الشارع المغاربي : المتابع الدقيق للشؤون الليبية يعلم أنه لم يكن لتونس أي دور محدد لمجريات الاحداث في هذا البلد. كل ما سُمي بمبادرات رئاسية تونسية لا يعدو أن يكون سوى اخراجات فرجوية للتسويق السياسي الداخلي ولاكساب الاستاذ الباجي قائد السبسي حضورا يريدونه وازنا في المشهد الليبي لكنه وهمي لا غير. وحتى التحركات العسكرية الميدانية الأخيرة بغاية إمداد الجهات المحاربة بالسلاح عن طريق الأراضي التونسية لم تكن بمبادرة سيادية تونسية وإنما بمبادرات خارجية كان لزاما على تونس المصادقة عليها والمشاركة فيها.
الوثيقة الوحيدة التي لا تزال تشكل المرجع السياسي المحوري لتحركات جميع الفصائل الليبية المتصارعة والمسماة ب “الاتفاق السياسي الليبي” صنعت سنة 2015 بمدينة الصخيرات المغربية وليس في تونس المرشحة مبدئيا قبل أي بلد آخر لاحتواء الأزمة الليبية باعتبارها قضية داخلية تونسية نظرا للتشابك متعدد الأبعاد بين مصالح البلدين. وكنّا كتونسيين نتابع بامتعاض وحسرة كيف سُلبت بلادنا من أية مبادرة جدية لصالح عواصم أخرى بعيدة عن “قلب الرحى”… وإن إستؤنس بموقف تونس في بعض الحالات فمن باب المجاملة والأخذ بالخاطر. صحيح أن لهذه العواصم طموحات بحجم امكاناتها المالية والعسكرية الهامة بل المهولة، إلا أنه يبقى لتونس مبدئيا دور استراتيجي وسياسي وأدبي لا يمكن أن ينازعها فيه أحد، وقد نُزع منها للأسف !
إقصاء تونس من دوائر التأثير الاقليمي والدولي في الملف الليبي مرده عدمية سياسة الباجي قائد السبسي. عند التمعن في المرتكزات المبدئية والديبلوماسية لهذه السياسة نكتشف أنها لم تكن سياسة بل كل شيء سوى سياسة! جملة من الاعتبارات النظرية صالحة لكل زمان ومكان أسقطت على المستنقع الليبي المتفجر من قبيل ما جاء على لسان وزير خارجية تونس في حديثه يوم 13 ماي لوكالة تونس افريقيا للانباء : “نحن نريد لليبيا البلد الشقيق أن ينعم بالأمن والأمان والاستقرار…
وندعو الليبيين لأن يضعوا مصلحة بلادهم فوق كل اعتبار”، نوع من ديبلوماسية السفسطة الجامعة بين نقيض ونقيض على منوال المنهجية السبسية بصفة عامة والمتسمة داخليا وخارجيا بالزئبقية وبالرخاوة التعبيرية الحامية من التورط في مواقف واضحة وجريئة قد تكون خاطئة أو مصيبة، ولعل ما ورد أيضا في حديث السيد الجهيناوي يعد أنموذجا مثاليا لهذه المنهجية. أسمعوا ووعوا : “إن عدم اتخاذ تونس موقف مع أو ضد طرف معين في الصراع الدائر بليبيا لا يعني أنها تقف في الصف المخالف!!!” تجي تفهم تدوخ…
ثمّ ما معنى التمسك بمبدإ عدم التدخل في الشأن الليبي والمأساة الليبية مأساة داخلية تونسية كما أسلفنا ؟ ليبيا هي فضاؤنا الحيوي وعمقنا
