الشارع المغاربي-أنس الشابي: تُشرف وزارة الشؤون الدينية على الخطاب الديني الذي تبثه وسائل الإعلام الرسميّة من ناحيتي اختيار الخطيب والموضوع، والذي يمكن ملاحظته أن الخطاب الذي تروّج له هذه المؤسسة يزداد يوما بعد يوم في الابتعاد عن قيم العصر والإغراق في الخرافات والخزعبلات والغرائب التي تستهدف إرضاء العوام. ففي الفترة الماضية شاهدنا برنامجا أذيع في القناة الأولى تحدّث فيه أصحابه عن جذع الشجرة الذي بكى والضبّ الذي تكلّم وغير ذلك ممّا لا يصدقه عقل وممّا يرفضه الدين نفسه، وسوف نأتي على ذلك بالتفصيل لاحقا.
يقوم الخطاب الرسمي لوزارة الشؤون الدينيّة على قاعدتين لا محيد عنهما هما:
القاعدة الأولى:
الإصرار على لبس جُبيّبات وكُشيّطات حتى يظهر المتحدّثون في البرامج الدينيّة في هيئة قدماء شيوخ جامع الزيتونة متشبّهين في ذلك بأزاهرة مصر الذين يلبسون زيًّا خاصا، وغاب عنهم أن هذا الزيّ تفرضه طبيعة الأشياء في مصر وانه مقابل الكنيسة ولباس القساوسة والكهنة الأقباط وجب أن تكون للمسلمين كذلك “كنيستهم” ممثلة في الأزهر ولباس للمنتسبين اليه يسمى الكاكولة. أما في تونس فالأمر مختلف تماما لأن الجبّة التي يلبسها كبار الشيوخ في الزيتونة ونشاهدها في صورهم القديمة إنما هي لباس تقليدي متاح لكلّ تونسي ولا يحمل أي معنى ديني. فالجبة ليست حكرا عليهم أو من خصوصياتهم بل نجدها حاضرة في كل المناسبات والمهن ويرتديها الجميع أيا كانت مهنهم وأوضاعهم الاجتماعية. هذا المعنى لم أتوقف عن ذكره والتنبيه إلى خطورته حتى لا تصبح الجبّة بحضورها المتواتر في الأحاديث الدينيّة مدخلا لإضافة نوع من القدسيّة تمنع الآخرين عن نقد لابسها. هذا المعنى نبّهت إليه في نقاش دار بيني وبين رئيس جامعة الزيتونة هشام قريسة على صفحات جريدة “الصباح” فكتب ردًّا على ما قلت، ولكنه أكد من حيث أراد النفي ما ذهبتُ إليه عندما قال: “ولكن القصد منها (يقصد الجبيبات والكشيطات) شيء واحد… لتقوية مرجعيّتنا الدينيّة وخلق نوع من الاطمئنان إلى كلامنا عند الناس”(1) وهو ما يعني:
1) الاعتراف بأنه وجماعة الشؤون الدينيّة يلبسون الجبيبات والكشيطات للتحيّل على العامة وإيهامهم بما ليس فيهم، ويصل الأمر مداه في السفه لمّا يلبس هؤلاء جبة بالشمس وهي التي كان يتفرّد بارتدائها كبار الشيوخ من شيوخ إسلام ومفتين وقضاة ومدرّسين من وزن محمد الطاهر ابن عاشور وابنه محمد الفاضل ومحمد العزيز جعيط والطيّب سيالة وعثمان بن المكي برد الله ثراهم. لهذا السبب بالذات يصرّ هؤلاء الذين يتحدثون في المسائل الدينية في التلفزات والإذاعات على ارتداء الجبيبات وتوابعها معتقدين أنهم بذلك يخفون الجهالات التي ينشرونها.
2) الاعتراف بأن خطابهم عاجز عن الإقناع وعن الاستجابة لأبسط مقوّمات العصر ولذلك يلجؤون إلى عكاكيز إسناد لإيهام الناس بوجود مرجعيّات دينية يُلجأ إليها والحال أنه لا علاقة لأغلب الذين يتصدّرون المشهد الديني اليوم بالمعارف الدينيّة لأننا لم نقرأ لهم اجتهادا أو رأيا أو تعقيبا يُعتدّ به رغم كثرتهم العدديّة ولكنها كثرة كغثاء السيل، كل ما هناك جبيبة وكشيطة وكفى الله المؤمنين شرّ السؤال. فقد قال ابن أبي الضياف في وصف حال هؤلاء بأن: “رأس مال المفلس التصنّع في اللباس”(2).
