الشارع المغاربي: وترجّل الفارس الهُمام رشيد صفر يوم 20 جويلية 2023 عن عمر يناهز التسعين عاما ودُفن في مسقط رأسه المهدية في مقبرة آل صفر بجانب والده الزعيم المرحوم الطاهر صفر، وقد شيّع جثمانه معزّزا مكرّما بين أهله وأحبابه وبين كلّ من يعترف بفضله على هذا الوطن ممّن عاشروه أو خدموا تحت إمرته أو معه.
ويكفي روحه ذلك!
فالذين أبوا إلاّ أن يشيّعوه في يوم قائظ، إنّما هم المخلصون حقا والأوفياء دوْما الذين لا يعرفون للجُحود سبيلا ولا لِلؤْمِ طريقا، بالرغم من تخلّف البعض متعمّدا عن القيام بالواجب تماما كتعمّد البعض الآخر عدم حضور جنازة والده الزعيم الطاهر صفر في يوم قائظ جدّا، يوم 9 أوت 1942.
ما ضَرَّ السلطة في تونس لو أنّها أقامت جنازة رسمية وطنية لرشيد صفر!؟ ما ضَرَّ السلطة التونسية لو أصدرت بيان نعي رسمي وكلّفت مسؤولا ساميا يمثلها في مراسم الجنازة!؟
ألم يكن هذا الإجراء أو ذاك تأكيدا بإيمانها باستمرارية الدولة وعرفانا بتضحيات أبنائها، أبناء الدولة من أجل رِفْعَتِها وسُؤْدَدها؟ ألم يكن هذا الإجراء على بساطة القيام به لكن مدلوليته كبيرة جدّا، أن يعطي رسالة قويّة إلى كلّ أبناء هذه الدولة بأنّ جهودهم وتضحياتهم لن تذهب سدى وأنّ دولتهم تعترف بالجميل وتردّه لهم عندما يستحقون ذلك؟ ألم يكن هذا الإجراء ذي الرمزية العالية على بساطته بمثابة سحب للبساط من كلّ من يشكّك في ذلك ؟
ويبقى بيان نعي رسمي من رئيس مجلس النواب نقطة الضوء الوحيدة في هذه العَتَمَةِ!
لكن ما هو ذنب رشيد صفر حتى لا تكرّمه دولته وتودّعه إلى مثواه الأخير؟
هل ذنبه أنّه ابن زعيم وطني وسياسي استثنائي هو الطاهر صفر الذي سخّر حياته من أجل تحرير وطنه السليب من براثن الاستعمار الفرنسي؟ إذ لم يكن الطاهر صفر سياسيا فقط بل كان عالما ومصلحا ومفكّرا، ويكفيه فخرا أنّه تنبّأ علميا بحتمية اندحار النازية في أوج قوّتها ولم يمض على اندلاع الحرب العالمية الثانية إلاّ شهر واحد في أكتوبر 1939، فهل هناك من سبقه إلى ذلك في تونس أو في العالم؟!
أم أنّ ذنب رشيد صفر أنّه آلى على نفسه مواصلة الأمانة الوطنية التي حمّله إيّاه والده بالرغم من إدراكه العميق بِحَجْم الجُحُود الذي لاقاه والده من خلاّنه حتى من أبناء بلدته التي سخّر نفسه لهم؟ لكن بالرغم من ذلك، تجاوز هذا الألم الداخلي وسخّر نفسه وجهده لوطنه ولأبناء جلدته، فوهب نفسه لبناء كيان الدولة وتشهد أروقة الوزارات والقصبة ومكاتبهما بهذا الجهد المَحْموم لِعُقُودٍ من أجل النهوض بوطن اسمه تونس وشعبها، ويستذكر كلّ من خدم معه أو تحت إمرته في وزارات عدّة مدى البناء المتين الذي شيّده في كلّ إدارة أو وزارة تحمّلها.
أم أنّ ذنب رشيد صفر أنّه ابن الدولة التونسية البارّ بها و”خادمها” المطيع الذي وهبها كلّ وقته وجهده دون حسابات أو خلفية سياسية أو سياسوية، فالمناصب العليا هي التي تتسابق إليه ولم يكن طامعا فيها بل زاهدا فيها وإن قبل ببعضها فمن باب الواجب الوطني!؟
أم أنّ ذنب رشيد صفر حتى لا يحظى بجنازة رسمية وطنية، وهذا فقط يكفيه فخرا، هو إنقاذه تونس من الإفلاس المالي والاقتصادي عندما عُهدت إليه اضطرارا الوزارة الأولى وكُلّف بإنقاذ الدولة من الانهيار الحتمي في جويلية 1986، إذ كانت خزائن الدولة خاوية وقتها ومدّخرات تونس من العملة الصعبة لا تتجاوز أربعة (04) أيّام فقط!! والحال أنّ هذه المدخّرات إذا ما نزلت من عتبة الـ90 يوما فإنّ ذلك يعني دخول الدولة، أيّة دولة كانت مرحلة الخطر!؟
وقد تمكّن رشيد صفر ومن معه من أبناء الدولة التونسية في ظرف زمني وجيز من تحقيق التوازنات المالية والاقتصادية المطلوبة، وأعادوا عجلة الاقتصاد التونسي على السكّة، هاجسهم الوحيد إنقاذ دولتهم غير مكترثين بالمرّة بما يُعتمل سياسيا تحضيرا لإنهاء حقبة الزعيم الحبيب بورقيبة، فكان جزاؤه جزاء سنّمار!
