الشارع المغاربي: الفرْق بَيّنٌ بيْنَ من ضحّى من أجل البناء، وبيْن من “ضحّى” بغاية الهدم.
والفرق شاسع بين أصحاب العقول الممتلئة وبين أصحاب العقول الفارغة إلاّ من رحم ربّي.
الأُوَل يعملون في صمْت والأُخَر يتصايحون أيُّهم أكثر صَخَبًا وضَجِيجًا. ثمّة رجال فتحوا أعينهم على الدنيا، فوجدوا أمّتهم تُسَام من الذلّ والهوان ألْوانًا وألْوَانًا، رأوْا بأُمّ أعْينهم الراية الوطنية تُدنّس في “حضْرة” راية أجنبية، بل ويُمنع على التونسي حمل علَمه الوطني أو تعليقه إلاّ إذا ما كان ملازما له علم الأجنبي المغتصب للأرض وخيراتها والمستنزف لأهلها والذي يذوقهم من الميْز ما عنّ له ذلك ولا يتردّد في التنكيل بهم.
هؤلاء الرجال نَذَرُوا أنفسهم لشعبهم من أجل تحرير وطنهم وأهلهم الذين لم يكفهم ذلّ الاستعمار فكانوا يتخبّطون أيضا في دياجير الجهل والتناطح العروشي والمناطقي..الخ، عمل هؤلاء الرجال ما في وسعهم وضحّوا بما لديهم حتى يَعِيَ شعبهم بالقاعِ الذي هو فيه، ويدفعونه كي يؤمن بأنّه قادر على تغيير وضْعه، حَلُم هؤلاء الرجال بأنّهم سيخلّصون بلدهم تونس وشعبهم من الاستعمار ومن براثن الجهل والتخلّف، لم يكن لديهم أيّ سلاح إلاّ سلاح الإيمان بعدالة قضيّتهم والإيمان بتجسيم حلمهم في التحرير والبناء.
شعر شعبهم آنذاك أنّهم كانوا صادقين، جرّبهم أكثر من مرّة فلم يغدروا به أو خانوه أو اغترّوا بإغراءات المحتلّ الأجنبي، لذلك، حصل الالتحام بين هؤلاء الرجال وبين شعبهم منذ جانفي 1952، فكانت “المعجزة” التونسية التي يجهلها جماعة اليوم: أن يصمد شعب صغير العدد أمام آلة البطش الاستعماري لمدّة 32 شهرا دون انقطاع، لم تثنه كلّ الاعتداءات والانتهاكات في عرْضه ولحمه وأرضه عن مواصلة المقاومة بشتى السبل، بل وكان يردّ الصاع صاعيْن على كلّ جريمة استعمارية إلى آخر جويلية 1954، فهذا دليل أنّ الحلم أصبح جماعيا، بل أصبح تونسيا، وهنا تكمن “المَلْحَمة” التونسية المنسية..
رجالٌ تمرّسوا بالعمل الميداني وفهموا شعبهم وما يريده حقيقةً وليس شعارًا، واستوعبوا ما معنى أن يكون السياسي في خدمة شعبه حقيقةً لا في خدمة مصالحه الآنية أو مصالح حزب ما أو طبقة ما، رجالٌ كانوا ممتلئين في أذهانهم بفضل قراءاتهم الواسعة والمتعدّدة، رجالٌ كانوا صادقين في حمْل هموم شعبهم، حَلِمُوا فتمكّنوا من تمرير حِلْمهم إلى شعبهم فتمّ تحرير الوطن وانكبّ الكلّ تقريبا من أجل البناء دون كَلَلٍ أو مَلَلٍ.
كانت الغاية لدى هذا الجيل من التونسيين منذ أواسط الخمسينات من القرن العشرين هي كيفية بناء الكيان التونسي الأصيل، فكان لهم ذلك، وشواهد هذا البناء ما زالت قائمة إلى اليوم تدلّل على هذا الجهد الاستثنائي التونسي الذي لم يكن يعرف للمستحيل معنى، بالرغم من إعمال معاول الهدم والتخريب فيه منذ..2011.
معاولٌ شملت البناء والعباد، فكانت الشيطنة وكانت الدعوات بالويل والثبور وكانت صيحات الخمسين سنة من الخراب والتهميش، صيحات باطل أُريد بها الباطل وتنمّ عن جهْل مُطلقيها أو حقدهم مُرّرت للأسف إلى أجيال الحاضر التي تجهل ماضيها، فأصبحت لدى البعض هي الحقيقة المقدّسة بينما هي سراب الوهْم، الوهْم بالقدرة على التحْريف وطمْس الوقائع.
وَحْده التاريخ كعلم بإمكانه أن يبيّن هذه الفترات ويمحّصها على وقع الوثائق الدامغة سواء ما تعلّق بالإيجابي منها أو السلبي بما فيه من تجاوز. لكن ما هو ثابت للعيان الآن على الأقلّ، أنّنا نعيش فترة الرداءة في أقصاها، أنّنا بصدد هدْم ما بناه رجالات الأمس، أنّنا عاجزون أن نبني كما بَنَى آباؤنا، أنّنا راوحْنا مكاننا كأمّة وشعب منذ 2011، فلم نتقدّم بل تأخّرنا عشرية كاملة، ونحن قادمون على عشرية أخرى ستكون أشدّ علينا ممّا مضت، وقادمون على وضعية صعبة جدّا سبق لنا أن حذّرنا منها منذ…2014، وأضواؤنا حمراء حتى وإن نَمّقها البعض، والبنية التحتية في جميع المجالات تدهْورت، والعملُ كقيمة ثابتة قد تبخّر والاقتصاد يترنّح والمالية تحتضر وشعبٌ يئنّ ومكسب الحرّيات مهدّد.
في الأثناء، مازال سياسيو الصدفة ذوي العقول “الفارغة” إلاّ من رحم ربّي يتكالبون أو يُهرولون أو يتحايلون أو… بينما الخراب نحن الآن فيه والهدم نحن من نقوم به الآن، هدْم ما بُنِيَ سابقا والعجز عن البناء من جديد، فهنا بالذات، الحُكْم على هذا أو ذاك يكون بالتدقيق في الحصيلة، والمحْنة التي تطلّ علينا منذ مدّة تدفعنا للاستنتاج بأنّ لِلْحُكْم أهله وللسياسة أيضا…!
نُشر باسبوعية “الشارع المغاربي” في العادد الصادر بتاريخ 18 فيفري 2020