الشارع المغاربي : عندما يفتقد الحاكم إلى مظلّة الشرعية الانتخابية أو التاريخية المستندة إلى سيرة نضالية معروفة، ولمّا يفتقد مشروعية المنجز على الأرض ويراكم الفشل يعود على عقبيه ويمشي القهقرى حيث الماضي بسردياته التقليدية وشرعياته المتخيّلة ومنها بناء أصل في التاريخ ونقطة ارتكاز كالاحتماء بالعصبيات تحت مظلّة القرابات الدموية…هذا ما فعل الشاهد في ترحاله اللّهث خلف شرعيات ممكنة تسند كرسيّه الحالي في القصبة المستند أصلا على قائم واحد …قائم «النهضة » الوحيد !
«خالي حسيب عمار »…جملة نحتها يوسف الشاهد ورمى بها إلى الناس في الحوار «العجيب » الذي ظهر فيه مؤخرا على قناة تلفزية خاصّة، «حافظا » لما يشبه «الأناشيد المدرسية » أو كما اصطلحنا نحن «التوانسة » على تسميتها ب «المحفوظات »، ليتحوّل اللّقاء المنتظر مع رئيس الحكومة إلى إنشائية مملّة من «سؤال » وردّ جواب مرتّب و «محفوظ » عن ظهر قلب.
كانت «محفوظات » كالماء خالية من المذاقات والروائح والألوان، لم يرد «الحاكم » فيها إلّ أن يتحفنا ب «بيت طريف وغريب » شذّ عن رتابة الخطاب وجاء في شكل الإخبار عن الأصل العائلي لرئيس حكومتنا ومفاده أنّ المناضل الدستوري الحقوقي الراحل حسيب بن عمار رحمه الله هو خاله !
علاقات القرابة والدم مرّة أخرى…
يقول الشاعر العربي عبد اللّه بن معاوية:
لسنا وإن أحسابنا كرّمت
يوما على الأحساب نتّكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
اتّكل الشاهد على «الأحساب » في سعيه لنحت مشروعيته الشخصية واحتمى بمظلّة النسب من الأم matrilineal lineage بدل الفعل والبناء «هنا والآن « » مثل ما فعلوا » ! فعاد بنا إلى المربّعات البغيضة للقرابة والروابط الدموية كأنظمة تحكّمت في آليات السلطة والنفوذ لعقود من تاريخ تونس المعاصر. وهذا الاحتماء البغيض بالنسب العائلي في معارك سياسية لا يمكن أن يكون حجّة ودليلا على أنّ الخلف ندّ أو شبيه للسلف حتّى وإن جرت نفس الدماء في عروق الإثنين.
ولنا في التاريخ قرائن وعبر اختزلها المثل التونسي الشعبي في حكمة رائعة تقول أنّ النار لا تخلف إلّ الرّماد. إذ لا وجود مثلا لقاعدة بيولوجية تفيد أنّ الحداثي مثلا ستكون أعقابه بالضرورة تقدّمية، أو أنّ الإخواني سوف لن يكون أبناؤه إلاّ مثله في الإيديولوجيا ويقاسمونه المشارب والأفكار، أو أنّ الدستوري الوطني كحال الراحل حسيب بن عمار سيورّث «جيناته » الفكرية بالضرورة لابن أخته وبقيّة «الفاميليا .»
فحافظ ابن الرئيس بيولوجيا لم يورّثه أبوه «جيناته » السياسية من جهة القدرة والخبرة، وهذا الغنوشي الذي أشعّ برمزيته في صفوف مريديه «نورا » على زوج ابنته بوشلاكة فترجم هذا «الوهج » إلى فوز بحقيبة سيادية في حجم وزارة الخارجية رغم اختلاف الوزن والثقل السياسي والكاريزما بين الشيخ ونسيبه.
حامد القروي التجمّعي وسليل العائلة الدستورية الذي خدم نظام بن علي وابنه نجيب النهضوي هو الآخر حجّة في الشذوذ عن القاعدة البيولوجية التي
يوهمنا بها الشاهد من خلال إقناعنا أنّ شرط القرابة الدموية كافية للانتماء للعائلة الدستورية التقدّمية…الخ …الأمثلة في الحاضر الوطني كثيرة ولا يمكن حصرها. ويمكن العودة حتى إلى التاريخ الإنساني في كلّ الثقافات والحضارات للاستزادة في الإيضاح والتبيين عن هشاشة «مظلّة الخال » التي احتمى بها يوسف… سيرة الملوك والأباطرة دليل هي الأخرى على أنّ روابط الدم ليست مطيّة لتوريث الانتماء والنضال والإيمان بالقيم والقضايا، وحتى تاريخ الأنبياء والرسل شاهد على ذلك أيضا، ولنا في قصّة نوح عليه السّلام لمّا رفض ابنه كنعان الذي كفر برسالة أبيه ركوب السفينة ومات غرقا في الطوفان !
إنّ الحديث عن الروابط الدموية والقرابات العائلية مقرف في المخيال التونسي خاصّة عندما يأتيه السياسي أو الحاكم على شاكلة «خالي حسيب بن عمار » الشاهدية، هو حديث «ولاد حومة » لا أكثر ولا أقل كما يقال في أرباض تونس ومدنها ولا يرتقي حتى إلى مستوى البيّنة التي تحتاج إلى إفاضة أكثر في البيان، بل إلى بيت واحد من الشعر لابن الوردي من لاميته الشهيرة نعتقده كاف وزيادة لمّا نظّم وأنشد:
لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنّما أصل الفتى ما قد حصل
عن أسبوعية الشارع المغاربي عدد الثلاثاء 25 ديسمبر 2018