الشارع المغاربي: صحيح أنّ “الجمهور” الواسع اكتشف محسن مرزوق بعد 14 جانفي 2011، لكنّه كان في الواقع منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي يشتغل بعدّة منظّمات دوليّة وأقام خارج تونس.
سنة 2011، عاد لتونس وكان عضوا بالهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإنتقال الديمقراطي (ما بات معروفا بهيئة ابن عاشور) وبالتّوازي مع ذلك اقترب من المرحوم الباجي قائد السّبسي، رئيس الحكومة المؤقّتة آنذاك، ليكون لاحقا أحد مؤسّسي حزب “نداء تونس” وعضوا بهيئته التّأسيسيّة ومكتبه التّنفيذي مكلّفا بالعلاقات الخارجيّة.
محسن مرزوق كان أيضا مدير حملة المرحوم الباجي قائد السّبسي وعُيِّن بعد ذلك وزيرا مستشارا سياسيًّا بديوان رئيس الجمهوريّة، منصب شغِله من جانفي 2015 إلى جويلية من نفس السّنة. بالتّوازي، خلف محسن مرزوق الطيّب البكوش في الأمانة العامّة لنداء تونس لكنّ “مقامه” في قيادة حزب الرّئيس الرّاحل لم يطل بسبب خلافات مع نجل الرّئيس الرّاحل ومدير ديوانه.
خلال الثّلاثي الأوّل من السنة الموالية (2016)، أسّس حزبه “مشروع تونس” وانتُخِب أمينا عاما له وحافظ على الأمانة العامّة حتّى أواسط سنة 2019 ليصبح رئيسا للحزب ثمّ مرشّحا للرّئاسيّة السّابقة لأوانها بعد وفاة الرئيس الباجي قائد السّبسي رحمه اللّه لينسحب من السّباق يوم 13 سبتمبر ويدعو للتّصويت لفائدة المرشّح عبد الكريم الزّبيدي.
هذا التّذكير الموجز بمسيرة محسن مرزوق يظهر بوضوح تواصل نشاطه داخل تونس، وهي الفترة التي شملتها وثائق باناما ومؤخّرا وثائق باندورا.
ورغم أنّ السّاحة السّياسيّة التّونسيّة تشهد بشكل شبه يومي تأسيس أحزاب وعقد تحالفات مقابل إنفراط تحالفات وأفول زعامات وصعود أسماء جديدة، فإنّ إسم محسن مرزوق يبقى”لافتا” لوروده في أكثر من مناسبة ضمن قائمة الشخصيّات التي شملتها تحقيقات صحفيّة دوليّة تتعلّق بإمتلاك شركات بجنّات ضريبيّة.
إضافة إلى ذلك ، ذكر لزهر العكرمي مؤخّرا في إحدى الإذاعات وفي معرض حديثه عن الدّعوة التي تقدّم بها للقضاء بخصوص التّمويلات الأجنبيّة ومآلاتها لحزب نداء تونس، إسم محسن مرزوق كواحد ممن إستفادوا من هذه التمويلات بالعملة الصّعبة…
اللّافت أيضا أنّ حديث لزهر العكرمي يتعلّق أيضا بنفس الفترة الزمنيّة وما تواتر من أخبار عن هبات دولة خليجيّة لحزب الرّئيس الرّاحل الباجي قائد السّبسي قال انه إستفاد منها عدد من المُقرّبين من الباجي عائليّا وسياسيّا وانه تقدّم الآن بشكاية للقضاء لأنّه توفّرت لديه “دلائل” على تملّك هؤلاء عقارات بالخارج وذكر منها بعض العناوين بباريس…
وثائق باندورا وقبلها وثائق بانما وتصريحات لزهر العكرمي كلّها، وبقطع النّظر عن مدى صدقيّتها، تثير أكثر من تساؤل حول طريقة إدارة محسن مرزوق مسيرته المتأرجحة بين “الخبير الدّولي” والسّياسي الذي تحمّل مسؤوليّات هامّة في رئاسة الجمهوريّة ثمّ أسّس حزبا في تونس تقدّم به للمحطّات الإنتخابيّة المختلفة ومنها الرّئاسيّة.
عندما نُشر إسمه ضمن تحقيق “وثائق باناما” ردّ محسن مرزوق بالإنكار جملة وتفصيلا ورفع شكاية. أمّا بخصوص وثائق باندورا، فقد أقرّ مرزوق بوجود شركة باسمه، شركة أغلقها وتؤكّد الوثائق المنشورة بالتّحقيق المذكور ذلك… لكن المسألة تتعلّق بالمبدأ: كيف يلجأ رجل سياسة من الصفّ الأوّل لممارسة من هذا القبيل؟
مفهوم أن تكون لخبير دولي مداخيل بالعملات الأجنبيّة وأن تكون له حسابات بنكيّة بالخارج لكن أن يلجأ لإستثمار تلك المداخيل في شركات ما يعرف بجنّات ضريبيّة يتأسّس عملها على مبدأ إنعدام الشّفافيّة وصعوبة الولوج للمعلومات المتعلّقة بمالكيها ومديريها ومصادر تمويلها فهذا أمر يثير شّكا يصل الى حدود الريبة.
هذه الشركات تعمل على قاعدة إعفاء المرابيح من أيّة ضرائب وبالأدنى التّقليل منها وهي ممارسات مدانة في كلّ البلدان التي تجعل من دفع الضّرائب واجبا مواطنيا ويُعتَبَر المتهرّب منها مارقا.
من يتصفّح قائمة الأسماء الواردة في وثائق باندورا، يتبيّن أنّها (غالبا) من بلدان ليست في مقدّمة البلدان المعروفة بحوكمتها وشفافيّتها وحتّى ديمقراطيّتها.
من ألمانيا مثلا، لا يوجد إلّا إسم واحد لعارضة أزياء سابقة بينما نجد رؤساء وملوكا ومسؤولين أُوّل ببلدان تشكو شعوبها من الفقر والخصاصة وميزانيّات دولها تعيش أوضاعا صعبة أو حتّى مُفلسة !
التحقيقات التي نشرت تحت تسمية “وثائق باندورا” تُعرّي، بلا أدنى شكّ، الكثير من ممارسات عدد من الشّخصيّات المعروفة حول العالم، منهم نجوم فنّ ورياضة وأصحاب شركات ومؤسّسات وسياسيّين تحمّلوا مسؤوليّات سابقا (توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق) وفيهم من لا يزال على رأس حكومات ودول، وفيهم من مازال “يبحث”عن حلول للأوضاع المتردّية في بلدانهم وهم “يعطون المثل” بالإستثمار في جنّات ضريبيّة !
في الأسطورة اليونانيّة، صندوق حُمل بواسطة باندورا (أوّل إمرأة أنزلها الإله زوس على الأرض بعد أن صنعها في أحسن صورة ومنحها عددا من الصّفات كالفصاحة..) يتضمن كل شرور البشرية من جشع وغرور وافتراء وكذب وحسد ووهن ووقاحة !
في واقع الحال، قد تكون لوثائق باندورا تبعات في بلدان عديدة تعاني من وضع إقتصادي ومالي متأزّم لتعلّقها بمسؤولين حاليّين (لبنان مثلا). وبالنّسبة لمحسن مرزوق، وإن لم يكن في دفّة الحكم، فهو يضع نفسه وحزبه في وضع غير مريح خاصّة في هذه المرحلة التي يزداد فيها النّفور من العمل الحزبي بل وحتى تصاعد اصوات تنادي بنفي ضرورة وجود أحزاب أصلا.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 12 اكتوبر 2021