الشارع المغاربي: إذا اعتمدنا الأركان التي تجهّز لثورة حقيقيّة كالتي حدثت في فرنسا سنة 1789 وإيران سنة 1979، فإنّ ما حدث في تونس لا يرتقي إلى المفهوم التاريخي والعلمي للثورة. الثورة تُفَكَّر نظريّا وتُخَطّط استراتيجيا وتُقاد زعاماتيا وتحقق خاصّة جلّ أهدافها. لم يكن من هذا الأمر شيء في ما حدث بتونس.
ما حدث في بلادنا هو أقرب إلى انتفاضة فوضويّة لشعب ضاق ذرعا بجبروت عائلتين خصخصتا البلاد والعباد والدولة (الطرابلسي وبن علي). قد تكون تداخلت في سياق الانتفاضة، ما قبليّا وما بعديّا، فعاليات جغراسياسيّة مؤثّرة ومحدّدة، لكنّها لم تكن لتكون فاعلة ومؤثرة دون وجود تربة انتفاضة شعبيّة حقيقيّة في البلاد. ثم إنه من الصعب بل من المستحيل، حتى من باب الافتراض المجرّد، أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل والوجوه الوطنية البارزة ممن أطّروا الانتفاضة من بدايتها إلى نهايتها أطرافا مطيعة لمؤامرة حُبِكت خيوطها في غير تونس، لاسيما أنّ ما قرأته شخصيّا في كتابيْ هيلاري كلينتون ونيكولا ساركوزي اللذين كانا في أعلى هرم السلطة بدولتيهما عند الانتفاضة التونسيّة يسقط تماما نظرية المؤامرة المسبقة والمبيّتة. اعتبر الاثنان أنّ أحداث تونس فاجأتهما! ولا بأس من التذكير في هذا الصدد مساندة السلط الفرنسيّة اللامشروطة لنظام بن علي حتى آخر أيّام حكمه.
مهما يكن من أمر ستبقى أحداث 17 / 14، بألغازها ومكوّناتها ومنتهاها، من مشمولات المؤرّخين. أمّا المعطى التاريخي الذي لا يقبل الجدل فهو تحوّل تونس بعد 14 جانفي من نظام استبدادي عنيف إلى نظام ديمقراطي ينعم فيه التونسيّون بحرية القول والفكر والتنظم، وكذلك بامتياز لا نظير له في العالم العربي، أقصد انتخابًا حرّا لمن يسوس أمرهم.
كان الشعب التونسي غداة 14 جانفي 2011 على أتمّ الاستعداد ذهنيّا وسلوكيّا ووطنيّا للارتقاء ببلاده إلى أعلى المراتب دوليّا. رأيناه طوال أسبوع ما بعد 14 جانفي كيف تطبّع بسرعة بطباع المواطن الراقي والواعي بواجبات المواطنة! رأينا التونسيّين متضامنين، متحابّين، فخورين بإسقاط نظام فاسد ومتباهين بإنجازهم المزلزل للأرض بين الأمم! ظاهرة إن دلّت على شيء، فعلى الاستعداد الفطري للتونسي للانخراط في منظومة ديمقراطيّة حقيقيّة وفي مناخ مجتمعي متحضّر، خاصّة أنّ هذه الظاهرة تجدّدت بعد انتخاب الأستاذ قيس سعيّد على رأس الدولة. كفى أن شعر التونسي وخاصة الشباب بدخول قصر قرطاج رجل نظيف ووطني حتى أقدم في يوم واحد على تنظيف شوارع مدنه وقراه من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب في ملحمة مواطنيّة لم يسبق لها مثيل!
فما الذي حدث يا ترى حتى نعود وبسرعة البرق إلى سوالف عاداتنا الرديئة، وحتّى يتخلّى التونسيّون عن حلم تحويل بلادهم إلى نرويج العرب؟ حدث أن داهمهم وهج عقائديّ دخيل على نمط حياتهم، فلوّث هويتهم ودمّر أصول دولتهم المدنيّة، ونزل على البلاد نزول الصاعقة إثر عودة راشد الغنوشي للبلاد، معلنا فتح تونس من جديد للإسلام! لنتذكّر جيّدا صيحة الداعية الإخواني وجدي غنيم وسط جماهير النهضة المهسترة وبحضور الغنوشي المنبسط “الإسلام قادم… الإسلام قادم قادم” !
