الشارع المغاربي: في كلمة مأثورة عنه، قال المرحوم محرّر الأمة: “أوُصي هذا الشعب بالحفاظ على الوحدة الوطنية وصيانتها، واريدكم كالبناء المرصوص يشد بعضه بعضا، وإني أوكد لكم أنه طالما دمتم متّحدين، فإن هذه الأمة لن يصيبها سوء ولن يقدر عليها أي عدو مهما كانت قوّته، فإذا اختلّت وحدة الأمة واضمحلت وانهارت، فأعلموا ان الخطر الذي حاق بها لن يكون قد أتى من الخارج وانما سيجيئها من داخل البلاد وعلى ايدي أبنائها وبفعلهم الاجرامي”.
أيها المواطنون الاحرار
الم تشعروا بأن انذار صانع هذه الامة قد تحقق اليوم، وان صَفّارة الخطر الأكبر قد دوّت بكل قوة فارتعدت لها الأرض والجبال، وإذا بمناد ينادي هذا الشعب أن “أفيقوا من سباتكم واحذروا وتأهبوا للاستنفار الأكبر وللمنازلة الأعظم، فإنّ العدو على ابوابكم…”.الم ينذركم اهل العلم والخبرة واعادوا الإنذار بأن اقتصاد البلاد أوشك ان ينهار وبأن بلادنا على مرمى حجر من الإفلاس أو أدنى، وبأن فئات من الضالين شقوا عصا الطاعة في وجه السلطة والقانون وامتهنوا العصيان والقتل والابتزاز والإرهاب واختلاس الاموال وتكديسها واحتكارها واغتصابها بالقوة والعنف وبالوسائل غير الشرعية لما يتجاوز نصف إمكانات الاقتصاد الوطني، وسعوا في الأرض فسادا وافسادا؟
عليكم ان تدركوا ان عددا كبيرا من مواطنينا معرضون للجوع والمرض والفقر والجهل والبطالة والحرمان من ابسط مستلزمات العيش– لا نقول “متطلبات الحياة الكريمة” – وأن ذلك بلغ درجة من البؤس واليأس دفع بالعديد منهم الى الالتحاق بالعصابات الإرهابية وبقُطّاع الطريق وبممتهني الابتزاز والقتل، وبالكثير منهم الى المجازفة بحياتهم بعبور البحر ومواجهة خطر الغَرَق في أعماقه فاقدين كل أمل في الحياة وفي التغلب على مصاعبها.
أيها المواطنون الاحرار
اعلموا ان ما سمّيت “ثورة الربيع” ما هي في الحقيقة الا “ثورة حق اريد بها باطل”، وقع الاستيلاء عليها من طرف من ادعى مناصرة الإسلام والدفاع عنه والعمل على إعادة بعث “الخلافة السادسة” والشرف الإسلامي العربي او العثماني…. وما هم في الحقيقة الا عصابة سوء تحزّبوا كذبا للدين وجعلوا من “الإسلام” آلة فتنة دينية وهيجان سياسي وقناعا لدعاياتهم الكاذبة وسلاحا للاستيلاء على السلطة والحكم في البلاد والسيطرة على دواليب الدولة لنهب أموالها وأملاكها بكل وسائل السلب والاستثراء غير المشروع والظالم وبقصد جمع “الغنائم” وتوزيعها بين اتباعهم لكسب ولائهم ووفائهم السياسي والانتخابي والدعائي وجعلوا من استعمال الدين مسلكا لإقحام الجماعات الإرهابية الاجنبية في كامل انحاء البلاد ولإرساء بؤر الدعاية والتأطير “السياديني” قصد تعبئة الفئات الشعبية اليائسة والمستضعفة لخدمة أهدافهم السياسوية المُقنّعة بالتحزب للدين وللإسلام الحنيف.
وليس هذا فقط: فخيانة الثورة لم تكتف بالتخريب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الداخلي، بل إن الجريمة اكتست بُعدا خارجيا لا يقل خطرا ولا مضرة آنية ودانية للبلاد ولهذا الشعب بأكمله، بل إن هذه الجريمة طالت مصالح البلاد الأساسية التي بيعت لتلك الدول والدويلات بثمن بخس مقابل السند السياسي والمالي الرخيص، وكأن استعمارا متعدد الأوجه قُرّر فرضه على البلاد خطوة بعد خطوة وصفقة بعد صفقة. كما تمثلت الخيانة للثورة في التواطؤ مع القوات والمصالح والمنظمات الاجنبية شرقا وغربا التي لا تريد خيرا للبلاد ولا نفعا، وكأن هذه البلاد التي كان لها في الماضي القريب وزن وتأثير في العلاقات الثنائية والجهوية وكذلك في المحافل الدولية، أصبحت دويلة من الصنف الثاني لا يحسب لها حساب ولا وزن يذكر.
