الشارع المغاربي :
سيدي الرئيس:
بعد التحيّة اللائقة بمقامكم، اسمحوا لي بأن أتوجه إلى سيادتكم بالكلمات التالية:
في ربيع عام 2011، عندما كانت تونس تضطرب اضطراب البحر في العاصفة الهوجاء، تقلدتم منصب الوزير الأول فاستبشر بذلك كل التونسيين المخلصين لوطنهم وللنظام الجمهوري. وكنت أنا من بينهم. لذلك سارعت بنشر مقال في جريدة “الصباح” تحت عنوان:”الباجي قايد السبسي والعودة إلى الزمن البورقيبي”، وفيه نوّهت بخصالكم، وبوفائكم للنظام الجمهوري، وللمشروع الإصلاحي الحداثي الذي انبنى على أسسه. كما نوهت بدوركم في بناء الدولة التونسية، مُبديا تفاؤلي بأنكم قادرون على مساعدة بلادنا على تجنب المخاطر الجسيمة التي تهددها. وأظن أنكم كنتم في مستوى المسؤولية التاريخية التي أعادتكم إلى الواجهة، مُكذّبة مزاعم أولئك الذين شككوا في قدراتكم ونزاهتكم، وحاولوا تشويه سمعتكم باعتباركم تنتمون إلى ماض”أسود” ولّى وانتهى.
وفي ربيع عام 2012، كنت ضمن الحشد الجماهيري الهائل الذي جاء الى مدينة المنستير للإحتفاء بكم كقائد لحركة جديدة هدفها التصدي لأعداء تونس ومشروعها الحداثي. ورغم أني لم أنتمي إلى “نداء تونس” إلاّ أنني صوّتُ له في الانتخابات التشريعية والرئاسية والبلدية، إيمانا مني بأنه الحزب الوحيد في المشهد السياسي الموسوم بالفوضى والشعبوية والديماغوجية، القادر على أن يضمن لتونس الخلاص من الأزمات الخانقة التي تتخبط فيها، والتي لم يسبق لها مثيل في تاريخنا المعاصر…
ولكن أسمحوا لي سيدي الرئيس بأن أصارحكم بأن ثقتي فيكم بدأت تتزعزع انطلاقا من عام 2015. ويعود ذلك إلى أسباب عدة سوف أوضحها لكم…
-1: في الحوار الذي بثّتهقناة الحوار التونسي يوم الاثنين 24 سبتمبر من هذا العام أشرتهم أن حزب نداء تونس ليس الحزب الوحيد الذي يعيش التفتت والانقسام في صفوف قياداته ومناصريه. وتفسيركم هذا لأزمة الحزب الذي تشرفتم بتأسيسه، يذكرني بقصة طريفة جدا حدثت لوالدي رحمه الله. فقد نسجت له والدتي رحمها الله أيضا برنسا فاخرا ذهب به إلى العلا في يوم سوقها الأسبوعية.
وكان مُقرْفصا يشتري خضارا لما اختطف نشال برنسه وذاب في الزحام. وفي طريق العودة الى البيت، لم يكف أبي المعروف بالشهامة وعزة النفس عن اعداد جواب يقنع الوالدة، ويجنبه غضبها وسخريتها منه.
وبعد أن أفرغت الخرج من المشتريات، سألته والدتي :”أين البرنس؟” فردّ عليها قائلا :”البرانيس اليوم في السوق غدّي غدّي(أي البرانيس اليوم في سوق العلا ضاعت كلها وبرنسي ليس استثناء). وما أظن أن تبريركم للأزمة التي تعصف بنداء تونس كان مختلفا عن تبرير المرحوم والدي لسرقة برنسه في وضح النهار. فقد تملصتم من كل مسؤولية في ذلك. والحال أن جميع الدلائل تؤكد من دون أدنى شك أن ابنكم يتحمل الوزر الأكبر في تفتت هذا الحزب، وفقدانه لقاعدته الشعبية. واسمحوا لي سيدي الرئيس أدام الله عزكم وعمركم، أنأشير إلى البعض منة هذه الدلائل:
-أول ما فعله ابنكم البار حتى قبل أن يتسلم قيادة الحزب هو الذهاب إلى سيئ الذكر الرئيس التركي طيب رجب اردوغان للتصور معه، وكسب وده ورضاه. ولعله فعل ذلك بنصيحة خبيثة ومسمومة من حركة النهضة الإخوانية المعروفة بولائها المطلق للرئيس للتركي ليثير بذلك غضب وسخط كل أنصار نداء تونس.
وأنتم من خبرتم جيدا الفكر البورقيبي، تعلمونأن الأحزاب الوطنية الحقيقية لا يمكن بأي حال من من الأحوال أن تنهض وأن تتسع قاعدتها الشعبية بتأثير ودعم من أي قوة خارجية.
