الشارع المغاربي – محمد بوعود : بنفس المصطلحات تقريبا، وبنفس تلك اللغة المتعالية، التي لا تميّز بين الغثّ والسمين، وبنفس منطق الفئوية التي تحتكر الطُّهر والتقوى والايمان والاخلاص في نفسها وفي مريديها فقط، واصل الغنوشي حملته التعبوية في الجنوب، معتمدا نفس الاسلوب في التحريض المبطن، ومقتربا حد الافصاح من النعرات الجهوية التي حاربت تونس عقودا طويلة من أجل تجاوزها والقفز عليها، ومن اجل خلق النموذج المواطني المتكامل.
بنفس عبارات حسن البنّا وسيد قطب، ونفس ترّهات المودودي والترابي، عاد “الشيخ راشد” ليتحدّث بلغة اعتقد البعض ان حركته تجاوزتها، وأنها قطعت معها منذ المؤتمر العاشر، على الاقل نظريا، ومن المفترض في رئيس الحركة أن يتجاوزها ايضا في خطابه.
لكن مشكلته الازلية لا تريد أن تمّحي، فعُقدته هي أنه يتكلّم لوسائل الاعلام وللرأي العام بلغة سياسية، تظهر نوعا من البراغماتية ونوعا من الادارك الواقعي لحقائق الامور، ولتطورات الساحة السياسية، وفهما لما يحيط بالحركة وبالمشهد السياسي التونسي، اقليميا ودوليا، ويظهر نوعا من العقلانية التي أحيانا يحسده عليها بعضهم، لكن عندما يجد نفسه في اجتماع حزبي أمام أنصاره، يتحول مباشرة الى خطاب “الفئة الناجية” والاغلبية الضاّلة.
ليست المرة الاولى التي يخطئ فيها الغنوشي، وليست المرة الأولى أيضا التي يقول فيها كلاما قد يندم عليه في ما بعد، ويرتمي مباشرة على مبررّ “أخرج من سياقه”، لكن بتكرر تلك الاخطاء يصبح الأمر مقصودا، ومعناه حرفيا أن الشيخ لا يجد من لغة لمخاطبة أنصاره الا لغة الدين والتقوى والفئة الناجية، وهو أمر خطير، ويدل دلالة قوية على ان الرجل الذي يلعب الادوار السياسية الاولى في البلاد منذ سنوات، لازال رهين التفسيرات الفئوية والخطاب التمييزي بين الحق والباطل والكفر والايمان و”المضمونين” وغير المضمونين من مواطني الدولة الواحدة والشعب الواحد.
في تطاوين قال الغنوشي كلاما لا يمكن أن يمرّ بلا تمحيص، بل لا يمكن ان يصدر عن رجل يعتبره الكثيرون الحاكم الفعلي للبلاد، بل لا يمكن أن يصدر حتى عن سياسي مبتدئ يخوض غمار الانتخابات لاول مرة.
ففي سياق حديثه عن مزايا أبناء الجهة قال الغنوشي انهم ليسوا في حاجة لحملة انتخابية باعتبار أن الجنوب مساند تقليدي للنهضة، وانه وقف معها في الاستحقاقات الفارطة ويقف معها منذ 89 مثلما قال، وهي للتذكير مقولة تستدعي الكثير من الايحاءات، وتتطلّب الكثير من “وسع البال” لفهمها ولتبرير ما قال الغنوشي. فما معنى أن جهة بأكملها من البلاد تقف مع حركة دون غيرها؟ فهل ذلك في رأيه يميّز اهاليها عن غيرهم من سكان الجهات التي لا تقف مع حركته، او تقف معها بنسب متفاوتة؟ هل يعني ذلك أنهم على حق وأنهم على هداية وصراط مستقيم وان البقية مشكوك في أمر ايمانهم وصلاحهم، ومشكوك في ولائهم وطاعتهم؟
معضلة الغنوشي أنه يقرأ الواقع وقد يكون يفهمه جيدا، لكنه عندما يجد نفسه وسط حشد من أنصاره المتحمسين، فانه يخطئ المرمى عادة، ويرمي الكلام على عواهنه، بل ويخرج عن السياق أحيانا كثيرة، ويرتكب أخطاء يندم عليها في ما بعد. ولسنا بحاجة بالتأكيد للتذكير بخطابه الشهير في الحمامات في ندوة لاطارات النهضة يوم سبت من الاسبات، حين “سُخُن” على موضوع “الشهيد خاشقجي” واعتبره أيقونة ثورة ربيع عربي جديدة ستندلع في الخليج، بل وقرأ على روحه الفاتحة وصلاة الغائب وشبّهه بالبوعزيزي، ليعود صباح الغد، ويوضّح انه لا يقصد، بل لا يكتفي بذلك ويُصدر بلاغا يقول فيه ان كلامه فُهم خطأ وان المسألة سعودية داخلية وان حركته لا تتدخل في شؤون الاخرين.
هذه هي الازدواجية عند الغنوشي بين خطاب موجّه للرأي العام ووسائل الاعلام يكون هادئا ورصينا وبين كلام موجه الى أنصاره عادة ما يلجأ فيه الى موروثه التنظيمي وخطابه الفئوي الذي يميز حركته عن غيرها من الحركات السياسية، ويميز أنصارها، أي بخطاب لا يبتعد في جوهره عن الشعار الذي رُفع في انتخابات أكتوبر 2011 “صوّتو للنهضة خاطر يخافو ربّي”.