ليس المجال هنا للتطرق الى العديد من الأسئلة المفصلية والتي تتعلق بمصير البلاد وحظوظها في الخروج من الورطة الشنيعة التي أُغرقت فيها، ولا حول توزيع المسؤوليات في ذلك الخطب الجلل بين المؤسسات الحكيمة والأحزاب والكتل وغيرها. فإن ما تتميز به الحياة السياسية في بلادنا وفي ما بعد الثورة بالخصوص، هو الامتناع عن طرح مسألة المسؤوليات من عدمه وعن مساءلة هذا أو ذاك عما قام به وما لم يقم به من مبادرات وانجازات وما حصل له من اخفاقات وخيبات: فحسب الرجالات السياسية الفاعلة في البلاد وحسب اعرافهم السياسية في هذا المجال، ليس من اللائق ولا من الملائم طرح مثل هذه التساؤلات ولا التعمق فيه، بل وأكثر من ذلك، فإن العكس هو الوارد والمعمول به، وإن المستحسن جدا فيه اعتبار ان المبدأ الأساسي للسياسة في هذه الأيام خصوصا، هو افتراض عدم وقوع أي فشل، بل ومن الجدير تسبيق الثقة على النجاح وبحق كل من احتل منصبا مرموقا في حصوله الآلي على منصب ارقى منه واسمى، من ذلك ان من كان وزيرا للداخلية وفشل فيها فشلا اجراميا، يجازى بترقيته الى منصب وزير أول. كذلك،الوزير الأول الذي اعترف باكيا بفشله في مهامه السامية لا يحرجه ان يترشح الى منصب رئاسة الدولة، ولا أقل… بل ولا يستغرب احد ان يترشح لتلك الهمام العالية من ليس له أي علم ولا اية دراية او تجربة بالشؤون الدقيقة المتداولة في مثل تلك المناصب السامية والحساسة….
لكن وبالنظر الى الحالة الاجتماعية الأليمة والى الحالة الصحية المزرية والى الانهيار السياسي الاقتصادي للبلاد والى تقلص ثقة الدول المانحة والمنظمات المالية العالمية في اقتصادنا وفي “ديمقراطيتنا” وفي نظامنا الحكمي والدستوري، فإن ما يتحتم على كل التونسيين بصفتهم مواطنين وليس بصفتهم خاضعين الى نظام سياسي وتشريعي معين، أن يدركوا خطورة الوضع المتقلب والمتكهرب الذي يعيشون فيه وان يَعُوا ويفهموا خطورة انعدام استقرار المستقبل بالنسبة إليهم ولأولادهم، وخصوصا، عليهم ان يقتنعوا بأن لا مستقبل ولا أمل لهم في الاعتماد على النظام السياسي والحكمي الراهن وبأن لا امل لهم في اصلاحه، فلا امل في اصلاح ما قد أُفسِد وما قد تعمق فساده.
ايها المواطنون الاحرار
إذا رجعنا الى السؤال المطروح أعلاه حول المسؤوليات والمساءلات السياسية – وهي التي لا مفر منها اليوم او غدا او حتى، بعد غد – حول الاحتقان المطبق على جميع المستويات، وحول السبيل الى الخروج من المأزق، فإننا لن نتردد عن الاستشهاد بذلك الفيلم الشهير للمخرج الفرنسي اندري خياط (1952) بعنوان “نحن جميعا شركاء في الجريمة”، فنقول إن الأزمة العارمة والمأساة العميقة اللتين نعيشهما اليوم هما من فعل الجميع، بجهلنا وبعدم اكتراثنا وبهروبنا من المسؤولية وبخيانتنا ثورتنا وشهدائنا، وبتواطؤنا وانخداعنا السافلين أمام الجهلة والمجرمين والفاسدين والمفسدين والكاذبين، لا مفر لنا من مسؤولياتنا الجماعية العظمى، وما يبقى لنا الا أن نتّعظ بما قال العقلاء منذ زمان: “كما كنتم يُولّى عليكم…”. لكن، ربما أريد لهذه الموعظة الاّ تكون صالحة الا ليوم الحساب الأعظم والأخير. اما ونحن اليوم نعيش في الدنيا الفانية وفي عالم الديمقراطية، فإن مساءلة من افسد وخان العهدة الموكولة اليه، تبقى قائمة الذات وواجبة. وفي تقديرنا، ما يكون أكيدا ومستعجلا هو مساءلة من كانوا اكثر اضرارا بالبلاد.