القاعدة الثانية:
حتى تكتمل عملية التحيّل على المؤمنين البسطاء في شعبويّة مقيتة وجاهلة جهولة يقع الالتجاء إلى إغراب السامعين والإتيان بِما لا يصدّقه عقل من ذلك حديث الشجر والضبّ وغير ذلك من افتراءات وأكاذيب أهل الحديث وتلفيقاتهم. هذه المرويّات التي دأبت وزارة الشؤون الدينيّة على الاستشهاد بها في محاولة منها لإثبات ما لا يثبت واقعا وعقلا يرفضها قسم كبير من كبار العلماء والأيمة ممّن يُحتج بهم وذلك بردّها إلى عللها الطبيعية وأسباب اختلاقها. فقديما نجد القاضي عبد الجبار وأبو علي وأبو هاشم الجبائي وابراهيم ابن سيار النظّام وحديثا محمد عابد الجابري وغيرهم. في هذا المعنى يقول علي فهمي خشيم: “فقد اعتبر المعتزلة القرآن المعجزة الوحيدة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم ويمكن الاعتماد عليها في مواجهة المخالفين. أما ما عداه من خوارق الطبيعة فهي –كما يقول قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد- معجزات لشرح صدور المؤمنين ولا يتقبّلها المعاندون فلا تقوم حجّة”(3) مضيفا إلى ذلك قوله: “أما مسألة المعجزات ووقوعها على يدي النبي فإن أغلب قدماء المعتزلة قد أنكروا ذلك وأكذبوا من رواها ولم يعترفوا بغير القرآن الكريم معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، ونفوا كل ما قيل عن انشقاق القمر وحنين الجذع وكلام الحصى والحمل المشوي والظبية وتحرّك الشجرة ونبع الماء من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم، إلى آخر هذه الروايات”(4). وفي دراسة أخرى للدكتور عصام الدين محمد علي عن المعتزلة ورد ما يلي: “ولقد أنكر البعض ظهور معجزة انشقاق القمر هذه، واستدلّوا على ذلك بأن ذلك لو كان حدث بالفعل لكان ظاهرا للعيان كلّه ولوجب أن يكون نقله ظاهرا على خلاف ذلك الوجه الذي نُقل عليه، لأنه أمر يتبيّن بمشاهدة كافة الناس ولا يقع فيه اختصاص”(5). واللافت للانتباه أن القدامى في درسهم مسألة الإعجاز في القرآن ذهبوا مذاهب شتى. يقول عبد الهادي أبو ريدة في دراسة هامّة له عن إبراهيم بن سيّار النظّام: “وذهبت طائفة إلى أن إعجازه (القرآن) بالصَّرفة أي أن الله صرفهم عن معارضته والإتيان بمثله قبل التحدي مع قدرتهم على ذلك واختلف هؤلاء في وجه الصَّرفة، فذهب أبو إسحاق من الأشاعرة والنظّام من المعتزلة إلى أن الله صرفهم بأن صرف دواعيهم إلى المعارضة مع توفّر الأسباب الداعية إلى المعارضة خصوصا بعد التحدي والتبكيت بالعجز. وقال الشريف المرتضى من الشيعة إن الله صرفهم بأن سلبهم العلوم التي يحتاجون إليها في المعارضة”(6) الأمر الذي يعني أن الإعجاز ليس من ذات النصّ القرآني مثلما يذهب إلى ذلك الكثرة بل من صرف الناس وإبعادهم ومنعهم عن الإتيان بمثله. هكذا يتحدّث علماء الأمة عن المعجزات ومن بينها القرآن في محاولة منهم لنزع كل ما هو غريب لا تستسيغه العقول السليمة وترفضه الطبائع النقية المبرّأة من الطمع والشهوات، ولكن لوزارة الشؤون الدينية لدينا رأي آخر يتمثل في الإصرار على نشر الجهالة وكل ما يناقض العلم والمعارف الإنسانية وما استقر في الأنفس والعقول وأكّدته التجربة والاختبار اتساقا مع الفصل الخامس من دستور 2022.
الهوامش
1) جريدة الصباح بتاريخ 3 أوت 2018.
2) الإتحاف لابن أبي الضياف ج 8 ص 167.
3) “الجبائيان أبوعلي وأبوهاشم” علي فهمي أبو خشيم، دار مكتبة الفكر، طرابلس ليبيا 1986، الطبعة الأولى ص214.
4) المصدر السابق ص253.
5) “المعتزلة فرسان علم الكلام” الدكتور عصام الدين محمد علي، الناشر منشأة المعارف بالإسكندرية 1996، ص286 و287.
6) “إبراهيم بن سيّار النظام وآراؤه الكلامية والفلسفية” محمد عبد الهادي أبوريدة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1946، ص42.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 اكتوبر 2022