الاستراتيجي (lebensraum)، التدخل في هذا الشأن عمل طبيعي والعكس عبثي. “تونس ليست لها أجندة في ليبيا” قالها خميس الجهيناوي وأعادها الأستاذ الباجي قائد السبسي! عجبا! الجزائر والمغرب ومصر وايطاليا وفرنسا والامارات وقطر لها كلها أجندات وتونس تتبجح بأنها عديمة الاجندة، تنتظر جالسة على ربوة التاريخ مآل الصراع وإن دام قرنا، لعلها تحصد يوما ما ثمرات حيادها! فاتها فقط أن جلوسها على الربوة ستؤاخذ عليه مهما كان المنتصر في الحرب الأهلية، لا ذا ولا ذاك من الطرفين سيكون ممتنّا لتونس بغفلتها عن مناصرته…
ثم أي منطق للموقف الذي تحصنت فيه تونس ولا تزال تسوقه باستمرار ومفاده أن حلحلة الأزمة الليبية لن تكون إلا على أيادي الليبيين والحال أن الأزمة الليبية دُوّلت وبلغت أطرافها الجغراسياسية موسكو وواشنطن وبيكين! هل يوجد طرف ليبي واحد في حلّ من أي ارتباط استراتيجي أو عسكري أو مالي مع جهة دولية فاعلة؟ الأزمة الليبية أضحت أزمة دولية بامتياز تختزل في صلبها أهم الأغراض الجغراسياسية المتصارعة لأهم دول العالم رغم أنّ تونس السبسي والجهيناوي عبرت كم من مرة وبقوة عن معارضتها أي تدخّل في الشأن الليبي من أي طرف خارجي كان… وكلامك يا هذا في النافخات زمرا…
الحقيقة أن تونس ورئيسها وحكومتها ومواقفها ومبادراتها المزعومة لا أثر لها ولا وقع لها بالمرة في كل ما قرأت شخصيا طيلة متابعتي لتطورات الاحداث في هذا البلد. لا شيء… لا ذكرى لمبادرة الباجي سنة 2011 ولا لدعوة وزير خارجيته “للمجموعة الدولية في أن تسعى بصوت واحد لوضع حد للاقتتال داخل ليبيا” وحتى وإن صادف أن كُتب عن دور تونس فهامشي وبنوع من الاستصغار بين السطور…
فالملف الليبي كشف عجز الباجي قائد السبسي عن الارتقاء بالديبلوماسية التونسية الى المستوى الاستراتيجي والتاريخي، اكتفى لاخفاء رداءته بالهروب تحت غطاء مبادئ عامة تقربه من الحشمة وتبعده عن الحكمة. نتيجة هذه الرخاوة في اختيارات استراتيجية جريئة تناصر من هو أقرب إلينا حضاريا وأكثر نفعا لتونس بعد انتهاء الحرب الأهلية الليبية أن لا خليفة حفتر ولا خصومه يعيرون السلطة التونسية الحالية اهتماما خاصا بل ولا يكلفون أنفسهم حتى لياقة استشارة الجار التونسي مسبقا قبل تحركاتهم على المستوى الاقليمي أو الدولي. حفتر بالخصوص تفنّن كم من مرة في إهانة تونس خاصة عند زيارة الاربع ساعات التي أداها الى بلادنا تحت ضغط الجزائر، والجا القصر الرئاسي التونسي بسياراته المدرعة بعد أن أمطرنا سبابا وشتائم وبعد أن اعترف بكل صلافة بتسريح الارهابيين التونسيين على الحدود دون استشارة او تنسيق مسبق مع تونس… أربع ساعات لم تكلل بأي تغيير في معاداته تونس والتونسيين…
لنتصور بورقيبة على رأس الدولة والأزمة الليبية على هذه الدرجة من الاحتدام، هل كان يلتزم بمبدإ عدم التدخل أم يتدخل باستحقاق وعن جدارة في الصراع لأنه شعب ليبي تونسي وهل كان يقبل بأن يُنزع من تونس دورها الاستراتيجي المحوري لصالح طرف آخر وإن كان شقيقا؟ وهل كان لحفتر أن يستصغر تونس وبورقيبة رئيسها؟
مستحيل وكفى !