*- وعندنا، الأولُ على الاطلاق في الاضرار بالبلاد، ذلك الذي اختص بالدرجة الأعلى في الكراهية عند الناس في اغلبيتهم المطلقة. وهو يتميز بأنه قيل عنه إنه من استغنى وأيسر الى اعلى درجة في البلاد من دون ان يُعرف له أي عمل ولا أي شغل طوال حياته. وهو على الاطلاق الأكبر فسادا والفاعل الأكبر في مجال المناورات والمراوغات والتحركات التعطيلية في عالمنا السياسي الضيق والمتعفن بطبعه. وهو الذي بلغ الدرجة الأعلى في النفاق والدهاء السياسي واللبس في التعبير والازدواجية في المفاهيم لمغالطة كل من وقف في وجهه وعارضه في أفكاره وناقضه في اختياراته. وهو الذي مارس السياسة في البلاد بالاعتماد على الحقد والضغينة ضد كل من انتهج منهجا سياسيا مخالفا لعقيدته ولعقائده. وهو الذي ناور لمدة سنين عديدة خلال العهدة السابقة تحت غطاء منظومة “الوفاق” المزعومة، وهو بصدد نصب شباكه لإيقاع شركائه السياسيين الجدد في نفس الشراك وفي نفس المكائد.
**- والثاني، في تقديرنا، في الإضرار بالبلاد وحتى بشخصه خاصة، هو ذلك الذي يمثل في العديد من المجالات الصورة المعاكسة لمن ذكرنا في الفقرة السابقة. فهذا الرجل، خلافا لشريكه المذكور الذي ادعى العلم والمعرفة والتجربة والحنكة في قيادة الشعوب الى ما فيه لها الخير الأكبر في الدنيا وفي الآخرة، امتاز بأنه لا يملك أية خبرة مرموقة في العلوم القانونية غير التي شبّ وشاب عليها، وبأنه لا يفقه شيئا في الشؤون العامة للبلاد لعدم ممارسته لها ولا القليل ولا الكثير في معالجة أمور الدولة والتحكم في دواليبها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية لفقده اقل الفرص للاحتكاك بها، كما أن لا علم له ولا دراية في الشؤون الخارجية ولا الشؤون العالمية ما عدا عطفه الخاص وغير المجدي على القضية الفلسطينية….
أضف الى ذلك ان هذا الرجل انذر شعبه في العديد من الخطابات الرنانة والحماسية والتي يلقيها باللهجة اللاهثة لخطباء “صوت العرب” الناصرية في الخمسينات، بأنه ليس حامل أية رسالة يسوقها لهم ولا هو بناظم لأية فلسفة سياسية جديدة ولا هو بعارض لأي مخطط مدقق ومتكامل لإنقاذ البلاد من المأساة التي اغرقَها فيها بعضهم والأول من بينهم من أسلفنا الحديث عنه. كما أعلن انه ما تبقى له من مهمة سينحصر في التعليم والإرشاد. بل واكثر من ذلك وأغرب، أفصح صاحبنا، وكأنه المسيح عليه السلام، انه ليس بطالب أصوات الناخبين وليس هو بمترشح لأي منصب ولا لأية عهدة، وأنه مع تعاليه على كل هذه الأعراض السياسية السخيفة والذليلة، سيسخّر حياته وكل جهوده في سبيل التفسير (“تفسير” ماذا؟) والتوضيح والإرشاد لمن توجه اليه بأي استفسار.
هذه هي الاعلانات التي بها خلَق ذلك الرجل لنفسه موطن قدم في المشهد السياسي التونسي البائس والمتأزم. ولعمري، هذا هو اول اعلان من هذا النوع في تاريخ السياسة منذ ان خلقت. ومع ذلك، فهذا هو الرجل الذي انتخب بأغلبية رائعة مريعة لتقلد اعلى منصب في الدولة ولتحمل أرقى المسؤوليات في البلاد. ولقد فوجئ الجميع في الداخل وفي الخارج بهذه المعجزة التي لا تفسير لها غير الذي نسبه البعض الى احدى خاصيات العامّة من شعبنا في الإكثار من الدعابة في كل المناسبات ولو تعلق ذلك بأدق الأمور واكبرها جدية….
