الشارع المغاربي – بقلم كوثر زنطور : انضاف يوم الخميس 27 جوان 2019 لسجل قائمة الألغاز الوطنية ، كحال يوم 14 جانفي2011 الذي لا يعرف أحد حتى اليوم ماذا حدث خلاله بشكل دقيق .الخميس “الاسود” او “المجنون” حسب التوصيفات المتعددة التي تُتناقل في الكواليس حبكت خلال ساعاته الطوال سيناريوهات عدة وتقاطعت فيها المصالح وتشابكت وايضا تنافرت ، اسبوع تقريبا بعده تختلف الروايات بخصوص ما جد من وقائع بين مقرات مؤسسات الدولة..وحده التاريخ سيكشف تفاصيلها والدور الحقيقي الذي لعبه الماسكون بالحكم والفاعلين الأهم في المشهد السياسي .
بين “دار السلام” مقر اقامة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ورئاسة الحكومة بالقصبة وقصر الرئاسة بقرطاج ومجلس نواب الشعب بباردو وباب بنات مقر وزارة الدفاع الوطني و”مونفلوري” أين يوجد المستشفى العسكري ، عاشت تونس يوما فارقا في أعقاب العهدة الخماسية ، ويمكن القول انه يوم غير مسبوق في تونس منذ أحداث الثورة ، بما تخلله من حالة غموض قصوى سادت المشهد والتداول الكبير للإشاعات عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي ، وما عقبه من حديث عن “ابطال” احبطوا انقلابا دستوريا او ” مسؤولين خونة” حاولوا الانقضاض على الحكم.
ومما زاد في الغموض المتواصل ، هو قطعا شبه انعدام المصداقية عن جل الفاعلين الرسميين وغياب مخاطب يحظى بثقة التونسيين له بالتالي القدرة على انهاء الجدل الدائر والمتعددة حول حقيقة الوضع الصحي لرئيس الجمهورية وحقيقة الترابط بين العمليات الارهابية الثلاث التي جدت يومها والوعكة التي حلت به ، وان كان تعرض فعلا لتسمم بما يعني محاولة اغتيال ووجود خائن في أهم مقر للسيادة الوطنية محمي من قبل رجالات الامن الرئاسي وصحة التخطيط للانقلاب ، ودور “جهات أجنبية” فيما حدث يومها ، ونشير هنا إلى انه رغم تعدد التصريحات التي جاءت على لسان أكثر من طرف أبرزهم طبعا حافظ قائد السبسي نجل الرئيس ورئيس حركة النهضة راشد الغنوشي لم تبادر الى حدود كتابة هذه الاسطر أية جهة بفتح تحقيق او اصدار توضيح بخصوص تصريحاتهما الخطيرة.
ماذا حصل يوم الخميس ؟
انطلق يوم الخميس باكرا جدا ولم ينته حتى اليوم ، هكذا تحدث اهم الوزراء في حكومة الشاهد عن آخر خميس في شهر جوان ، لافتا الى ان عملية قفصة الارهابية التي جدت في حدود الساعة الثالثة و30 دقيقة فجرا واستهدفت محطة الارسال بعرباطة المؤمّنة من قبل تشكيلات عسكرية دقت ناقوس الخطر وانها “كانت لتشتيت جهود القوات الامنية والعسكرية بخصوص العمليات الارهابية التي ستحدث بالعاصمة” .
انتحاريان فجرا يومها نفسيهما في مقرين لهما رمزية كبيرة وكادت ان تكون الحصيلة قاسية ، شارع “شارل ديغول” في قلب العاصمة تونس و مقر وحدة مكافحة الارهاب بالقرجاني ، لتكشف بعدها التحقيقات الاخطر والفظيع بعد عملية انزال في منزل بباب الجديد اكتُشفت فيها اخطر انواع المتفجرات التي كانت ستحدث كارثة وطنية ، لا قدر الله ، لو لم يتم التفطن اليها واحباط مخطط تخريبي كان سيهز العاصمة .
في خضم ذلك ، كانت المعطيات تُتناقل بتحفظ بين ثنايا الحكم حول تعكر جديد لصحة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي الذي غادر المستشفى العسكري منذ ايام قليلة بعد وعكة صحية ” خطيرة” ايضا مرت على الرئيس بسلام ، قبل ان يعيش من جديد على وقع وعكة ” شديدة الخطورة” استوجبت تدخلا طبيا في مقر اقامته وتعزيزا لطاقمه الطبي المتابع لوضعه الصحي بأطباء اخرين قبل ان يُتخذ قرار في تمام منتصف النهار بنقله على جناح السرعة إلى المستشفى العسكري.
