الشارع المغاربي – لا جدوى من حوار المغالبة !/ بقلم : العميد الصادق بلعيد

لا جدوى من حوار المغالبة !/ بقلم : العميد الصادق بلعيد

قسم الأخبار

26 يونيو، 2021

الشارع المغاربي: هل من جديد بعد تصريح رئيس الدولة عند لقائه ببعض الشخصيات السياسة يوم الأربعاء الفارط؟ – هل من أمل حقا في حلحلة الأمور وفي الخروج بالبلد من الحضيض، وفي أن يُسعف القدر هذا الشعب المنكوب بإخراجه من الورطة التي أغرق فيها منذ ما يزيد من عشر سنوات؟ – هذا السؤال المفصلي يراود قلوبَ التونسيين جميعا اليوم وقبله منذ سنين عديدة فتزداد معه الحيرة بأكثر قوة كل مرة تخيب فيها الآمال بعد انهيار الحكومات الفاشلة وتتبخر معها ما ثبت أنها وعود كاذبة كسابقاتها من الوعود. – والسؤال اليوم – وهو ليس بجديد – هو: هل حقا هذا اليوم هو يوم الصدق والجدّية؟ – وهل حقا يجب منح الثقة لأولئك الذين مارسوا الحكم بالتداول في ما بينهم منذ ما يزيد عن عشر سنوات وبنفس الإنجازات الكارثية؟ – نحن نأسف بأن نجيب بالنفي القاطع، للأسباب التالية.

1 – حوار في مناخ مكهرب غير ملائم

بعد أمد بعيد، ها قد أصبح كلهم ينادي بوجوب فتح “الحوار” بقصد الإصلاح والنهوض بالبلد نحو التصالح والتآزر والتضامن بين جميع الأطراف وبين جميع الاتجاهات. لكن ما لا يُطَمئن على جدّية هذا الكلام هو انه حصل في مناخ متناقض ومكهرب ومُثقل بالاتهامات والاتهامات المضادة بتجاوز البعض صلاحيات البعض الآخر وبالتآمر مع القوات الأجنبية وغير ذلك من المعاملات غير المألوفة في البلاد المتحضرة وفي الأعراف السياسية والديبلوماسية المتعارف عليها عند جميع الدول المتقدمة.

بل وأكثر من ذلك: فقد تكاثر الكلام عن “الحوار” وعن “جلوس الجماعة الى الطاولة” للتصالح في حين أنّنا نرى يوميا نفس الأطراف الحكمية تتبادل الشَتم والتراشق بالأوصاف غير المقبولة ويتجاسر كل واحد منها على التدخل في ميدان سلطة الآخر ويُقدم بلا مبالاة على عرقلة صلاحيات السلط الأخرى وعلى تعطيل سير الهيكل الحكومي والإداري للدولة بأكمله. وما زاد في الطين بلّة هي التصريحات العلنية التي تدّعي اكتشاف مؤامرة اغتيال ضد شخص السلطة الأولى في البلاد، أي رئيس الدولة بذاته، من جهة، ومن جهة أخرى، تزامن هذا الإعلان مع الإعلان عن اكتشاف مؤامرة ثانية ترمي الى اغتيال رئيس مجلس النواب، السلطة الثانية في البلاد، بذاته. الكل يذكر الاغتيالات السياسية والجرائم العديدة التي ذهب ضحيتها الكثير من أبناء هذا البلد البرَرَة ولم تشأ الاقدار الى حد اليوم الكشف عن هذه الفضائح وعن ملاحقة كل مقترفيها، ولَكأنه كُتب على هذه “الثورة” التي كتب لها ان بدأت دخولَها في التاريخ بالدماء والقتل والمظالم، ان تعرف نفس المَآل في آخر مطافها وان تخرج من التاريخ بنفس المظالم وبنفس الجرائم، ربما هي التي توعّدت بها بعض الرؤوس السخنة هذا الشعب المسالم…

2 – صورة “العقد الفريد” التذكارية

من بين المضحكات التي تُعرض على أنظار الناس فيشمئزون منها ويستنكفون عنها، تلك الصورة للقاء رئاسي جمعه مع بعض من تقلدوا أعلى الوظائف السياسية في الماضي القريب وفشلوا في أدائهم الفشل الرهيب. ولسائل ان يتساءل ما هي رمزية صورة هذا “العقد الفريد” وكيف تُقرأ، وما هو معناها؟ – ربما كان رئيس الدولة يعني جمع ثلاثة رؤساء حكومة فشلوا في السابق الفشل الذريع فشاء الا ان يخرجهم من النسيان ولو للحظة واحدة ليوعز الى خلفهم بأن فشله قد بات كمثلهم من تحصيل الحاصل وبأن مآله سيكون كمآل من سبقه في هذه المهمة الحُكمية التي تجاوزت قدراتهم. لكن هلاّ يجوز النظر الى هذه الصورة وكأنها شاهد على فشل جماعي لكل من ظهر فيها، السابق والحاضر منهم؟ – إن الدليل على سلامة هذا التأويل هو أن رئيس الدولة، نفسه، طرح فكرة الرجوع الى دستور 1959 ولو كان ذلك بعد ترميمه كأداة سريعة وسلسة للخروج من مستنقع دستور 2014 الذي غرق فيه جميع السياسيين في البلاد كغرق جنود فرعون في البحر فلم ينجُ منهم احد.