**- لكن هناك معجزة أعظم مما ذكرنا، وهي التي تتمثل في أن القدَر أراد ان يجمع هذين الرجلين في نفس المستوى الحكمي وفي نفس الظروف السياسية المأساوية. ولكنه حكَم ان يقوم كل منهما بدور يناقض الدور الآخر بصورة “مطلقة”. من جهة أولى، هذه يد بيضاء لا غبار عليها، ومن جهة أخرى، هذه يد ملطخة بالدماء وبآثار ما مارست من نقود وسبائك من المعادن الثمينة الملوثة والوسخة. لا سبيل الى التوفيق بينهما، والحال انهما يتظاهران بالدعوة لـ”الحوار” و”الوفاق”…. لكن، أي “حوار”، واي “وفاق” هما يعنيان؟ – إنما هذه هي المغالطة الكبرى والمخادعة العظمى. فلقد عطّلا بصورة “مطلقة” الدستور بأكمله، واصبح كلاهما يغوص في بحر اللاقانون واللادستور وبلا أمل غير اقتراف جريمة هَتك الدستور الذي اقسم كلاهما على المصحف الشريف على احترامه الكامل، بل وأغرب من ذلك، فلقد خرج احدهم بالرجوع الى دستور 1959…: فقلنا: ولماذا لا نرجع الى “دستور قرطاج”، الذي قال عنه “أرسطو” – وما ادراك ما “أرسطو” – الخير الكثير؟؟ – فبهذا الاقتراح الهزلي والطريف 1959، تأكد اننا خرجنا من النظام الدستوري نهائيا وبلا رجعة، وأننا دخلنا في عالم المكروه اللاقانوني البحت…. لكن، في هذه الحال، سيتحتم على الرجلين ان يقوما بتصفية الحسابات بينهما، وتصفية الحسابات هذه هي بمثابة حرب ضروس قد تؤول بهذا البلد البائس الى وضع سياسي واقتصادي واجتماعي أكثر بؤسا وشناعة….
*- ولا ننسى ان بين الرجلين، شريكا ثالثا وُضع في موضع “البيدق” الذي يهتز دوما وبلا هوادة وبلا فائدة تذكر لأنه قدّر عليه القدر ان يتعرض الى عداوة أحد الرجلين إما تناوبيا وإما جماعيا. ولقد تكررت هذه المهزلة أربع مرات متتالية ودون أي تغيير ودون ان يفهم المعنيّ بالأمر أن الحل في المأساة ليس بيده وأنه لا يكمن في اكتسابه المهارة الكافية في التلاعب والمراوغة بين الرئيسين، وأن الحل يكمن في المراجعة المسبقة للمعادلة المؤسساتية للعلاقات بين ثلاثتهم، وهذا ما لا يتسنى الا في مستقبل بعيد وفي ظروف لا قدرة له عليها…. في الأثناء، ما عليه الا ان يقوم بدور “كبش الفداء”، وبكامل فروضاته….
**- إذا أوجزنا ولخّصنا، قلنا ما يلي: 1- البلاد محصورة في عنق الزجاجة، ولا افراج عنها الا بكسر الزجاجة…. وكسر الزجاجة لا يتسنى بالترميم ولا بالترقيع، ولكن بالتعويض والتجديد، لا غير. لهذا، واعتبارا لأن الشرعية الدستورية قد انهارت واضمحلت بلا رجعة، واعتبارا لأن الماء والنار لا يمتزجان، فلم يبق من حل الا الفصل بينهما وإعادة التركيبة المؤسساتية، لا على الأسس الهزيلة والمغشوشة القائمة اليوم، وإنما على أسس سليمة ونظيفة وقوية.
2- لا جدال في ان هذا التحول الجذري لن يحصل الا بالمرور بمرحلة انتقالية، لنا عهد بمثلها غير بعيد، ولا بأس في الرجوع اليها، لكن بشرط تجنّب ما ارتكبنا من اخطاء وزلات في الماضي….
3- كما حصل منذ الماضي البعيد، فإن في طبيعة الأمور الّا ينشأ الشيء الجديد الا بهدم الشيء القديم، وهذا يعني ان الهدم يمر ضرورةً بتصفية ما سبق من حسابات، مهما كان ذلك مؤلما لبعضهم. ولا يكون ذلك الا بفسخ التجاوزات وبردع المظالم وبتعديل التوازنات: فتلك هي سُنّة الله في خلقه، “ولن تجد لسنة الله تبديلا” (33، 62).
4- اعتبارا لما اسبقنا من أنه بفعل الحاكمين الحاليين، لم تبق هناك اية مشروعية دستورية لفائدة أي أحد في النظام الحالي، فإن إعادة بناء الهرم يرجع حصرا الى “الربع السليم” من هذه الأمة. وفي تقديرنا، “الربع السليم” هو ذلك الذي انقذ البلاد من الكارثة المحدقة بها في ذلك الزمن ورزقها احتراما واجلالا في مشارق الأرض ومغاربها، وبذلك يحقّ له ان يحرز على اعلى شهادة اعتبار وتقدير في العالم. وبناء على ذلك واعتبارا الى ان من انجز معجزة يوما، لن تعوقه القدرة والشجاعة عن انجاز معجزات أكبر وأثمن…. ولا نتصور ان من ضل وافسد وغوى سيجد القدرة الكافية على الاعتراض والتعطيل….
نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 29 جوان 2021