أم أنّ ذنب رشيد صفر حتى لا يصدر بيان نعي رسمي له، هو تبيّنه – ويكفيه هذا فخرا أيضا- والفريق الذي معه وخاصّة اسماعيل خليل بأنّ المنوال التنموي المعتمد وقتها لم يعد قادرا على أن يعطي أكثر واستُنْفِدَ؟ فاستشرف سنتي 1986 -1987 بأنّه إذا لم يقع تغيير هذا المنوال التنموي، فإنّ تونس قادمة بعد عشرين سنة على انتفاضات احتجاجية، وهذا الذي حدث بداية من أحداث الحوض المنجمي في سنة 2008!
أم أنّ ذنب رشيد صفر يكمن في تمكّنه من إقناع الرئيس الحبيب بورقيبة بوجاهة المخطّط السابع للتنمية الذي اقترحه عليه وأمضاه بورقيبة يوم 25 جويلية 1987 ونشر في الرائد الرسمي التونسي؟ ويقوم هذا المخطّط، الذي سينهي الاختلال بين الجهات، على تقسيم تونس إلى ستة أو سبعة أقاليم تنموية ترتبط جميعها بشبكة متداخلة من الطرقات السيّارة والسكك الحديدية وتعطى الأولوية في التنمية للمناطق الغربية، لكن للأسف وقع التخلّي عن هذا المخطّط عندما تسلّم الرئيس الأسبق بن علي الحكم منذ نوفمبر 1987!
قد يكون ذنْب رشيد صفر هو أنّه خدم بكلّ صدق وإخلاص دولته ووطنه وشعبه وحاول جاهدا استنباط الحلول المناسبة؟ وقد يكون ذنْبه أيضا الذي حُمِّل إيّاه واتُهِم به هو أنّه الابن الشرعي لحركة تحرير وطني حرّرت تونس من ربقة الاستعمار وبَنَتْ كما بَنَى هُوَ معها الدولة الوطنية الحالية؟ وقد يكون ذنْبه الذي حُمِّل إيّاه كذلك دون أن يُفْصَحَ عن ذلك علنا، بل همْسًا، أنّه ينتمي إلى منطقة كانت لها الريادة في تحرير شعبٍ وبناء وطنٍ؟ ولكن، تمّ الدفع بعد 2011 من أجل استبعادها وتهميشها دون أن يقع الإعلان عن ذلك جهرًا وخاصّة دون أن يتمكّن كلّ هؤلاء من تجسيم البديل في حسن التسيير والحوكمة؟
وإذا كان ذنْب رشيد صفر كلّ ما تقدّم، فيكفيه فخْرًا أن حُمّل كلّ هذه الذنوب مُجتمعةً، ويكفيه شرفًا أنّه وُورِيَ الثَرَى في عزّ أهله والأوفياء، ويكْفيه مَجدًا أنّه ستبقى ذكراه راسخةً لدى شعبه بأنّه الرمز الحقيقي لنظافة ذات اليد والتعفف، وبأنّه العدوّ الصادق للمحسوبية والفساد والمحاباة حتى لأهله بل حتى لنفسه… فمعياره الوحيد هي الكفاءة والجدارة لا غير، وسَيُشَار إلى رشيد صفر بالبَنَانِ حتْمًا يوما مَا في الذاكرة الجماعية للتونسيين وفي محكمة التاريخ بأنّه رمز الإخلاص لوطنٍ ولدولةٍ ولشعبٍ إلى مماته.
لكن قد يكون ذنب رشيد صفر أنّ القائمين على السلطة حاليا يجهلون خصاله وأفضاله على هذه الدولة؟ وذلك لأنّه كان يتمسّك دائما بأهداب التواضع وعفّة النفس، وإذا كان ذلك كذلك، فبالإمكان تدارك الأمر حتى لا تتكرّس الفكرة الشائعة بأنّ تونس بلد الجُحُود وهذا ما لا أرجوه حقيقة لوطني تونس!
ما عدا ذلك، رحم الله رشيد صفر ابن الزعيم الطاهر صفر! لقد كان في حَجْمِ وَطَنٍ ومكانة دوْلَةٍ!
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 25 جويلية 2023