المعطيات الثابتة ان الرئيس كان فاقدا تماما للوعي وفي شبه غيبوبة ، وصفها الدكتور الصحبي بن فرج بعبارة ” كان في شبه وفاة” ، قبل ان تعمم المعطيات حول وضعه باصدار رئاسة الجمهورية بيانا اعلنت فيه عن نقله إلى المستشفى العسكري بعد تعرضه لوعكة صحية “حادة” ، بعدها حل وزير الدفاع الوطني عبد الكريم الزبيدي بقصر قرطاج والتقى الاميرال كمال العكروت مستشار الامن القومي لرئيس الجمهورية ودخلتالبلاد في حالة ترقب شديد وحُبست الانفاس ، ليدخل مجلس نواب الشعب معادلة “الخميس المجنون” باجتماع استثنائي وطارئ وعاجل لتدارس تطورات الوضع في اشارة الى الوعكة الصحية لرئيس الجمهورية .
ولم يكن هناك حديث وقتها الا عن “اعلان عن شغور دائم أو وقتي” ، وطبعا بين هذا وذاك تقاطعت المصالح ، وانعدمت انسانية اصحاب حسابات الربح والخسارة ، لينتهي الجدل نسبيا بإسقاط اقتراح التداول في صحة الرئيس والتباحث في ترتيبات اعلان الشغور والجهة الدستورية المخول لها ذلك ، ويبدو ان هذا التوجه جاء بتدخل من المؤسسة العسكرية التي امسكت بزمام الامور واغلقت الباب امام أي انحراف غير اخلاقي قد يمس من مكانة الرئيس ومن هيبته وحتى من الانتقال الديمقراطي .
في الساعات الطوال ليوم الخميس برزت ستة اسماء ، يوسف الشاهد وعبد الكريم الزبيدي ومحمد الناصر وعبد الفتاح مورو وسفيان طوبال والصحبي بن فرج وحسب الروايات المتداولة يقال ان سفيان طوبال هو من أحبط مخطط حركة النهضة لعزل محمد الناصر وتنصيب عبد الفتاح مورو ووقتها غاب عن ذهن مروجي هذه البطولة القراءة الدستورية لتناقل السلطة في حالة الشغور الدائم والوقتي وظهر اسم الصحبي بن فرج كمشارك في هذا المخطط في دور “اسناد” للنهضة .
وراج انه تمت دعوة محمد الناصر للالتحاق بسرعة بمجلس نواب الشعب ، ولا يعرف حتى الان الطرف الذي طلب منه ذلك وان كان ، وهذا وارد، قد قام به ، لمفرده ودون تعليمات او طلبات من أي طرف كان ، وبرز اسم عبد الكريم الزبيدي بدور وطني من خلال تناقل رفضه أي حديث عن سد شغور وقتي او نقل رئيس الجمهورية لتلقي العلاج في الخارج ، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي أحبط من جهته مخطط لتحجيم دوره وافتكاك صلاحياته .
كل هذه الروايات غير دقيقة ، وتدخل في خانة ” التلاعب بالمعطيات” ومحاولات “التشويش” ، اذ ان مصادر رفيعة المستوى أكدت لـ “الشارع المغاربي” ان الطاقم الطبي العسكري بقيادة الجنرال الفرجاني نجح في انقاذ الرئيس ، وانه تم تحديد الاسباب التي ادت الى تعكر وُصف بالمفاجئ في حالته الصحية في حدود الساعة 14 من نفس اليوم وانها قد تعود الى “ضعف في المناعة” ناتج اولا ( الوعكة الصحية الاولى ) عن “تعفن معوي” حاد تسبب في ارتفاع كبير في درجات الحرارة (41) وانخفاض حاد في الضغط ( 5) وجفاف جسمه تقريبا من الماء.
