الشارع المغاربي : تحدثت قبل أيام عن الفساد الثقافي في معرض الكتاب فانبرى مديره للدفاع مطالبا بإحالة الملف ووثائقه الى هيئة مكافحة الفساد فالتبليغ كما قال واجب وطني، والقانون يسري على الجميع. ويبدو أنه ذهب في إعتقاده أنني أتحدث عن لصوص المال بينما كنت أقصد لصوص الثقافة على وجه التحديد ، وفسرت الهوس بلجنة مكافحة الفساد بدلالته على حصر المشكلة في المال ، في حين أن فساد الثقافة في معرض تونس الدولي للكتاب وغيره أكبر وأشنع من سرقة الأموال ، وعلى أي حال فإن النظر في سرقات المال له أناس يختصون به ولا أزعم أنني واحد منهم ، ومن بين هؤلاء من بإمكانه تتبع اللصوص الذين عادة ما يخفون آثار جرمهم ويحرصون على تقديم حسابات مالية ناصعة البياض ، بينما جيوبهم وجيوب مريديهم وأصفيائهم مليئة بالمال ” الحرام ” ، وعندما يوجه اليهم إصبع الاتهام ينظر كبيرهم “الذي علمهم السحر” الى كل واحد منهم مطمئنا : لا تكترثوا بما يقولون فحساباتنا محكمة التنزيل.
ما لفت انتباهي أن مدير معرض الكتاب تكلم كما لو كان هو المؤسسة موضوع النقد بما يذكر بتلك الذهنية التي ترى في رئيس الدولة الدولة نفسها ( أنا الدولة والدولة أنا ، أنا معرض الكتاب ومعرض الكتاب أنا ) بينما السلطة لا يمكن حصرها في رئيس مؤسسة بعينه فهي مبثوثة هنا وهناك ، والفساد يمكن أن يكون موزعا بالعدل بين أفرادها ، من مكتب الموظف الصغير حتى كرسي المدير .
أنا اهتم بفساد الثقافة في ذلك المعرض كما ذكرت وملامحه مختصرة أولا في تلك الصورة التي تشهره حيث رجل جالس تحيط به امرأتان بملامح رومانية وفي طرف اللوحة رجل ” بشاشية ” لا يكاد يرى لفرط صغر حجمه ، وهو يقف مشدوها ، في تصرف على ما يبدو في فسيفساء رومانية تظهر الشاعر فرجيل ، بما يذكر بابن رشد في لوحة مدرسة أثينا للفنان الإيطالي رافائيل، المرسومة بين سنتي 1509 و1510 حيث يسترق فيلسوف قرطبة النظر الى ما يكتبه الآخرون ، في تلميح الى اتباعية العرب وانعدام الابداع لديهم !!! وباللوحة التي بيد الجالس خربشات بأحرف لاتينية ، وبغض النظر عن أية مواقف عنصرية ، يتساءل المرء عن علاقة ذلك بثقافة الشعب الذي ينظم المعرض بعرقه وماله ؟ ألم يكن من الأجدر استلال الصورة من الموروث التونسي والعربي الضارب في القدم ؟ هل في ذلك افساد للثقافة الوطنية واعتداء عليها ؟ أنا اجيب نعم .
ويتعزز هذا الاعتقاد ثانيا عندما نصغي الى الومضة الإشهارية للمعرض حيث العبث باللغة العربية واستبدالها بلهجة دارجة : ” اعملوا عولتكم من الكتاب ” و” حق ما تنساوش ” التي حتى على افتراض أن اللجوء اليها كان غرضه جلب اهتمام شرائح واسعة من الناس فإنها ليست لهجة كل التونسيين والتونسيات وانما لهجة “الحاضرة ” أما ” الأفاقيين ” فيبدو أن معرض الكتاب ليس معنيا بمخاطبتهم !!!
ثالثا ما الحكمة من توزيع جوائز مالية في بلد تطحنه أزمة اقتصادية ؟ أليس الأولى رصد تلك الأموال لأغراض ثقافية أخرى ، خاصة أنها تنضاف الى أموال تصرف على ملتقيات وندوات ثقافية لا يحضرها تقريبا أحد ، بينما بالإمكان تحويلها الى جهات مغبونة ثقافيا ، يهدد الارهاب التكفيري باستيطانها ،وهي في حاجة ماسة الى ثقافة عقلانية تنويرية .