3 – أي جدوى من “حوار بين الطرشان”؟

الجميع يتكالب لانتزاع فكرة “الحوار” والاستفراد بها وكأن فيها سر النجاح والفوز بمهمة انقاذ البلاد من الطامة الكبرى ومن المأساة المؤلمة التي يعيشها هذا الشعب الكريم. “الحوار” بين من ومن؟ – ألا تعرف كل الأطراف بعضها البعض؟ – الا يعلم كل منهم ما يعلم الآخر وما يعلم الآخر عنهم؟ – ألم تحصل في الماضي القريب مثل هذه المحادثات التي وقع فيها اتفاق بين الجميع على 63 نقطة او ما يقارب، وأُرجأ الحديث حول نقطة واحدة ؟ – ألم يعيدوا الكرة بعد حين وكلّلت جهودهم بنفس الفشل وبنفس الخيبة النكراء؟ – هل بادر أي منهم بالعمل على جمع القوى الحزبية المتقاربة لتكوين جبهة متماسكة وقوية وبإمكانها ترجيح الكفة نحو هذا الاتجاه او ذاك ؟ – ثم حول ماذا سيدور هذا “الحوار” وما سيرمي اليه من اهداف؟ وما قد ستكون هذه الأهداف حقا: هل هي ستنظر الى الواقع المأساوي للبلاد وتتعهد بقسَم اليمين بإنجاز ما يستلزم الوضع من اعمال وقرارات واقعية وفعالة ؟ إن كان ذلك حقا ما هم يعتزمون إنجازه، فلماذا لم يفُه واحد منهم بكلمة واحدة حول اقتراحاته ومشاريعه وحول استعداده للإسهام في تحقيق ذلك بالتقارب مع اصحاب النوايا الصادقة مثله والإقدام على التآلف والتضامن معهم في سبيل انجاز هذه الأهداف الطيبة ؟

إنما الحقيقة كل الحقيقة هي غير ذلك تماما: الحقيقة هي ان “‘الحوار” لن يتعلق بما يهم “الصالح العام” وبالعمل لخير البلاد؛ فلو كان ذلك حقا ما يعتزم كل الأطراف فعله، لكانوا قد أفصحوا عن ذلك منذ زمان ولَكان البعض منهم، إن كانوا صادقين، قد خرجوا على المجموعة التائهة وتبرؤوا منها ولَكانوا أعلنوا ما هم عازمون على إنجازه وما هم مستعدون للقيام به من تحركات ومبادرات. بل كلهم صُم بُكمٌ فهم لا ينطقون. وكما في الماضي، وفي صورة التأم هذا المجمع، فإنّا لن نرى سوى تبادل الخطابات الفارغة تليها الاتهامات المتبادلة حالما يتبين لتلك الأطراف او تلك الأخرى ان اتجاه الريح تبدل وان الانسحاب من المجمع قد يكون أفضل وأسلم.

4 – الحلقة المفرغة

من سوء حظ هذا البلد انه، إن هو أتحف بـ”أحسن دستور في العالم”، فإنه لم يتفطن الى ان هذا الدستور لا يمكن تحويره الا بالرجوع الى الهيئة الحافظة له، أي المحكمة الدستورية هذا من جهة أولى. لكن، ومن جهة ثانية، هذا الهيكل الدستوري غير موجود اليوم، فقد عرقلت بعثَه اطراف مختلفة:

• أطراف حزبية: حيث تناست أحزاب الأغلبية لمدة ست سنوات وجوب إتمام شروط إرساء هذه المحكمة العليا وتفعيل احكامها لخوفها من أن تُفلت السلطة السياسية من أيديها لفائدة سلطة قضائية، هي الأعلى والصارمة.

