة التي تسببت في إقالة الشاذلي العياري، محافظ البنك المركزي السابق، وقد تتسبّب في إقالة حكومة يوسف الشاهد نفسه، يوسف الشاهد الذي وعد في أواخر أفريل الماضي، في حملة اتصالية بلا طعم ولا رائحة، بأنّ أجهزته الحكومية ستنجحُ في مساعيها لإخراج تونس من القائمة السوداء.
تصنيفات خطيرة…وفوضى في الأفق… !
إلا أنّ بقاء تونس ضمن القائمة السوداء لا يشكّل لوحده الخطر المحدق بالبلاد، بل إنّ تداعيات هذه الوضعية لا تقلّ خطورة خاصة على مستوى التصنيف السيادي لتونس. وهنا تحديدا، لا تبشّ المؤشرات الواردة من وراء البحار بأيّ خير. ففي شهر ماي الماضي، تم تصنيف تونس من قبل أكبر بورصة للعملات الرقمية أو المشفّرة في كوريا الجنوبية (بيثامب)، ضمن قائمة 11 دولة تم منع التعامل مع مواطنيها، وفي نفس اليوم أبقت الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني “فيتش رايتنغ “، على الترقيم السيادي لتونس على مستوى العملة الصعبة على المدى الطويل عند «ب إيجابي » مع تغيير الآفاق من مستقرة إلى سلبية، بعد أقل من ستة أشهر على التصنيف الأول الذي شمل بلادنا في بداية السنة وإدراجها ضمن القائمة السوداء للملاذات الضريبية من قبل الاتحاد الأوروبي.
ومن التداعيات السلبيّة لمثل هذه التصنيفات صعوبة خروج تونس للاقتراض من الأسواق المالية العالمية هذه المرّة باعتبار أنها ستخرج هذه المرة دون ضمانات من أية دولة بعد أن استوفت كل فرص الضمانات مع موفى سنة 2017 ، ذلك أنّ آخر ضمان كان من الولايات المتحدة الأمريكية وقبله تحصلت تونس على قرضين من اليابان. ورغم اشتعال كلّ الأضواء الحمراء في وجه حكومة يوسف الشاهد، فإن التلكأ ظلّ البوصلة الوحيدة التي تقودُ هذه الحكومة، خاصة في ملفّ الإصلاحات الكبرى، وهو ملفّ لم يعد صندوق النقد الدولي يخفي نقدهُ اللاذع لطريقة التعاطي معهُ، وتحديدًا ملفّ البنوك العموميّة الثلاث، وأغلبها مشاريع قوانين لم يجد نواب الشعب الوقتَ لمناقشتها كما لم تجد الحكومة، المنشغل رئيسها بحربه المفتوحة ضدّ نجل الرئيس، الوقت أيضا لتحريكها.
وبما أنّ الفوضى غدت سيّدة الموقف، في ملفات تهمّ حاضر ومستقبل التونسيين، ثمّة ملفّ آخر لا يقلّ خطورة وهو ملف البنك الفرنسي التونسي، والذي تتعاملُ معهُ الحكومة وكأنّه سرّ من أسرار الأمن القومي. في هذه النقطة كشفت الزميلة «أفريكان ماندجار »، استنادًا إلى مصادر خارجيّة، أنّ يوسف الشاهد كوّن فريقا من خمسة محامين للدفاع عن الملفّ التونسي، مكون من فرحات الحرشاني، وزير العدل السابق ، وأحمد الورفليّ المستشار السابق للرئيس المؤقت محمد المنصف المرزوقي الذي خسر قضيّة التحكيم في هذا الملف إضافة إلى مكتب محاماة شهاب الغزواني. وملفّ هذا البنك تحديدًا، الذي طالب صندوق النقد الدولي من تونس توفير مبلغ 400 مليون دينار كقسط أول بعنوان غرامة ماليّة لتسوية وضعية المتضررين، وسط حديث عن غرامة جملية تقدّر بآلاف المليارات، تتكتّم عليه الحكومة ضاربة عرض الحائط بمفاهيم المصارحة والشفافية علمًا أنّ هذه المبالغ الخيالية سيدفعها الشعبُ التونسي في النهاية.
ماذا يفعل الشاهد…؟
وهنا يحقّ لنا أن نتساءل عن الطريقة التي باتت تعالجُ بها أولويات البلاد وأزماتها، بل ماذا يفعلُ الشاهدُ تحديدًا وحكومتهِ عاجزة عن تحقيق أيّ تقدّم على أيّ من هذه الجبهات المفتوحة؟ ذلك أنّه بات من الواضحِ أنّ حرب المواقع وصراع الأجنحة داخل السلطة ذهبت بعقل هذه الحكومة التي وسّعت من الشرخ بينها وبين الأطراف الدولية،
نتيجة عدم جدّيتها وتلكؤها في معالجة ملف الإصلاحات الكبرى ومشاريع القوانين التي تنام في أدراج المكاتب، مثلما رفعت من منسوب الاحتقان لدى الشعب التونسي بقراراتها التي أرهقت القدرة الشرائية للمواطن وعجزها عن كبح ارتفاع الأسعار وإدارة الملفات الساخنة في قطاعات متفجّرة، كقطاع الصحة على سبيل الذكر، ناهيك عن تغلغل الفساد في الوسط الحكومي نفسه.
وبهذا الأداء المهزوز على جميع الواجهات، الدولي منها والمحلّ، وأمام شبح الإفلاس الذي يخيّم على البلد، سيكونُ من قبيل المعجزة أن تنجَح هذه الحكومة في إكمال هذا «الصيّف » دون حرائق قد تمسكُ بتلابيبها وتذهبُ بالبلاد إلى سيناريو كابوسي، الله وحدهُ يعلمُ، تداعياتهُ على الجميع، حكاما ومحكومين.