واكدت مصادر موثوق فيها انه تم تحويل مقر اقامته بالقصر الى “مستشفى صغير” صباح يوم الخميس قبل قرار نقله إلى المستشفى وان”السكانار” أثبت تجمد دم على مستوى الدماغ وصعوبة كبيرة في تدفقه، وانه تمت الاستعانة بفريق طبي فرنسي لتحليل “التجمد ” ان كان ناتجا عن مضاعفات حالة التعفن المعوي التي تعرض لها سابقا فيما تتحدث اوساط من العائلة ، بل وأفراد منها منذ الوعكة الاولى عن فرضية “التسمم” وهناك منهم من شبه ما وقع للرئيس بما حدث للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
خطورة وضع رئيس الجمهورية ، أربكت الجميع ومن الصعب الجزم بوجود نوايا خفية لإبعادها عن الصورة عبر محاولة اغتيال ، اذ ان التطرق الى مثل هذه الفرضية الخطيرة تحيل للتساؤل عنالمستفيد منها ، بما جعل سياسيين على غرار الغنوشي يتحدث عن مخطط اجنبي يستهدف الانموذج التونسي مؤكدا في حوار على قناة حنبعل”انه لا يستبعد فرضية التخطيط للتخلص من الرئيس” .
ما حدث يوم الخميس ، هو ببساطة غياب التضامن بين مكونات السلطة ، بين مجموعة “رئيس الحكومة” ومجموعة ” رئيس الجمهورية و”مجموعة رئاسة البرلمان” ، ودخول وزراء على الخط قد يكون أبرزهم عبد الكريم الزبيدي واطارات رفيعة في الدولة من منطلق التخوف من أية “مغامرات ” مجنونة او حسابات قد تدخل البلاد في نفق مظلم من الصعب الخروج منها ، وما حدث يوم الخميس يعكس تزعزع الثقة بين الماسكين بالحكم وقلة تجربة واندفاع وحتى غباء سياسي لدى جزء من النواب الذي بات بعضهم يشكل خطرا حقيقيا .
الانقلاب.
مرة اخرى ، يطرح مخطط الانقلاب ، هذا ما تناقله اولا مدونون ونشطاء محسوبون على نواب بعينهم ، واكده صراحة سليم الرياحي ثم حافظ قائد السبسي الذي قال في حوار لموقع “الجزيرة نت” انه كانت هناك “محاولة للسطو على السلطة” ، فيما لم يستبعد رئيس حركة النهضة تعرض الرئيس لتسميم مشددا على ان “الرئيس ركيزة من ركائز الديمقراطية” مستندا في حديثه هذا الى ” معلومات ” قال انها غير دقيقة نافيا في المقابل وجود مخطط انقلاب .
تم تناقل هذه التصريحات بكل بساطة والقائد الاعلى للقوات المسلحة في المستشفى العسكري ، ودون أي تحرك رسمي للتقصي والتحقيق في ما حدث بالبرلمان وفي ” فرضية ” التسمم” وكأن من ينقل مثل هذه الاتهامات المزعزعة تناسى ان الامر يتعلق برئيس الجمهورية وان محاولة تسميمه تعني محاولة اغتيال وهو في محيطه وفي مقر اقامته وتحت حماية أمنية لا يشكك احد في جاهزيتها .
وبين روايات “الخميس” ، لا تزال سيناريوهات ما بعد غامضة ايضا ، الرواية الرسمية الصادرة عن الناطقة باسم الرئاسة سعيدة قراش تؤكد انه سيوقع على دعوة الناخبين بما ينهي الجدل حول تأجيل الانتخابات ، وتؤكد اوساط قريبة من الرئيس ايضا انه سيوقع يوم 4 جويلية على التمديد في حالة الطوارئ وان حالته تحسنت بشكل وصفته الجهات الرسمية بـ”الكبير” ورغم ذلك لا يزال الشك يلف ملف الوضع الصحي للرئيس ولن ينتهي الا بظهور علني .
وننتظر في الايام القادمة تفاصيل سيكشفها الرئيس قائد السبسي شخصيا ، وسيكون محمولا عليه الرد على الإشاعات التي تم تناقلها حول وفاته وتسممه والادوار الخفية التي لُعبت يومها خاصة الدافعين للإعلان عن الشغور الوقتي ، سنترقب ان كان الرئيس سيدعو لفتح تحقيق في خصوص ما حدث ، الا ان الثابت ان ما قبل 27 جوان لن يكون مشابها لما بعده وان العائلة الممثلة اليوم في الثنائي “خليل وحافظ” ستزيد من الامساك بزمام الامور في القصر بعد ان اهتزت ثقتها بمقادير متفاوتة في كل محيطه السياسي ، وعلى ضوء تطورات جديدة يفسرها “مصائب قوم عند قوم فوائد” بعودة التحالف بين “يوسف وحافظ” اللذين التقيا الرئيس يوم الاحد سويا ، وايضا عودة التحالف مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم الثلاثاء 2 جويلية 2019.