الشارع المغاربي-نادر الحمّامي : لا يمكن اعتبار علاقة المثقف بالمسألة السياسيّة عموما موضوعا طريفا فمثل ذلك الاعتبار هو محض ادّعاء، إذ أنّ معالجته من زوايا مختلفة كانت محلّ نظر العديد من الدراسات المهمّة التي غدت مرجعا. بل إنّ القضيّة غدت منذ زمن طويل الآن مجالا واسعا للنقاش إلى الحدّ الذي أصبح من الممكن الحديث عن تيّارات تنظّر لوجوه العلاقة الممكنة أو الضروريّة بين المثقّف والسياسي، وبين الثقافة والسياسة تنظيرا وممارسة. وبقطع النظر عن تقييم المواقف السياسيّة التي اتّخذها المثقفون والمفكّرون الكبار في التاريخ الحديث والمعاصر فإنّنا لا نعدم الأمثلة الساطعة على ما أصبح من علامات ارتباط المثقف بالشأن السياسي.
ويكفي في هذا السياق استحضار مقال إيميل زولا الشهير بعبارة “إنّي أتّهم” المنشور سنة 1898 متوجّها به إلى الرئيس الفرنسي آنذاك فيليكس فور دفاعا عن الضابط دريفوس ليختم مقاله بالجملة التالية معلّلا دفاعه عن الضابط واتّهام المسؤولين: ” ليس لي من دافع إلى ذلك إلاّ الحقيقة الجليّة باسم الإنسانية التي عانت كثيراً وهي بالسعادة أحقّ. إنّ احتجاجي المتحمّس ليس إلاّ صدى لصرخة روحي”. قد تبدو مثل هذه الصرخة مثالية وطوباويّة في بعض وجوهها ولكنّها تعبّر في كلّ الأحوال عن مهمّة ما على المثقّف الاضطلاع بها دون أن يكون بالضرورة مثقّفا بالمعنى التقليدي المتعارف عليه أي الأكاديمي والمفكّر والباحث وإنّما بالمعنى الأخلاقي الواسع، ونقول ذلك حتّى نصل إلى مستوى التعميم الذي طرحه غرامشي مفهوميّا والذي يلحّ على أنّ كلّ شخص مثقّف ولكن الموافقة على تدقيقه المهمّ والذي يتلخّص في أنّ اعتبار كلّ شخص مثقفا لا يعني أنّ لكلّ شخص وظيفة المثقّف فتغدو الوظيفة أهمّ في التحديد من المفهوم ذاته.
إنّ مسألة الوظيفة أو الدور إذن على غاية من الأهميّة، ونقدّر أنّها وجّهت آراء يجدر الانتباه إليها فقد تحدّث غرامشي، كما هو معروف، عن المثقّف العضوي المنخرط في الواقع وفي هموم المجتمع، وغير بعيد عن ذلك ومن المنظور الماركسي نفسه دعا بول نازان في كتابه “كلاب الحراسة” المثقّفين إلى الكفّ عن “الاستقالة” والانشغال بالتنظير والقضايا التي لا ترتبط ارتباطا مباشرا بالواقع ليفصّلوا القول بدلا من ذلك في القضايا المتعلّقة باليومي والمعيش وبالمشاكل التي يواجهها البشر في حياتهم. ولكن على نقيض مثل هذا التصوّر فإنّ كتاب “خيانة المثقّفين” لجوليان بيندا الذي صدر سنة 1927، يقدّم وظيفة مختلفة على المثقّف الاضطلاع بها ليعود بها إلى ضرب من المثاليّة تلحّ على “نخبويّة الثقافة” وتعاليها واعتبار المثقفين “ضمير الإنسانيّة”.
وسواء كان الأمر مرتبطا بالتصوّر الأوّل أو بالتصوّر الثاني فإنّه لا يخلو من قضيّة الالتزام التي اشتدّ عودها مع مجلّة “الأزمنة الحديثة” مع جون بول سارتر في بداية الأربعينات من القرن العشرين، بكلّ ما يحمل معنى الالتزام هنا من الوعي العميق بضرورة الانخراط بشكل أو آخر في العمل السياسي دون أن يعني ذلك تحوّل المثقّف إلى سياسيّ، ولكن دون التخلّي عن المسؤوليّة السياسيّة بدعوى تعالي الفكر عن السياسة. ونقدّر أنّ هذا يمكن أن يكون جوهر ما ذهب إليه إدوارد سعيد لاحقا في تعرّضه لعلاقة المثقّف بالسياسي.
ليس ما كتبت هنا سوى بعض ما يجول في خاطري أحيانا حول علاقة المثقّف بالسياسة في خضمّ استعداد تونس لخوض انتخابات رئاسيّة مبكّرة ولكن هذا الذي يأتي إلى خاطري سرعان ما يذهب سدى وأقابله بابتسامة ساخرة ومتألّمة وأنا أتابع المواقف والاختيارات الصادرة عن المثقّفين وهم في العموم الغالب غير متحزّبين أو منضبطين إلى تيّار سياسي بعينه ولكن مواقفهم تحدّدها اعتبارات مختلفة تبعث على الحيرة في وضع سياسي هو بدوره حائر وغامض.
