الشارع المغاربي: أكثر من سنة ونصف السنة على دخوله إلى قصر قرطاج رئيسا للجمهورية، و»التوانسة» يتابعون خطابات الوعيد والثبور لقيس سعيّد التي ما انفكّ يهدّد خلالها «الخونة» و»الفاسدين» و»المتآمرين في الغرف المظلمة» بِدُنُوِّ ساعة المحاسبة وبِبِئْسَ المصير. سنة ونصف السنة من التحذير والإنذار والتهديد بكشف الحقيقة والتهديد بتحميل المسؤوليات لِمن أجرموا في حقِّ تونس «أمام الله وأمام التاريخ وأمام الشعب» كما يحلو لسعيّد أن يُردّد تلْك الجملة بصوته الجَهْوَرِيِّ وبِحماستِه المعهودة في جلّ خَرْجاتِه وجولاته وخطاباته…اليوم وبعد أن شارفت العُهْدة الرئاسية على انقضاء ثُلُثها أو تكاد، هل سيَمرّ سعيّد فِعْليا إلى التنفيذ ويُغادر نِهائيا خطاب الوعيد ؟ ومتى ستَحِين ساعة هذا المرور أمْ أنّ الأمر لا يَعْدو سوى زَبَدٍ سيَذْهب جُفَاء ولن يترك أثرا على الأرض ؟!
في أوّل خطاب لقيس سعيّد بعد انتخابه وتحديدا أثناء أداء اليمين الدستورية في مجلس نوّاب الشعب في 23 أكتوبر 2019 تحدّث سعيّد بإفاضة عن مسار التاريخ الذي سيتغيّر منذ لحظة اعتلائه رئاسة الدولة التي وصفها ب»اللّحظة التاريخية» والتي «استعصى على الكثيرين في تونس بل وفي العالم فهمها». يُوَصِّف قيس سعيّد مسؤولية الحكم ب»الأمانة»، فيقول في خطاب «أداء اليمين»: « الأمانة أمانات، أمانة الاستجابة لأبناء هذا الشعب في الحرية والكرامة. لقد طال الانتظار ولا حقّ لأحدٍ في أن يُخَيّبَ آمال شعبنا الذي يُرِيد أن يَعْبُرَ الجسر..من ضفّة الإحباط إلى ضفّة البناء». ويُضيف سعيّد في نفس الخطاب «الأمانة هي الحفاظ على الدولة التونسية ..وليس أخطر على الدول من تآكلها من الداخل…فشعبنا أمانة ودولتنا أمانة وأمننا أمانة، وأنّات الفقراء والبؤساء أمانة، بل إنّ ابتسامة رضيع في المهد أمانة، فلنحمل هذه الأمانات كلّها بنفس الصدق والعزم».
كان سعيّد واضحا وصادقا في خطابه الأول وشخّص الحال حينها بدقّة ونزاهة، فقد طال الانتظار فعلا لعبور «التوانسة» الجسر كما قال والمرور من ضفّة الإحباط إلى ضفّة البناء والتشييد. كما أنّ أمانة الحكم تتطلّب فعلا الحفاظ على وحدة الدولة وديمومتها، ولكنّنا اليوم وبعد مرور أشهر طويلة على هذا الوعد الصادق والتشخيص النزيه، وبعد أن مكثنا جميعا على ضفّة الإحباط دون مغادرة ودون أن نرى أملا في بناء يُذكر أو أفقا لغدٍ أفضل، وبعد أن صارت الدولة عِبارة عن جزرٍ منفصلة وكرتونات حاكمة بأمرها تتآكل من الداخل وتتصارع فيما بينها، أصبح السؤال مُلِحًا أكثر من أيّ وقت مضى: هل أزِفَت ساعة الخلاص التي وعد بها سعيّد مِرارًا وتكرارا ؟
وعيد وثبور… وخطر استكمل معناه
لا تكاد تخلو مناسبة يخرج خلالها قيس سعيّد احتفاء بذكرى وطنية أو عيد ديني أو استقبالا لضيف ما في القصر أو زيارة لمؤسّسة أو منطقة ما، إلّا وذكّر سعيّد ب»الخونة المتربّصين» بالدولة الذين يتآمرون في «جنح الظلام» على أمن البلاد والذين «ستأتيهم الضربات صاعقة بأقوى مِمّا يتصورون» من «منصّات» أعدّها الرئيس المنتظِر فحسب لساعة لا يعلمها إلّا هو…ساعة ستأتي في حينها وآوانها ومكانها !.