وعندما شرع بورقيبة الذي قلتم في أكثر من مرة أن جبته تتسع للجميع، في تأسيس الحزب الحر الدستوري، لم يستعن بأي قوة خارجية، بل راح يطوف في جميع أنحاء البلاد ليحظى في زمن قصير بالزعامة التي خوّلت له قيادة النضال الوطني ضد الاستعمار. وهذا ما لم يفعله ابنكم الذي ظن حال عودته من تركيا أنه بات الزعيم الذي باستطاعته أن يفعل ما يشاء وما يريد بحسب أهوائه، مفجرا بذلك صرعات ونزاعات وانشقاقات أضعفت حزب نداء تونس، وأفقدته قواعده الشعبية ليتذوق الهزيمة المرة في أول اختبار، أعني بذلك الانتخابات البلدية الأخيرة.
-والأمر الثاني الذي تتوجب الإشارة إليه هو أن ابنكم البار يفتقد إلى التجربة والخبرة والثقافة السياسية التي تخول له أن يكون قائدا لحزب في فترة عصيبة كثرت فيها المؤامرات والدسائس السياسية والخبيثة التي تستهدف أمن البلاد واستقرارها ونظامها الجمهوري. وأما أظن أن ابنكم البار عارف بمثل هذه المؤامرات الخطيرة.
وحتى وإن ساعدتموه على معرفتها وكشفها، فإنه سوف يعمل كل ما في وسعه لتجنب مواجهتها لأن ما يهمه في نهاية المطاف هو كرسي السلطة تماما مثلما هو حال كل زعماء الأحزاب الطفيلية التي فرختها “ثورة الحرية والكرامة”.
-2: في نفس الحوار المذكور أعلنتم بأن التوافق مع النهضة انتهى. ولكن يا سيادة الرئيس، ألا يكون هذا القرار متأخرا عن أوانه؟ فكما تعلمون، أنتم انتخبتم من قبل كل المعادين لحركة النهضة والمناهضين لمشروعها الرجعي.
كما تعلمون أن أنصار النهضة هبوا جميعا بعد صلاة العصر لمناصرة محمد المنصف المرزوقي، وحرمانكم من فوز ساحق. وعندما شرعتم في تأسيس نداء تونس، جندت حركة النهضة أنصارها بهدف افساد مشروعكم.
ولم يتردد زعيمها راشد الغنوشي في التصريح في حوار تلفزي أجري معه بأن حزب نداء تونس “أخطر من السلفيين الذين نعتهم ب”أبنائه”. ومع ذلك لم أكن من المحتجين في البداية على سياسة التوافق مع حركة النهضة معولا على خبرتكم ومهارتكم الديبلوماسية العالية لتجنب مزالقها الخطيرة.
ولكن شيئا فشيئا بدأت أشك في نجاعتهابعد أن تبين لي وللكثيرين من أنصاركم أن هذه السياسة مفيدة للنهضة أولا وأخيرا. وقد استغلها راشد الغنوشي ليبيح لنفسه التحرك داخل البلاد وخارجها وكأنه الحاكم الفعلي.
كما سمحت له هذه السياسة بتدبير مؤامرات خبيثة لإضعاف نداء تونس، وتفتيته، ولجعل التونسيين يعتقدون أنكم فاقدون للسلطة التي تسمح لكم بأبطال مثل تلك المؤامرات، وفضحها. ثم إنكم ظللتم تتصرفون مع حركة النهضة وكأنكم واثقون من أنها تغيرت فعليا، فاصلة الديني عن السياسي.
والحال أن الواقع أثبت ويثبت يوميا، بل في كل ساعة أنها لم تتغير ولن تتغير. وهي مصرة على التمسك بمشروعها الذي يستهدف ضرب المشروع الحداثي والتنويري التونسي، وترسيخ نمط اجتماعي ينسجم مع مخططاتها الشيطانية. ومن المؤكد أن هذه الحركة التي تعتمد الخطاب المزدوج للمراوغة والخداع والتنكر للعهود والوعود، سوف تنقلب على نفس الدستور الذي أعدته،والذي وصفه زعيمها راشد الغنوشي بأنه” أحسن دستور في العالم”، يوم تشعر أنها الأقوى، وأنها قادرة بالتالي على التحكم بقضبة من حديد في مصير البلاد والعباد.
-3: أشرتم في الحوار المذكور إلى أنه من الضروري الإسراع بتغيير بعض بنود الدستور الذي أعدته حركة النهضة وذيولها لكي يتخلص نظام الحكم من القيود التي تكبله راهنا، والتي أضرت بمصالح البلاد والعباد، وجعلت السلطات الثلاث، أي رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، ومجلس الشعب، عاجزين عن اتخاذ القرارات الحازمة واللازمة للخلاص من الأزمات الخانقة والمتعاقبة.
وأظن سيدي الرئيس أن بادرة تغيير الدستور كان بالإمكان أن تكون نافعة ومفيدة لو أنكم عرضتموها في السنة الأولى لرئاستكم. ففي ذلك الوقت كنتم تمتلكون قاعدة شعبية عريضة لن تتردد أبدا في الوقوف إلى جانبكم لفرضها على أرض الواقع. أما الآن فقد عصفت الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاقبت على بلادنا خلال السنوات الأربع الأخيرة بهذه القاعدة. لذلك سوف تستغل حركة النهضة وذيولها هذا الفراغ الرهيب لإبطال المبادرة المذكورة.