• سلطة فردية: هي رئاسة الدولة، السلطة السياسية الأعلى، وقد أنيطت حصريا بمهمة أساسية، هي السهر على إرساء هذه الهيئة القضائية العليا بعد اكتمال كل الشروط لذلك، من بينها شرط لا يُعقل ان يكون قد غاب عنها، ألا وهو احترام الشرط الزمني (خصوصا، الفصل 148،الفقرة 5): فإن كان من المشروع تحميل المجلس التشريعي مسؤولية التلاعب بأحكام الدستور في ما يخص المحكمة الدستورية– وأكثرهم لتلك الاحكام جاهلون أو متجاهلون -، فإن الأمر لا ينطبق على مدرس في القانون الدستوري سابقا نصّب نفسه المترجم/المفتي الأعلى للدستور. فمسئوليته اكبر باعتبار انه كان عليه مراعاةً لهَيبة الدستور ان ينبه الجميع الى وجوب احترام المواعيد الزمنية وتحميل كل مسؤول كامل مسؤوليته إن لم يفعل: فإن لم يقم الرئيس بذلك الواجب، فإنه تعدى على القانون وأهمل إحدى مهامه الدستورية، فينتج عن ذلك ان لا حق له في ان يتحجج بنسيانه لذلك الواجب، إن لم نقل إنه كانت له نية مبيتة للمغالطة التي تسببت في اختلاق ازمة دستورية لسنا في حاجة اليها.

وبما ان جهل الطرف التشريعي وعدم اكتراثه بمسؤوليته في هذا المجال، من جهة، وبما أن الطرف الرئاسي لا يقلُّ مسؤوليةً عن الأول باعتبار تصرفه المتمثل في أنه “حفر جبّا لأخيه فوقع فيه”، فإن النتيجة النهائية هي ان الدستور الحالي أصبح نهائيا هيكلا منغلقا على نفسه ومجمّدا، فلا يمكن ان يفعّل بصورة مشروعة، ولا يجوز ايّ تحوير فيه، وبذلك فإن الطرفين المذكورين أصبحا مكتوفيْ الأيدي ولا يتسنّى لأي منهما التدخل في المجال الدستوري الا بإقدامه على خرق سافر للدستور وعلى نقض احكامه: فهنيئا لهما جميعا…

5 – من أفسد غير قادر على أن يُصلح

يجمع كل الملاحظين داخل البلاد وخارجها على ان السياسات – إن كان لنا حَقًّا ان نسمي ذلك “سياسة” – المتبعة منذ أكثر من عشر سنوات كانت فاشلة. فزيادة على انها لم تأت بأي خير لهذا الشعب المظلوم فإنها اكثر من ذلك اثقلته بديون جسيمة لا تحتمل، بل وقد آن أوان تسديدها وما بيد ذلك الشعب من حيلة لمواجهة تلك الاستحقاقات المهولة، فيصبح بذلك مكبّلا بمصيبتين اثنين لا طاقة له عليهما وما له عليهما من سلطان: مصيبة الفشل الاقتصادي الرهيب والأزمة الاجتماعية العميقة التي سيعاني منها الجميع لمدة عشرات السنين، ومصيبة الديون المرهقة والمواعيد القهرية التي لا تقل عبأ ولا تقل بؤسا، والتي لا فقط سيتحمل ثقلها الجيل المنكوب الحالي، بل وإنه سيمرر منه قسم لا يقل ثقلا من الأول الى من سيخلفهم من الأجيال المقبلة.

نحن نعلن باسم هذا المواطن التونسي المنكوب أمرين: أولا: نطالب بمساءلة الحاكمين في مسؤوليتهم عن هذه المأساة الجلل ونطالب بمقاضاتهم وبمعاقبتهم بما جاء به التشريع التونسي من احكام وعقوبات. ثانيا: نحن نتبّرأ من كل محاولة لبعث “حوار وطني” مهما كان تنظيمه ومأتاه يشارك فيه من أفسد وشارك في افساد الوضع العام للبلاد وادعى أنه جاء بالإصلاح والمساعدة على انجازه. فلقد برهن الفاسدون والمُفسدون بما فيه الكفاية عن فسادهم وافسادهم فلا يعقل ان يثق فيهم احد. فلقد قال الحكماء القدامى: “لا يلدغ العاقل من جحر مرتين”.

وإنا نعتبر ان تسرُّب المفسدين بين المشاركين في مشروع “الحوار الوطني” يمثل خطرا جسيما على مستقبل البلاد، خاصة انهم اقاموا بفشلهم الذريع الحجة على انهم غير قادرين على الإصلاح. بل وأكثر من ذلك، فإن هؤلاء المفسدين إنما اندسوا في مشروع “الحوار” لا لشيء الا بقصد التغطية على فعلتهم وعلى اجرامهم في حق هذا الشعب المظلوم.

كما إنّا نحذّر من مغبة الوثوق في من يتكلمون علنا عن مشاريع ووعود هي مجهولة للجميع ويستفرد صاحبها بعلمها وبحفظها الى ان يأتي اجل مسمى للإعلان عنها ولتفسيرها: فلقد فات زمن الأنبياء والمُلهمين والشعراء؛ فنحن اليوم في عصر السياسة، لا في عصر الوحي والالهام؛ ونقول لكلا الطرفين إن أهل العقل لا يثقون في من ادّعى وكذب ولا في من اخفى وكتم.

صدر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر بتاريخ الثلاثاء 22 جوان 2021


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING