الشارع المغاربي-كريمة السعداوي: تتواصل مآسي الفساد المستشري في قطاع التصرف في النفايات والتي بلغت ذروتها مع بروز ملف النفايات الإيطالية في ظل منظومة سوء تصرف مفضوح، على هذا الصعيد، علما أن أبرز هيكل مكلف بالتصرف في هذا المجال وهو وكالة التصرف في النفايات شهد يوم 15 ديسمبر الجاري تعيين النائبة السابقة النهضوية بسمة الجبالي على راسها خلفا لفيصل بالضيافي الذي تمت إقالته من منصبه كمدير عام للوكالة وهو الذي نفى في العديد من المرات شبهات الفساد التي روجها البعض ضده، حسب تصريحاته.
وعلى وقع اهتزاز الرأي العام التونسي لتطورات قضية النفايات الإيطالية اكد اليوم الاربعاء 23 ديسمبر 2020 في تدوينة له النائب عن التيار الديمقراطي نعمان العش ان لديه معلومات من مصادر وصفها بالموثوقة حول عمليات إتلاف وثائق قال إنها هامة تحصل بالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التابعة لوزارة البيئة والشؤون المحلية.
واعتبر النائب أن الوثائق تمثل، على حد تعبيره، قرائن جدية على جرائم وتجاوزات مرتبطة بملفات بيئية وأنه قد تكون لها علاقة أيضا بملف توريد النفايات وانه تورط فيها العديد من كبار المسؤولين داعيا النيابة العمومية للتحرك وإيقاف ما اسماه بالمهزلة للإفلات من العقاب.
ودون الخوض في حيثيات هذه المعطيات الجديدة وبعيدا عن تكذيب مديرة الوكالة بسمة الجبالي اليوم ما جاء في تدوينة النائب نعمان العش يجدر التأكيد على أنه وبالنظر إلى مردوديتها الكبيرة، يمثّل قطاع التصرف في النفايات مجالا خصبا للفساد واتسمت أعماله طيلة سنوات سيما بعد 2011 بالغموض حتّى على المستوى المؤسساتيّ. واليوم يصعب كثيرا في ظل تداخل مصالح عدة أطراف اماطة اللثام على حجم الفساد المستشري في هذا القطاع والحد من انتشاره.
ومن الناحية النظرية، توكل عملية استغلال النفايات وإدارتها إلى شركات يتم اختيارها إثر مناقصة تتضمّن كراس شروط تضعه الوكالة الوطنية للتصرّف في النفايات، ويحدّد جملة من المعايير التقنيّة وشروط استغلال المصبّ.
في جانب آخر تحصّلت الوكالة الوطنيّة للتصرف في النفايات منذ تأسيسها في 2005 على الموارد الضروريّة بسرعة بحجة تحسين صورة تونس كبلد يحرص على حماية البيئة. ولكن تم منذ 2011 اختيار سياسة الهروب إلى الأمام اذ جرى التجاهل التام للمسائل القانونية والمؤسساتية التي تؤثر على قطاع تصريف النفايات بتعلة أن المشكلة الأساسية تقنية بحتة اذ يمثل الوضع القانوني للوكالة الوطنيّة للتصرف في النفايات كمؤسّسة عموميّة غير إدارية مشكلة حقيقيّة حيث تطرح عدة أسئلة حول مدى ملائمة الطابع القانوني لهذه المؤسّسة مع متطلّبات نشاطها.
وهذا الوضع يتطلب وفقا لتقييمات العديد من المراقبين ادلة إجراءات تشرح مختلف التفاصيل المتعلّقة بالتنظيم والإجراءات الإدارية وآليات التصرّف المالية في المشاريع وهو ما لا يتوفر الى اليوم. ويستوجب الأمر إنشاء هيكل رسمي مكلّف بمتابعة تنفيذ مختلف المشاريع استنادا الى معايير صارمة، وهو ما يضمن التحكم في نظام التصرّف في النفايات. كما تتيح هذه الآلية المساءلة على مستوى أداء المهام، بما يمكن في المحصلة من دعم جهود مكافحة الانتهاكات والإخلالات الإدارية. وتبرز الوضعية البيئية الكارثيّة في تونس وخصوصا ما تردت فيه مصبات برج شاكير وجرادو وعقارب من مخاطر كبرى تجاهل اعتماد مثل هذه الإجراءات.
ويبين العديد من المتخصصين في الشأن البيئي ان الوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات فقدت الكثير من مصداقيّتها نتيجة العقود التي أبرمتها مع الشركات التي تعاقبت على استغلال المصبات الكبرى أساسا دون مراعاة للقواعد التنافسيّة أو تراخيها في مراقبة التزام هذه الشركات بالمعايير التقنيّة خلال استغلال المصبات، وهو ما اثار ويثير باستمرار العديد من الشكوك حول قدرات الوكالة التنظيميّة وآليات القرار داخلها خصوصا على المستوى الإقليمي والمحلي.
كما تدعو هذه الوضعيّة إلى طرح العديد من التساؤلات التّي تتمحور بالأساس حول استخدام الوكالة ميزانيات تحليليّة لقياس فعالية التدخلاّت وتحديد كلفة عملياتها واعتمادها تدابير معيّنة لرصد المشاريع ومتابعتها، والأهمّ من ذلك هو مدى لجوئها إلى عمليّات تقييم مالي وقياس مردوديّة مشاريعها.
من ناحية أخرى، تتميّز الوكالة باستقلال ماديّ نتيجة جمع الضرائب البيئيّة بصفة مباشرة، وهو ما يجعلها أكثر فعالية وقدرة على النشاط أكثر من وزارة الإشراف التّي يقتصر دورها على المصادقة على الاقتراحات التي تتقدّم بها الوكالة أو رفضها.
وتشير دراسات إلى أن كلفة التدهور البيئي بسبب سوء التصرّف في النفايات بتونس تناهز 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي علما أن كمية النفايات المنزلية في تونس تقدر سنويا بـ 3 ملايين طن يتم ردم أغلبها أو نقلها إلى المصبات العشوائية في ظل غياب منظومة للتصرف فيها نتيجة الكلفة العالية لتثمینها والتي تصل كلفة الطن الواحد من النفايات المنزلية إلى 120 دينارا.كما تفيد تقارير دولية بأن تونس تحتل المرتبة 27 عالميا بنسبة تلوث تقدر بــ 12.75% وبانها تحل بذلك في المرتبة الثالثة إفريقيا.
أمام هذه الوضعيّة الشائكة، تجد الوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات نفسها أمام خيارين لا مفرّ منهما: إما إنهاء هذا الوضع عبر التحوّل إلى المشغل الوطني الوحيد لجميع المصبّات، وهو ما يتطلّب في هذه الحالة أن تتحوّل هذه الأخيرة إلى ديوان وطني للتصرّف في النفايات، أو استئناف مهمتها الرئيسية في دعم وتسهيل مهام مختلف الأطراف الفاعلة في هذا المجال.
وتشدد مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع المدني ذات الصلة على رغبتها في المشاركة الفعّالة في صنع القرار للتوصل إلى آليّة أكثر ديناميكية للتصرّف في النفايات ولكنّ الإصلاح التشريعي والمؤسساتي والإداري الذّي سينعكس على الوكالة الوطنيّة للتصرّف في النفايات والقطاع ككلّ هو يبقى الخطوة الأساسيّة لتجسيم إرادة حقيقية لحماية فعّالة للبيئة.