ما حدث، بأكثر عمق، هو أنّ فئات المجتمع التونسي المتبنّية للمرجعيّة الإسلاميّة كمصدر فكري ومنهجيّة عمل انعتقت بعد 14 جانفي من الحصار الذي كان مضروبًا عليها طيلة عقود وانفجرت، بضوضاء وغوغاء، معلنة ساعة الفصل وعودة تونس إلى ماهيتها الإسلاميّة بدعوى أنّ «الشعب مسلم ولا يستسلم». مرّت تونس بتسونامي فكري وعقائدي كاد يعصف بجلّ مكاسبها المدنيّة، ولم تنج من مشروع اعتماد الشريعة كمرجع للتشريع إلّا بفضل صمود تونس الحداثة وضغوط خارجيّة مؤثّرة… وحتى مبدأ المساواة بين الجنسين شُفع بمرادف التكامل ذي التمييز الخفيّ.
أمّا الأخطر من كل ذلك فيكمن في أنّ مفهوم الفتح في التاريخ الإسلامي تتبعه جملة من الثقافات المرتبطة به سلوكيّا وأدبيّا منها فلسفة الغنيمة والتمكين! نجحت النهضة أيّما نجاح في بلوغ هذين الهدفين الاستراتيجيّين. ولا لوم عليها في ذلك! نعم لا لوم! وهل يُلام من ينجح سياسيّا في تحقيق مآربه مهما كانت طبيعاتها؟ بل بالعكس وجب الاعتراف للنهضة وخاصّة لزعيمها الداهية راشد الغنوشي بحرفيّتهم السياسيّة وإن كانت لا علاقة لها لا بعهد ولا بميثاق… اللوم والسخط فقط على الذين تحالفوا مع النهضة عن دراية ومكّنوها من التمكين ووفّروا لها مناجم الغنيمة. أعني بالذات المرحوم الباجي قائد السبسي الذي اشترى بتونس وبتاريخها الحديث وبمكاسبها المدنيّة وباستقرارها ثمنا قليلا، ثمن ولوجه لمكتب بورقيبة كأحد خلفائه على رأس الجمهوريّة التونسيّة! لا بدّ من التذكير أيضا في هذا المعنى (كما بيّنته في عدة فيديوهات) أنّ معاهدة التحالف بين النهضة والنداء ختمت من قبل الغنوشي والباجي قبل الانتخابات في لقاء باريس الشهير في أوت 2013… ثمّ اللوم والسخط أيضا على من أمسك بعده بعصا الخيانة أعني يوسف بن عبد الحميد الشاهد، مع العلم أنّ كليهما، أي قائد السبسي والشاهد، سليل المخزن التونسي يعني (دون تعميم) العائلات وأغلبها من المماليك التي تربّت على التمعّش من بلاط البايات. وكان همّها الوحيد المحافظة على مواقعها في دوائر السلط السياسيّة مهما كانت شرعيّتها وعلى امتيازاتها الطبقيّة لا غير. عقليّة لا تزال سائدة لدى أغلب المنحدرين من المخزن، إضافة إلى استحقارها إلى اليوم ما تسمّيه شعوب “وراء البلايك”. ولنا في شخص حافظ قائد السبسي المثال النموذجي لذلك. أين هو؟ وأين هي صولاته السياسيّة التي كان المغفلون منّا يظنّ أنّ دوافعها حبّه لتونس وإيمانه بغدها الأفضل؟ فرّ من البلاد بعد أن حصّن هجرته بما يكفي من المليارات إلى وطنه الحقيقي: وطن الملذّات و”الشيخات”، متكبّرًا حتّى على أمّه إذ لم يشرّفها بواجب الحضور في مراسم جنازتها. لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
كان لا بد من تحديد مسؤوليّة هؤلاء عمّا وصلت إليه البلاد من انهيار شامل لأنّ غالب ما تذهب إليه أطروحات النخب الحداثيّة خاصّة هو تحميل الإسلام السياسي وفروعه المتستّرة والمفضوحة هذه المسؤوليّة، ولا تتأنّى بموضوعيّة على جرائم حلفاء النهضة. لولا نكثهم العهد لاتّجهت تونس نحو المسار الذي أراده لها مليونا تونسي ممّن أوصلوا المرحوم الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج، المسار الذي رسمنا خطوطه وتعاهدنا على تحقيقه في النواة الأولى لنداء تونس التي اجتمعت حول سي الباجي لبعث الحزب. مسار يُختزل في هدف بسيط في نصّه وعظيم في مآله: خروج النهضة من حكم تونس، وبس…