في خطاب غاضب ومتشنّج عند استقباله للغنوشي في القصر في 20 جوان 2020 يُشير فيه بوضوح إلى ما أسماه ب»الفوضى» داخل البرلمان يقول سعيّد « البرلمان صار يعيش فوضى ولا أحد من التونسيين يقبل بها..كنت أدّيت اليمين للحفاظ على الدستور..وأعمل على أن تسير دواليب الدولة سيرا طبيعيا. ولكنها اليوم للأسف بالنسبة لمجلس نواب الشعب وبالنسبة إلى عدد من دواليب الدولة لا تسير سيرا طبيعيا….اليوم لا يمكن أن يتواصل الوضع على النحو المذكور ولدينا من الإمكانيات القانونية ما يسمح بالحفاظ على الدولة، لن نبقى مكتوف الأيدي أمام تهاوي مؤسسات الدولة..ولن أترك الدولة التونسية بهذا الشكل الذي تسير عليه..هناك النصّ الدستوري يمنحني الاختصاصات من أن أقوم بما يجب لأن أقوم به حفاظا على الدولة التونسية…ربما نعيش أخطر وأدق اللحظات في تاريخ تونس بعد الاستقلال…كل الوسائل الدستورية متاحة لدي وهي كالصواريخ على منصّة إطلاقها».
في 7 ديسمبر 2020 وعند استقباله عددا من أعضاء مجلس نواب الشعب يصرّح قيس سعيّد في نبرة وعيد وتهديد قائلا :» من يعتقد أنّه سيسقط الدولة فهو واهمأ لن نتركها لقمة سائغة لمن يريد إسقاطها من الداخل، أوجّه الإنذار تلوى الإنذار، والتحذير تلوى التحذير..لن نترك تونس تتهاوى ولن نترك مؤسّساتها تتهاوى وتسقط، نعرف تفاصيل التفاصيل، نعرف كلّ شيء وستأتي اللحظة التي سأحمّل فيها الجميع المسؤولية أمام الله وأمام الشعب وأمام التاريخ..لن نقبل بأن تسيل الدماء، لن نقبل بأن يُمهّد البعض لإسقاط الدولة..تونس ورايتها لن تسقط وستسقط كلّ المؤامرات. أوجّه مرّة أخرى تحذيرا بأنّنا سنردّ بأكثر مِمّا يتصوّرون وبأكثر ممّا يتحمّلون لإنقاذ الدولة التونسية..ومن يتوهّم بأنّه يمكن أن يستعين ببعض الخونة والمجرمين فإنّنا نعلم أنّهم يعملون في الخفاء وسيدفعون الثمن».
في خطاب آخر وبمناسبة إشرافه على المجلس الأعلى للجيوش في 21 ديسمبر 2020 يقِرّ سعيّد بوجود ما أسماهم بالخونة في مؤسّسات الدولة، وبافتعال الإرباك المقصود لدواليبها بعد أن بيّن في خطاب سابق حالة الفوضى البرلمانية وأنّ «صواريخ تنتظر إشارة الإطلاق». يقول قيس سعيّد في هذا الخطاب أمام قيادات عليا من الجيش الوطني «بعض الأحداث طبيعي ولكن بعضها الآخر مقصود وتمّ الترتيب له بهدف إرباك مؤسّسات الدولة…لا مجال في تونس للخونة في مؤسسات الدولة…سنتصدّى لكلّ هذه المحاولات ولن ترهبنا».
هي خطابات مستنسخة ومكرّرة مرّات ومرّات، تستعاد فيها باستمرار مصطلحات « التهاوي والسقوط والتفكيك والخيانة والعمالة للأجنبي والإجرام والفساد» حتى وصل الأمر إلى الاتهام ب»الارتماء في أحضان الصهيونية» عندما وجّه سعيّد اتهامات لأطراف لم يذكرها بالإسم بالافتراء والكذب خلال أداء اليمين لحكومة المشيشي في 3 سبتمبر 2020، بعد أن فشل في إقناع بعض الأحزاب بعدم تمريرها. قال سعيّد حينها أمام جمع من النوّاب «ماذا فعلتم أنتم في الأيام الماضية وفي الأشهر الماضية باستثناء المشاورات بالليل وتحت جنح الظلام، وأعلم ما قيل فيها، وأعلم الصفقات التي تمّ إبرامها وسيأتي اليوم لأتحدّث بكلّ صراحة عن الخيانات وعن الاندساسات وعن الغدر وعن الوعود الكاذبة وعن الارتماء في أحضان الصهيونية».
في محصّلة خطابات الرئيس قيس سعيّد، ولو وضعنا بعض الخلاصات لِما صرّح به في مناسبات عديدة فإنّ «الأمانة» لم يتمّ الحفاظ عليها (خطاب أداء اليمين)، وأنّ الإحباط قد تفاقم بين «التوانسة» و»أنّات الفقراء والبؤساء» قد صارت مسموعة في كلّ ناحية من تونس. ولو انطلقنا أيضا من مقولات سعيّد وتشخيصاته لواقع حال الدولة واعترافاته بأنّه عالِم بِما هو حاصل في الغرف المظلمة فإنّ الدولة مخترقة فعليا بالجواسيس واللّصوص والمندسّين وهي في حالة فوضى عامّة وعطالة مستفحلة ومهدّدة فعليا بالسقوط والتفكّك (وقد عبّر عن ذلك صراحة ودون تلميح في مناسبات عديدة) ويتحكّم في بعض دواليبها خونة ومجرمون ومتخابرون مع الصهيونية.