قد يكون الشيخ راشد لازال مغتاظا مما جُوبه به في المكنين، ومن الشعار الذي رُفع في وجهه حال نزوله من سيارته الفارهة أمام مقرّ الحركة بالمدينة، لكن ذلك لا يبرر أن يجعل من خطابه تمييزيا بين جهة وأخرى، وبين سكان وغيرهم، وبين موالين ومعارضين.
فالسياسي الحقيقي يعرف جيدا أن بكل جهة من معه ومن ضدّه، وان في كل بيت آراء مختلفة واصطفافات وولاءات متنافرة، وأن التشابه الكُلّي في الولاء الاعمى لفكرة دون غيرها، لا يتوفّر الا لدى المنظومات “القطيعية” التي تتحوّز على كميات كبيرة من الفقر والجهل وعدم الادراك، يجعلها تصوّت آليا لطرف دون غيره، ودون أن تسأل عن انجازاته وعن برامجه، ودون أن تحاسبه عما فعل خلال سنوات حكمه، وتناقشه في ما ينوي انجازه، بل وتقسو عليه في استحقاق معيّن، وتنبذه، ثم تعود لتصوّت له وتحتضنه، وتلك هي أسس الديمقراطية السليمة، التي تجعل الانسان يمارس قناعاته وفق لما ينجز الاخر، وليس وفق مسلّمات وبديهيات، قد يكون الغنوشي بقراءته لها جهويا قد فهم المسألة خطأ، بل الأرجح أنه بات يعتبر الجنوب منطقة نفوذ أو ضيعة خاصة به وبأنصار حركته، وهذا ما كذّبته الوقائع مباشرة بعد خطاب تطاوين، حين انتقل إلى جارتها بن قردان، واستلم الملعب البلدي من رئيس بلدية المكان –ابن حركة النهضة- دون المرور بالإجراءات القانونية المعتادة في مثل هذه الحالات، واعتقد أنه سينجز خطابا جماهيريا ضخما وبحضور شعبي كبير، لكنه جوبه منذ صوله إلى باب الملعب بحركة احتجاجية عنيفة من أبناء الجهة، رفعت فيها شعارات من قبيل “يا غنوشي يا سفاح يا قتال الأرواح” وهو الشعار الذي بات يؤرق “الشيخ الرئيس” على ما يبدو ولم يجد له شعارا يقف ضدّه أو يغطّي عليه.
وهي حركة أثبتت للغنوشي أن سكان الجهة أعمق فهما وأكثر تنوعا وأوفر وعيا سياسيا ممن جاء ليخاطبهم بلغة متعالية، معتبرا اياهم “في جيبه” ولا يمكن ان يخرجوا عن طاعته، أو ينفضّوا من حول حركته، مهما أخطأت في تسيير شؤون الحكم، ومهما بدّلت من مواقفها وغيّرت من تحالفاتها، ومهما تلاعبت بالوعود التي أجزلتها على المنطقة والبلاد في استحقاقات سابقة.
الغنوشي في خطابه بتطاوين، لم يبتعد كثيرا عما قال رفيق دربه حمادي الجبالي ذات يوم في زيارة الى سيدي حسين السيجومي، حين قال “وينهي الحكومة” ناسيا أنه هو رئيس الحكومة، كذلك الغنوشي حين قال أن تطاوين تتوفر على أكبر مخزون نفط في البلاد ومع ذلك تعاني من سياسات التفقير والتهميش، ناسيا ان الحكومة الحالية هي حكومته، وانه هو من زكّاها ومن دعّمها ومن استعمل حق الفيتو على وزراء فيها وان وزيرا واحدا لم يعّين في تشكيلتها الا برضائه وموافقته.
وبالتالي فان أي حديث عن التهميش والتفقير لا يعدو ان يكون “مخاتلة” للناس وتلاعبا بعواطفهم، فعدم وجود الغنوشي نفسه على رأس الحكومة او الجمهورية، لا يعني ان حركته لا تحكم، ولا يعني أيضا أنه غير مسؤول بدرجة أقل أو أكثر قليلا عمّا يجري في جهة تطاوين وغيرها من تهميش وتفقير، وان البرامج المتخبّطة التي تعاني منها البلاد، ساهمت النهضة في كل حكوماتها من 2011 الى الان، دون ان تطرح بديلا واحدا يخرج هذه المناطق من أوضاعها.
لقد نسي الغنوشي وهو يخطب يوم السبت، ما وقع في غزة يوم الجمعة، غزة التي تُعتبر حاضنة طبيعية لحركة حماس، لكن أهلها انتفضوا عليها قبل ان يخطب الغنوشي بيوم واحد، وأعلنوا في وجهها انتفاضة جديدة شعارها “بدّنا نعيش”، فهلازال الغنوشي يعتبر بعض الجهات “حوزات” له ولحركته، أم يتّعظ مما يحدث لرفاقه في غزّة، ويبتعد قدر الامكان عن زيف الفئة الناجية والفئات الضالّة؟
صدر بالعدد الأخير من أسبوعية “الشارع المغاربي”.