يقول مدير المعرض إن تلك الجوائز تأتي تثمينا لما يقدمه المبدعون والباحثون والمترجمون للثّقافة الوطنيّة وتشجيعا على الابتكار والتّأليف. غير أن تعويد الكتاب على الجوائز فيه افساد لهم ، وهى عادة نشأت في بعض البلدان وكانت مضارها أكثر من منافعها ، خاصة من جهة توظيفها الايديولوجي والسياسي ، وهو ما تنبه اليه جون بول سارتر مثلا عندما رفض استلام جائزة نوبل للآداب رغم قيمتها المالية المغرية .
وفي البلاد العربية هناك تنافس الآن بين مراكز سياسية على إغداق جوائز وشراء مثقفين ويبدو أن معرض الكتاب على صغر حجمه المالي يلعب هذا الدور أيضا في تونس والنتيجة خلق أصفياء ولوبيات وولاءات وتفجير صراعات ، وازدحام مثقفين على الفتات وهذا خطير فالثقافة تتحول الى تجارة ، والفساد الثقافي يصبح نسخة طبق الأصل عن الفساد السياسي .
ثم من اختار أسماء تلك الجوائز ؟ وكيف التضحية بابي القاسم الشابي مثلا لصالح الصغير أولاد حمد على قيمته وعلو شأنه ؟ وهو صديق شخصي ، بما يسمح لي بالقول أنه لو بعث حيا لضرب هؤلاء على قفاهم واختار تسميتها بالشابي على تسميتها باسمه، وهذا ينطبق على أسماء الكثير من الجوائز الأخرى .
يقول مدير المعرض أن لجان تحكيم تضم مجموعة من النقاد والمبدعين والجامعيين هي من يتولى إسناد تلك الجوائز ، غير أنه لا يعرف عن تلك اللجان حتى كيف تشكلت ومن شكلها وما المقاييس المعتمدة في ذلك ؟ اللهم الا اذا كانت هناك بابوية ثقافية تعمل في السرية تتولى ذلك طبق بروتوكولات خفية !!
رابعا شاهدت وزير الثقافة خلال حفل افتتاح معرض الكتاب وهو يقسم كلمته الى قسمين واحد بالعربية والثاني بالفرنسية ، وإذا كان احترام كل اللغات مطلوبا وتعلمها قدر الطاقة مرغوبا فإنه من المعيب القاؤه في بلد لغته الرسمية العربية بعض خطابه بلسان فرنسي ، وأذكر أنه في فرنسا وخلال حكم فرانسوا ميتران صدر مرسوم يغرم كل من يصدر وثيقة رسمية فرنسية بغير لغة موليار وبالإمكان خلال مناسبات كهذه تكليف مترجمين ينقلون كلام هذا أو ذاك من المسؤولين الرسميين الى الضيوف الأجانب .
خامسا فتح المعرض للغرباء عن الكتاب أمر مشين حتى أنه تم الاحتفاء بكلب بدعوى بطولته في معركة عسكرية جرت في مدينة جلمة !!! وكان بالإمكان تكريم ذلك الكلب وأصحابه في مكان آخر ، إذ لا علاقة لذلك بالكتاب فالأمر أمني عسكري ولا صلة له بالثقافة ، وإذا تم الاصرار على ذلك ربما كان مفيدا دعوة جرحى العمليات الارهابية وأقارب الشهداء وتأثيث ندوة فكرية على شرفهم !! وعلى أي حال فإن ذلك يطرح أسئلة حول توظيف المعرض لغايات أخرى غير الغاية الثقافية.
سادسا : يقول مدير المعرض إن النجم الحقيقي فيه هو النقاشات وليس الأشخاص ، ولكن ما الفائدة من تلك النقاشات عندما تجري في غرف مغلقة ، بعيدا عن مسامع زوار المعرض وما أكثرهم ، يخاطب خلالها محاضرون غالبا كراسي فارغة ؟ ثم ما الحكمة من ربط تنظيم ندوة حول إشكالية الحرية الفردية في المجال العربي مثلا بحضور مفكر لبناني ، فعندما تعذر عليه المجئ لسبب عائلي كما قيل، ألغيت تلك الندوة بكل بساطة !!!
سابعا : تم تقديم المعرض على أن له غاية تتمثل في تنوير العقول ، وهو لا يخلو من ذلك فعلا ، غير أن لافتة إشهارية ضخمة، تستثمر الدين ، مروجة لتحجيب الفتيات القاصرات تقول العكس ، ولا يعرف ما إن كان لذلك علاقة بتأثير الاسلام السياسي الحاكم في تونس عليه.