الشارع المغاربي: في البدْء، عليْنا أن نَنْحنيَ إجْلالا لإرادة الناخب التونسي، ونهنّئ قيس سعيّد برئاسة الجمهورية. نعتقد أنّ هذا واجب كلّ من يؤمن حقيقةً بالديمقراطية وبمبدإ التداول السلمي على السلطة . ثمّة واقع جديد بدأ يترسّخ ونرجو أن يتكرّس ولا يندثر، يتمثل في شعور جماعي لدى جزء لا بأس به من التونسيين بأنّ تغيير نظام الحكم يتمّ عبر الصندوق، ومن هنا يمكن أن نفهم الإقبال الكثيف على التصويت ومظاهر الابتهاج التي نعتقد أنّه في جانبٍ كبيرٍ منْه عفوي .
هناك رغبة حقيقية في إنهاء حكم منظومة تربّعت على عشرية كاملة ولم تتمكّن تحقيق الأماني بل ازداد الوضع سوءا . صحيحٌ أنّ الرغبة في العقاب كانت متفاوتة، لكن الرسالة كانت واضحة يوم 13 أكتوبر، لأنّ قيس سعيّد جسّد وبجدارة “النقيض” لكلّ هؤلاء دون استثناء، فقد رأى فيه كلّ من صوّت له رمزا للحِلْم والعِلْم والتواضع والتعفّف عن إغْرَاءَات السلطة والمال، وترجّى من خلاله أن يتمكّن من القطْع مع عشْرية مخيّبة للآمال ومُنْهكة للأحلام، توترت أعْصابه كثيرا منها جرّاء التجاذبات العبثية، ولا يمكن فهم كيفية التقاء هذا الجمْع من التونسيين باختلاف مشاربهم للتصويت إلى قيس سعيّد إلاّ من زاوية أنّ كلّ طرف وجد فيه جزءًا ممّا يبحث عنه، سيّان إن كان “حداثيا” أو “محافظا”، وخاصّة أيضا لأنّ المنافس الثاني لم يكن مرغوبا فيه لديهم.
لكن، هل يعني ما تقدّم أنّنا غيّرنا رأينا في الرئيس القادم لتونس؟ بداهةً لا ! لأنّه علينا أن نميّز بين الفعل الذي تجرّنا إليه العاطفة وما يُمْليه علينا عقلنا .فالدول لا تُساس بالعواطف والانطباعات ! وهل يعني ما تقدّم أيضا أنّ الشعوب لا يمكنها أن تخطئ في التقدير والتقييم؟ بداهةً نعم! ولنا في التاريخ مواعظ وعبر!
ثمّة تساؤلات حارقة تَخِزُنَا منذ بروز “ظاهرة” قيس سعيّد هذه الأيّام سَنَسْرد بعضها:
– هل علينا أن نصدّق فعلا أنّه لا تقف وراء قيس سعيّد أيّة قوّة خفيّة كانت أو مرئية؟ قد يكون الأمر كذلك! لكن علينا وقتها أن نعتبر هذا “التجييش” و”الحشد” الظاهر منه والخفيّ والذي وصل أحيانا إلى حدّ الهرسلة وكأنّه لم يكن أصْلا!
– هل علينا أن نُؤمن فعلا بان فكرة قيس سعيّد التي تنصّ على قلْب هَرَم الحكم ممكنة التجسيم وليست طُوبَاوية ومستحيلة التنفيذ مثلما نعتقد فعلا ؟ وهل يكفي أن نردّد شعار “الشعب يريد” حتى تنْفتح أبواب الاستحالة ؟
– وهل علينا ألا نعتبر أنّه لو قُيّض لقيس سعيّد أن يتجاوز كلّ العراقيل أمامه، فإنّ هذه الفكرة هي المُنطلق لإنهاء الدولة المركزية والإجهاز عليها وإحْلال “النوْمدة” محلّها أي نهاية وطن اسمه تونس ؟ ومن هنا قد نفهم لماذا التفّ حولها كلّ من يُنْكر دولة الاستقلال وكلّ من لا يؤمن بالدولة المركزية ؟!
والأهمّ من كلّ ذلك، هل سيكون الرئيس قيس سعيّد قادرا على اقناع البرلمان الحالي بفكرته ؟ أم أنّه سيكتفي بترديد عبارات جميلة ومنمّقة بلغة عربية قَحَّةٍ لتبرير عجزه عن تجسيم فكرته وبتحميل خاصّة المسؤولية لغيره؟ وعلى حركة النهضة أن تحكم فعلا هذه المرّة وتبتعد عن البقاء ظاهريا وراء الستار، لكن هل ستتمكّن من أن تشكّل حكومة نواتها صلبة وتنقذ من خلالها الدولة من شبح الإفلاس الحتمي والانهيار الاقتصادي وتداعياته الكارثية ؟ أم انها ستبحث عن “تيّاس” آخر تختبئ وراءه مثلما فعلت في السنوات الماضيةن تلصق به لاحقا مسؤولية “النكبة” ؟ وهل أنّ هذا البرلمان المتشظّي سيكون قادرا على القيام بما تملي عليه واجبات عُهْدته؟ أم سنشهد سِجَالات أشدّ وأنْكى ؟ وهل أنّ الوضعية الاقتصادية الحرجة جدّا التي تعيشها تونس ستحتمل كلّ هذا الشدّ والجذب ؟ وهل أنّ فرضية القيام بانتخابات سابقة لأوانها في حال تعذّر تشكيل حكومة ممكنة أم لا ؟ خاصّة في ظلّ عجز التونسي الذي طارت عنه “سَكْرَة” الانتخابات، عن الانتظار أكثر إذا انهار الاقتصاد لا قدّر الله أو عجزت الدولة عن دفع رواتب موظفيها ؟
في الأثناء، نسينا أن نتحدّث عن تربّص السلفيين التكفيريين واعتبارهم هذه اللحظة مناسبة ليجسّموا ما يحلمون به، ونسينا خصوصا أن نرفع مُخلصين صَادقين شعار “وِينُو البترول”، “وِينُو الملح”…لأنّ ساعة الحقيقة قد دُقت فعْلا الآن في هذه النقطة بالذات! دُون أن ننْسى أخيرا ترْديد قولة الوطني حمّودة الطاهري:” أرْجو لتونس رُحْمَانًا رَحِيمًا”!
افتتاحية اسبوعية “الشارع المغاربي ” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 اكتوبر 2019