هل ؟ ومتى ؟
لنا شرعية السؤال الآن، ألا تنطبق مضامين خطابات سعيّد جميعها على مبدإ ومفهوم – الخطر الداهم- الذي يتحدّث عنه الفصل 80 من الدستور ؟ وهل سيمرّ قيس سعيّد إلى الفعل أم سيبقى في حدود التوصيف لمظاهرالخطر الداهم منتظرا ساعة سقوطنا جميعا دولة ووطنا في سراديب المجهول؟
ينص الفصل 80 من الدستور التونسي على أنّ: «لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدّد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية».
لوّح سعيّد في 7 ديسمبر 2020 بتفعيل الفصل 80 إذ قال، في كلمة أمام عدد من النواب الذين استقبلهم في قصر قرطاج إثر حوادث العنف اللفظي والمادي التي عرفها البرلمان حينها، إنه «يوجه الإنذار تلو الإنذار والتحذير تلو التحذير بأنه يحترم الشرعية والقانون ولكن لن يترك تونس تتهاوى ولن يترك مؤسساتها تسقط، ومن يعتقد أننا لا نتابع ما يحصل فهو واهم›› .وبلهجة تحذير حادة، واصل كلمته «نعرف كل شيء، وستأتي اللحظة التي سأحمّل فيها الجميع المسؤولية أمام الله والشعب والتاريخ، لن نقبل بأن تسيل الدماء وأن يمهّد البعض لإسقاط الدولة..»، مؤكدًا «ستستقط كل المؤامرات». تحيلنا تهديدات سعيّد ووعيده إلى الفصل 80 من الدستور عبر اعتبار الوضع الراهن في تونس كـ»حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها يتعذّر معه السير العادي لدواليب الدولة» وهو ما يمكّن من تفعيل الفصل المذكور واتخاذ عدد من «التدابير»، كما يسميها الفصل، من قبل رئيس الجمهورية.
يؤكد مقرّبون من الرئيس أنّ فرضية تفعيل الفصل 80 مطروحة من قِبله لكن من غير الواضح إن كان سعيّد قد حسم في الأمر وأي موعد قد اختار. وهنا يُمكن أن نطرَح سؤالا آخر على ضوء هذا اللّبس في موقف الرئيس، وهو لُبْسٍ يجعله في دائرة الإحراج الأخلاقي والقانوني : متى يحزم سعيّد أمره ويمرّ عمليا إلى الفعل ؟ نطرح السؤال في ظلّ الانهيارات التي تعرفها الدولة صحيا وماليا واجتماعيا، بمعنى كم يكفيه من الوقت حتى يخرج من دائرة ردّ الفعل إلى الفعل لا سيّما وهو يشخّص في خطاباته بدقّة هذا الخطر الداهم؟. من جهتنا نعتبر أنّ سعيّد قد وضع نفسه في إحراج سياسي كبير بعد أن توغّل كثيرا في الاتهام بالعمالة والفساد والخيانة للخارج لخصومه دون أن يفعل شيئا مقابل هذه الاتهامات الخطيرة. وربّما يكون قد أضعف نفسه أيضا لمّا تمادى أيضا في الوعيد والثبور والتلويح ب»المنصّات التي تنتظر ساعة الصّفر» مكتفيا بالأقوال والإنشائيات فقط.
لقد وضع سعيّد نفسه في كمّاشة خطاباته الحماسية والتهديدية، إذ لم يعد من المقبول عند «التوانسة» الإفاضة والاستزادة في هذا السيل من خطابات التهديد والوعيد دون فعل ملموس. لم يعد مقبولا عندهم وهم يرون بأمّ الأعين حجم الخراب المنتشر في كلّ الجهات والقطاعات والمؤسّسات من وطنهم. أضاع سعيّد على تونس (إلى حد الساعة) وقتا ثمينا يدفعه «التوانسة» كل يوم من قوتهم وأرزاقهم وصحتهم وأرواحهم، وهم يرصدون وطنهم ذاهب إلى المجهول ويتابعون دولة سائرة إلى الفوضى والخراب…لم يعد سؤال «هل سيمرّ سعيّد إلى الفعل مهمّا عند «التوانسة»…هم مازالوا يصدّقونه…المهم بالنسبة لهم متى سيمرّ؟…ينتظرون الأفعال..لقد ملّوا الأقوال، وبدأ صبرهم ينفذ…»التوانسة» غاضبون…وهذا إنذار أخير..
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 4 ماي 2021