-4:تعلمون سيدي الرئيس أن ايمان التونسيين بأنكم قادرون على إعادة الإعتبار لهيبة الدولة ولمؤسساتها كان من بين العناصر التي ساهمت في فرض فوزكم في الانتخابات والدخول الى قصر قرطاج من الباب الواسع.
لكن كثيرا من الدلائل تشير إلى أنكم تخليتم في أكثر من مرة عن القيام بواجبكم للحفاظ على هيبة الدولة، تاركين الحبل على الغارب ليواصل المخربون ودعاة الفوضى عملهم من دون حسيب ولا رقيب، مستهترين بالأجهزة الأمنية، وسامحين لأنفسهم بالقيام بأعمال مضرة بالإقتصاد الوطني، وباستقرار البلاد وأمنها، وسامحة للفاسدين والمرتشين واللصوص بأن يمرحوا في السهل بحسب أهوائهم ورغباتهم ومصالحهم. وقد أصيب كثير من التونسيين بالدهشة لما أشرتم ذات مرة بأنكم تشعرون بالفخر والاعتزاز لأن عهدكم لم يشهد اطلاق رصاصة واحدة ضد متظاهرين او محتجين. والحال أن رصاص الإرهابيين، والمحرضين على الخراب والفوضى قتل في عهدكم عشرات من المدنيين والعسكريين ورجال الأمن. كما أنكم وعدتم بأن يتعهد الجيش بحماية المنشآت العامة. لكنكم سرعان ما تراجعتم عن تطبيق هذا القرار.
والآن يعيش الاقتصاد الوطني أزمات خانقة، كما أن الدولة باتت مهددة بالإفلاس بسبب ذلك.
ولعلكم تعتقدون سيدي الرئيس أن التراخي في تطبيق القوانين قد يعرقل المسار الديمقراطي. والحال أن كل التجارب الماضية والراهنة تدل بما لا يدعو للريبة والشك أن الديمقراطية لا بمكن أن تنجح وتترسخ في العقول وفي النفوس إلاّ في ظل دولة قوية، قادرة على أن تضمن الاستقرار والأمن لشعبها،وفيها تحترم القوانين للضرب على أيدي كل من يسوغون لأنفسهم تحديها والتلاعب بها.
وفي كتابه”جذور النظام السياسي”، أشار المفكر الأمريكي إلى أن الديمقراطية ليست عملية سهلة ضامنة لحدوث استقرار فوري في هذا البلد أو ذاك، وإنما هي عمليّة شديدة التعقيد،محفوفة بمخاطر جسيمة.وإذا ما كانت فاقدة للشروط الضامنة لنجاحها،فإنها سرعان ما تنطفئ وتفشل. وقد يؤدّي فشلها الى انهيار الدولة ومؤسساتها وبالتالي الى العنف،والى الفوضى العارمة التي لا يسلم منها لا أنصارها ولا المعادون لها!وهذا ما حدث في العديد من البلدان الافريقيّة،وفي بلدان ما يسمى ب”الربيع العربي”.
فقد سقطت الأنظمة التي كانت تعتبر “فاسدة”،و”معادية للديمقراطية ” ،غير أن الديمقراطية لم تتحقق فيها بصفة فورية ،بل ازدادت الاوضاع تعقيدا وفسادا عل جميع الاصعدة خاصة بعد ان استغلت الحركات الجهادية والتكفيرية الفراغ الهائل الناتج عن سقوط الانظمة الآنفة الذكر لكي تشرّع العنف والارهاب والجريمة في ابشع وافظع اشكالها. لذلك لا يمكن للديمقراطية أن تنشأ على أسس قويمة الاّ في ظلّ دولة مركزية قويّة،ومهابة الجانب،وقادرة على فرض احترام القوانين،وعلى تطبيقها على الجميع من جدون أيّ استثناء
– 5:سيدي الرئيس: التونسيون الذين صوتوا لكم يعلمون جيدا أنكم لعبتم أدوارا هامة في بناء الدولة الوطنية. ويعلمون أيضا أنكم ساهمتم في اخماد الكثير من الحرائق المدمرة خلال السنوات السبع الماضية. وما يبتغونه الآن هو أن تكونوا فاعلين في إيجاد حلول للقضايا الحارقة التي تشغلهم راهنا لكي يستعيدوا أملهم في مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم ولبلادهم. ورجائي ألا تخيّبوا أملهم لكي لا تخرجوا من الباب الضيق للتاريخ …
– وفي النهاية تقبلوا سيدي الرئيس فائق احترامي وتقديري !
صدر بأسبوعية الشارع المغاربي في عددها الصادر يوم الثلاثاء 2 أكتوبر 2018.