أمّا ما انساق قوم النهضة إلى تسويقه حتّى اليوم من أنّ الدولة العميقة من جهة والاتحاد العام التونسي للشغل من جهة أخرى عطّلا آليّات تحقيق أهداف الثورة فهو هذيان أقرب إلى السفسطة الركيكة لأنّه خال من أي منطق سياسي مسؤول. النهضة هي التي شغّلت الدولة العميقة ورموزها واستمالتهم لضمان طاعتهم! كم من إطار سام تجمّعي أو إداري أو وزير من نظام بن علي شحنوا عزائمهم وجنّدوا قدراتهم لتمرير أجندات النهضة؟! أليست النهضة ورئيسها هما اللذين أنقذا التجمعيّين ودولتهم العميقة من الإقصاء السياسي بحكم قانون لم يمرّ إلا بصوت واحد؟ أمّا الإدارة التونسيّة إذا اعتبرنا أنّها هي المقصودة بالدولة العميقة، فهي عصيّة بحكم ثقافة الدولة المتجذّرة فيها عن أي توظيف سياسوي حتى مع المستبدّ بن علي. كذلك الشأن بالنسبة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل. سمعت بشيء من القرف عبد الكريم الهاروني يكاد ينزف دمًا من شدّة التحسّر على عشرات آلاف المليارات المهدورة من مناجم الفسفاط بسبب التعنّت المطلبي اللامسؤول للشغّالين حسب قوله، والحال أنّه لو عكس لأصاب! فحتّى لو سلّمنا جدلا أنّ الاتحاد يشكو من العيوب السبعة، فإنّه يبقى أنّ مقود الحكم يا سي الهاروني لم يكن أبدًا بيد الاتحاد وإنّما بيد النهضة وحلفائها! الماسك بآليّات الحكم هو المحمول عليه إيجاد الحلول حتّى لو كانت صداميّة إذا اقتضى الأمر! أمّا التعلّل بمطلبيّة الاتّحاد المشطّة لتبرير فضيحة الفسفاط، فهو طرح سقيم الدلالة لا معنى له ولا جدوى منه! أنت صاحب السلطة إذن أنت المطالب بالحلّ مهما كانت الحواجز والعوائق والتعطيلات، موضوعيّة كانت أم مفتعلة! وإلّا “سفساريك وباب عليوة”!.
في السياق نفسه أريد أن أعرّج على ما يسمّى بـ”الثورة المضادّة”. والله لم أهتد إلى حدّ الآن إلى معناها. المفهوم السطحي للكلمة يدلّ على تعريف مبسّط قد يكون كالتالي: الثورة المضادّة هي نوع من الردّة تحرّكها قوى لا تريد للثورة أن تحقّق الأهداف المختزلة في شعار 14 جانفي “شغل، حريّة، كرامة وطنية”… بحثت بعناء عمّن يعود هذا التعريف فلم أجده إلّا في النهضة وحلفائها! فمن أنهك موازنات الدولة الماليّة سوى آلاف الانتدابات العشوائيّة والتعويضات الخياليّة؟ ومن مأسس الفساد وحوّله إلى آليّة حكم؟ ومن سمح بهروب 4 آلاف مليار سنويّا من البلاد منذ عام 2011 وبالوثائق؟ ومن أثّث لتونس دستورًا شلّ حركة السلط الدستوريّة وتفاعلها مع بعضها البعض بتناسق ونجاعة؟ الاتحاد والدولة العميقة؟ يا لهول الوقاحة!…
خلاصة القول: إذا كان التململ الشعبي في 2011 قد أفضى إلى انتفاضة عشوائيّة كانت ووليدة مؤامرة أم لا فإنّ الغضب الجبّار الحالي للشعب التونسي، باستثناء المتنفعين من سلطة اللوبيات، سيفضي إلى شيء آخر أكبر هولا وأعمق نتائج لأنّ الوضع الحالي تتقاطع في رحمه جينات لم تشهد تونس لخطورتها مثيلا: الفقر والجوع والبطالة والأمراض وانهيار البنية التحتيّة وانقطاع رهيب عن الدراسة والاستقطاع والحقد الطبقي والفساد والإفلات من العقاب وانهيار هيبة الدولة وانتشار الأميّة والاغتصاب… هل يعقل ألّا تنضج هذه الجينات وتُأتي أكلها بإذن ربّها، ولا سيما أنّها تنمو في تربة التعفّن الأمثل؟
أقولها حدسا وتحليلا بكلّ وضوح: علميّا ومنطقيّا الثورة الحقيقيّة على ضوء ما سبق آتية لا ريب فيها. أمّا شعبيّا وميدانيا نتيجة الانتشار الفظيع والرهيب للفقر والجوع. وأمّا سياسيّا، فعن طريق الصندوق في انتخابات لا مناص من أن تكون سابقة لأوانها، يومها سيبعث التونسيّون بمن أجرموا في حقّهم وحقّ وطنهم الى المعاش السياسي إن لم يكن المعاش القضائي…