الشارع المغاربي: بمناسبة صدور نتائج آخر سبر للآراء حول الانتخابات الرئاسية احتد الجدل وانسابت التساولات حول مصداقية عمليات سبر الآراء في بلادنا ومدى تطابقها مع الواقع. كما تعالت عديد الأصوات منادية بتقنين عمل هذه الشركات.
لقد كان لصعود أو تصعيد، مغني الراب كريم الغربي المعروف بكادوريم الأثر الكبير في ردود الفعل هذه التي ملأت الفضائين الاتصالي والافتراضي طوال الأسبوع المنقضي قبل أن تطويها داخليا الاعتقالات الأخيرة وخارجيا الزلزال في تركيا وشمال سوريا وما خلفا من موت ودمار.
وبالرجوع إلى مسألة سبر الآراء السياسية في تونس، نجد أنها كانت دائما مثيرة لعديد الردود الغاضبة والمنتقدة والمعارضة. ولفهم هذه الردود يجب التسليم بأمرين إثنين. أما الأمر الأول فهو أن المسألة مهما بدت تقنية وحسابية إحصائية هي في جوهرها وكنهها سياسية اجتماعية حتى وإن تلحفت بالأرقام. أما الأمر الثاني فهو غياب أدنى إطار قانوني يمكّن من التأطير والإعتراض والمراقبة والمتابعة إذا استثنينا حق الولوج الى المعلومة وهو غير مطابق لطبيعة عمليات سبر الآراء.
وبلغة أكثر بساطة، كيف يمكن لهذه الوكالات عرض شخصيات غير سياسية على “القيس السياسي” في حين لم نسمع منها أدنى موقف سياسي! وكيف تعرض شخصيات سياسية على “القيس الرئاسي” وهي لم تعلن عن نية ترشحها للسباق الرئاسي!!
ودائما بلغة بسيطة، نستطيع أن نسمى هذا الأمر خلطا. والخلط في هذا المستوى العالي من الحرفية ليس بريئا خاصة عندما يتكرر على امتداد أعوام. فالخلط الحاصل هنا بين الشهرة والقدرة يصبح في نهاية الأمر دفعا لأسماء بعينها في سلّم الشهرة وتكريس أو إيهام بقدرة شخصيات على الرئاسة أو على درء الأخطار… وفي كلا الحالتين يصبح سبر الآراء سلّما للشهرة لا غير أو منصة لإطلاق مرشحين عبر خدمة إسمها صناعة الرأي.
وهنا مكمن كل الإنتقادات والإعتراضات والإتهامات التي توجه الى وكالات سبر الآراء والتي أبرزها وأخطرها هو تحوّل هذه الوكالات الى طرف في اللعبة السياسية وإلى أداة لصناعة الرأي خاصة عندما يبرز للعيان تماهي بعض الوكالات مع السلطة القائمة في كل العهود….
كما لا تصدر هذه الإنتقادات حصريا عن السياسيين والمتحزبين وإنما يقاسمهم فيها أيضا منتجو البرامج التلفزية وأصحاب الإذاعات الذين طالما نددوا بـ “الزبونية والمحسوبية” عند انتقادهم نتائج لم ترضيهم.. ولقد شاهد التونسيون على مدى السنين الأخيرة العلاقة القائمة بين بعض المؤسسات الإعلامية المرئية خاصة والإذاعية ووكالات لسبر الآراء حتى أصبح بعض القائمين على هذه الوكالات دائمي الحضور في المشهد الإعلامي كمحللين سياسيين وهو ما لا نجده في بلدان راسخة في احترام الديمقراطية حيث يمنع التداخل بين السياسي ووكالات سبر الآراء ووسائل الإعلام التجارية وذلك ضمانا لاستحقاقات الثقة والشفافية.
أما على المستوى التقني، فإن هذه الوكالات مطالبة بأن تعمل على عيّنة تضمن أدنى هامش للخطأ، كما أنها ملزمة باجتناب الأسئلة التي تحمل بين طياتها الإجابة كما يتوجب عليها احترام استحقاق الدقة وإمكانية المراقبة البعدية..
إن مطلب تقنين عمل هذه الشركات والوكالات قديم/ جديد . فمنذ سنة 2011 تصاعدت المطالبة بقانون ينظم سبر الآراء في تونس لاحترام كل الضمانات العلمية والاستناد الى مدونة أخلاقية. و يظل الهدف من هذا القانون الذي طال إنتظاره حماية الديمقراطية و “تسييجها ” لأن هذه الوكالات ليست في مأمن من التوظيف السياسي وتوجيه الرأي العام عبر نتائج “مدفوعة الأجر” مثلما يحصل في بلدان أخرى أو عبر أسئلة موجهة أو عبر حصر الاختيار في قائمة محددة من طرف الجهة “السابرة” أو بعد إسقاط بعض الأسماء أو تعويم أسماء أخرى أو تصعيد من لا يريد خوض سباق الرئاسة أو ترذيل بعض الشخصيات السياسية أو تبخيس للاحزاب أو تمجيد وتركيز لأحزاب “افتراضية” خدمة لسلطة قائمة أو تقربا من سلطة قادمة …
ولأن الحقيقة لا تملكها سوى النتائج الرسمية، كان من المفيد لنا جميعا فهم وتفكيك أسباب العزوف القياسية التي عرفتها الانتخابات الأخيرة لإدراك إشكالات المشهد السياسي الحالي عوضاً عن تسويق نتائج لا هي بالمحرار ولا هي بالمرآة لأن هناك أرقاما تثير التساؤلات بقدر ما رافق عمليات سبر الآراء في تونس خلال فترة “الإنتقال الديمقراطي” من رفض و نقد واتهامات بأنها أصبحت سوقا للخدمات ليس فقط في عالم السياسة بل أيضا في المشهد الإعلامي. لذلك لابد من إطار قانوني يضمن الشفافية والحيادية ويتيح المراقبة ويردع المتلاعبين..
وقد سبق لمجموعة من النواب سنة 2016 أن اقترحت مشروع قانون أساسي ينظم القطاع لكنه بقي في رفوف المجلس بلا متابعة بقرار من الكتلة البرلمانية الأغلببة حينها.. كما قدمت الغرفة الوطنية لمكاتب استطلاع الرأي الى الحكومة سنة 2019 مشروع قانون لكنه لم يتم النظر فيه..
وفي الختام يبقى الأمل معقودا لكي يرى هذا القانون النور قبل الاستحقاق الرئاسي لسنة 2024، لأن في غياب هذا القانون يصح مرة أخرى قول الشاعر العربي : ”يسعون حول المرء ما طعموا به
وإذا نبا دهر جفوا وتغيّبوا”.
والسلام
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 14 فيفري 2023