إنّ ما يمكن ملاحظته أنّ المحدّد الأبرز لدى الكثير من المثقفين وأمام قائمة المترشّحين وكذلك ما علق في الأذهان من سياسات العقد الأخير والفاعلين السياسيّين فيه هو شعار “تجنّب الأسوأ بانتخاب الأقلّ سوء” وهذا الأمر جعل التفكير في أمر الانتخابات الرئاسيّة يشبه لعبة الرهان في سباق خيول أو كرة القدم فليس من الضروري على المراهن أن يكون مقتنعا بمتسابق ما أو محبّا له حتّى يتصوّر فوزه وينتصب مدافعا عنه حتّى يفوز لا حبّا فيه وإنّما بحثا عمّا يجنّبه الخسارة. فيبدأ البحث في نسبة حظوظ فوز الأقلّ سوء للمراهنة عليه. وطبعا الأقلّ سوء يختلف من مثقّف إلى آخر رغم أنّ الوظيفة التي سيلعبها “الرئيس المرتقب” تكاد تتشابه لدى عموم المثقّفين والتي يمكن اختزالها في مقولات عدم التحالف مع القوى الرجعيّة أو مقاومتها وهذا الاعتبار له المقام الأوّل ليأتي بعده مشغل الحفاظ على مفهوم الدولة وتطبيق القانون، وثالثا، وبنسبة أقل بكثير للأسف، دعم الحريّات والحقوق.
غير أنّ اللافت للانتباه أنّ هذا التشابه في الانتظارات لم يمنع الاختلاف في تحديد الأسماء المترشّحة للرئاسيّات ليس بحكم عدم وجود اسم أو اسمين تجتمع فيه أو فيهما تلك الانتظارات بل بحكم ما أشرنا إليه من حسابات تقترب من الرهان في لعبة ما، وبالخصوص لأنّ المثقّفين بقوا في إطار الانفعال وردود الأفعال وحبيسي تفكير سلبيّ في المسألة الانتخابيّة ولم يقدروا إلى الآن على أن يكونوا في موقع توجيه الرأي العام لا أن يكونوا تابعين له ومستسلمين له بشكل أو بآخر.
كثيرا ما أتساءل: لماذا لا يفكّر المثقّفون بطريقة أخرى؟ لماذا عوض التفكير في ابعاد الشعبويين والرجعيين وغيرهم ممّن لهم في هذا البلد “مآرب أخرى” غير مستقبل أبنائه أن يقفوا وراء من صدقه واحترامه واضحان؟ لماذا لا يقف المثقّفون موقفا أخلاقيا عوض التفكير ببراغماتية قد تكون زائفة؟ لماذا لا يتمّ الوعي بأنّ الأخطار قائمة في كل الأحوال ولذلك فإنّ الأفضل هو ركوب خطر أخلاقيّ على الأقل؟ لماذا لا يتمّ دعم من يرونه مؤهّلا لتحقيق ما يعلنون من قيم في ما يكتبون وينشرون على صفحاتهم “الفايسبوكيّة” عوض الاستكانة إلى “الأقلّ سوء” بناء على تخمينات مبنيّة على أسس واهية؟ أليس هذا انتقالا من الانفعال إلى الفعل، ومن سلبيّة لعن الظلام إلى إيقاد شمعة؟ أليس هذا ضربا من ضروب تحقيق ما على المثقّف الاضطلاع به من مسؤوليّة في قيادة الرأي عوض مجاراته؟
قد تبدو مثل هذه الأسئلة للبعض المعبّرة عن موقف ودعوة في الآن نفسه نوعا من المثاليّة في وقت لا يحتمل مثل هذا التفكير، وقت يطغى عليه الشكّ والريبة في كلّ شيء ومن أيّ شيء وفي أيّ أحد، ووقت تكبر فيه المخاوف والظنون، ووقت متكتّم شديد التكتّم عمّا بعده فنرتعد من المجهول. ولكن كلّ ذلك قائم في كلّ الأحوال فلا مجال إذن لعدم تحمّل المسؤوليّة عبر القيام بالواجب الذي ينبغي القيام به. هنا أستحضر حكمة بثّها منذ زمن أستاذنا صلاح الدين الشريف وأجدني مجبرا على أن أختم بها قولي: “تونس لا تبنيها الضباع اللئيمة، ولا الذئاب الجشعة، ولا الكلاب النابحة، ولا الثعالب الخبيثة، ولا الأفاعي اللادغة. تونس لا تُبنى في المقاهي ولا في الشوارع ولا في التلفزة والإذاعة ولا على صفحات الجرائد ولا في فايسبوك. تونس لا تُبنى في المساجد ولا تُبنى في الحانات. تونس لا تُبنى بالكلام، ولا بكلام على الكلام. تونس لا تُبنى بالشعارات، ولا بتتبّع الزلاّت والأخطاء ولا بالبحث في النوايا الصادقة ولا الخبيثة. كن حيث أنت كما ينبغي أن تكون، لا أكثر، ولا أقلّ”.
صدر في أسبوعية “الشارع المغاربي” بعددها 181 بتاريخ 10 سبتمبر 2019.